مؤلف كتاب quot;الانتلجنسيا الايرانية في القرن العشرينquot; هو الدكتور علي قيصري استاذ مادة التاريخ في جامعة اكسفورد، والاستاذ المحاضر في جامعة طهران،وتتمحور معظم مؤلفات وأبحاث مؤلف الكتاب حول تاريخ الفكر الايراني اذ وضع مؤلفات عديدة في هذا المضمار باللغتين الانجليزية والفارسية نذكر منها:الانتلجنسيا الايرانية في القرن العشرين، الحقيقة والمنهج في العلوم الاجتماعية والتاريخ الايراني المعاصر، فرخي يزدي بين الشعر والسياسة / كما ترجم مع المفكر الايراني حميد عنايت رسالة كانت الشهيرة quot; تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاقquot;، quot;مفهوم الزمان في علم الاجتماع الثقافي quot; ومفهوم التشيؤ في فلسفة هيجلquot;.
وتكمن أهمية هذا العمل باعتباره الأكثر عمقا وشمولية في تناول تاريخ ومواقف الانتلجنسيا الايرانية منذ ثورة الدستور quot;المشروطة quot;عام 1906 الى نهايات القرن الماضي،وقد سبق ان كتب في المضمار ذاته باحثان ايرانيان هما quot;مهرزاد بروجردي وفرزين وحدت.
وحسب المقدمة تناول الكتاب الانتلجنسيا الايرانية وتشعاباتها الاديولوجية في السنوات التي سبقت الثورة الايرانية فمن المعروف ان التشاؤم والسوداوية هما الميزتان اللتان طبعتا الحياة الثقافية في العهد البهلوي، ان رفض المثقف الايراني لشرعية النظام الشاهنشاهي والاصرار على احداث تغييرات جوهرية في البنية السياسية ترافق مع اهمال تقديم حلول عملية وواقعية لما بعد التغييرات المبتغاة، مما أدى الى غياب المثقف من المجالين السياسي والثقافي بسبب عدم كفاءته واصراره على استخدام قاموس اديولوجي مفوّت. بعبارة أخرىلم يجرؤ المثقف الايراني على الانتقال من أسر مفهوم الالتزام الى رحاب الانجاز العملي، من الفكر الاديولوجي الى المنطق التدريجي. ان التفاصيل التي يوردها قيصري في الفصل الأول من الكتاب تثبت أ ن الانتلجنسيا الايرانية في القرن العشرين انشغلت بالاديولوجياعلى حساب الفكر والفلسفة والعلوم.
يضمن الكتاب أربعة فصول تعكس المراحل الأربع لتاريخ الانتلجنسيا الايرانية:الانتلجنسيا والثورة الدستورية (المشروطة )، الانتلجنسيا والقومية الرسمية(1920-1940)السياسة والأدب(1940-1952) نقد التغريب وسؤال التحديث(1952-1979).
يستعرض المؤلف أفكار جملة من المثقفين الايرانيين رفدوا الثورة الدستورية بافكارهم التنويرية، ويستشهد قيصري في هذا الفصل بجملة من المؤلفات التي لم تأخذ المساحة الكافية في اعتمادها كمصادر مهمة في تاريخ الانتلجنسيا الايرانية إبان المشروطة، فبعد أن يشير الى أفكار جمال الدين الأسدآبادي وأهمها رأيه في تخلف المسلمين بسبب تراجع الفلسفة في العالم الاسلامي، يستشهد الباحث برسالة quot;مسلك الامام في سلامة الاسلام quot;كتبها ونشرها أحد طلبة العلوم الدينية ويدعى حاج شيخ اسد الله ممقاني في اسطنبول عام 1910 وقد جاء فيها: ان السبب الاساس في تراجع الفكر السياسي في ايران يكمن في الموقف السلبي لبعض رجال الدين الشيعة
من الحكومة المستبدة،وقد شاعت افكارهم السلبية تجاه السلطة الى حد ان اغلبية الايرانيين كانوا يعتقدون بحرمة التعاون مع الحكومة،كما كان لهذه الأفكار دور كبير في الفصل بين الدين والسلطة حتى تشكيل ايران الحديثة.
، يتوقف المؤلف في الفصل الثاني المخصص للانتلجنسيا والقومية الرسمية عند أفكار النائب في الدورة الاولى من البرلمان الايراني محتشم السلطنة اسفندياري وكتابه المعنونquot;اسباب تخلفنا وطرق معالجتهquot;وقد انتقد محتشم السلطنةالداعين الى تطبيق النظرية الماركسية في ايران معتبرا ان العلاقة بين الفلاح الايراني والاقطاعي لم تبلغ قط مستوى الخصومة التي وصلت اليه في اوربا وروسيا القيصرية، وبذا تنم عملية تثوير شريحة الفلاحين عن فقر المنظور التاريخي والاجتماعي للواقع الايراني وتترك آثارا سلبية وخطرة على الفلاحين،من خلال
تحريضهم على ارتكاب جرائم بشعةquot;. كما دعا محتشم السلطنة ا لى التمسك بالهوية الاسلامية وتنظيم التربية والتعليم واقرار العدالة الاجتماعية ورأى في تمسّك المسلمين ب التعاليم الدينية أفضل ضمان لاسترداد سيادتهم على العالم،ونقضا لتقييم قيصري فان أفكار محتشم السلطنة لم تترك أثرا كبيرا على النخب الثقافية الايرانية بسبب وقوع معظمها في فخ الفكر الاديولوجي الماركسي.
في الفصل ذاته بحث المؤلف في أهم الأعمال الأدبية التي صدرت في مرحلة صعود المد القومي الايراني،والتي عبرت ان بشكل مباشر أو لمحت بطريقة غير مباشرة الى ضرورة وجود حكومة مركزية مقتدرة، كشرط أساس لخلق وحدة وطنية وصوغ هوية ثقافية ويمكن الاشارة في هذا الصدد الى روايةquot;الشمس الساطعةquot;لمحمد حسن جابري،والتي تعكس الصراع بين الموروث والتجدد في ايران في المرحلة التي أعقبت ثورة الدستور،وتشير الى أن المد القومي في عهد رضا خان انما يستمد جذوره من المد القومي الذي رافق ثورة الدستور عام 1906.
لقد رصد مؤلفو الروايات التاريخية والاجتماعية التي صدرت في فترة حكم رضا شاه،
التغيرات التي طرأت على المجتمع الايراني،وصوروا مرحلة انتقالية شملت جميع أصعدة الحياة الايرانية كما نقلوا للقارئ صورة عن تأرجح الفرد الايراني بين مجموعة من القيم المتضادة والعيش في مناخات متنافرةعلى مدار السنوات التي أعقبت ثورة الدستور وقد عجز أغلب كتاب هذه المرحلة عن نقل صورة موضوعية للواقع بسبب انتمائهم الاديولوجي الماركسي،كما أعاقتهم كراهيتهم للآخر من مناقشة قضية التحديث بحيادية وعقلانية تكفل التوصل الى نتائج ايجابية في عملية التحديث.
يتناول الباحث في فصل الأدب والسياسة الفوضى التي شملت كافة مفاصل الحياة الايرانية بين عامي 1941 و1953ف المشروع التحديثي في عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن العشرين،شهد اخفاقا كبيرا لغياب المؤسسات التي ترعى القوانين والمقررات الاجتماعية، ان ارادة التحديث لم تنشأ من مؤسسات مجتمعية بقدر ما صدرت من ارادة سلطوية عليا سرعان ما زالت مع نفي رضا شاه عام 1941.

كما يتوقف المؤلف عند المناخ الذي شهدت فيه ايران اتساع رقعة حرية العمل الحزبي والصحافي والمؤسساتي المستقل عن الدولة ويرى في مؤتمر الكتاب الايرانيين المنعقد في طهران عام 1947
المنعطف الأهم في تاريخ الانتلجنسيا الايرانية نظرا لدوره الكبير في تحديد مسار وملامح النخب الثقافية الايرانية ومواجهة قواعد التسلط الاجتماعية والسياسية والثقافية والسعي الى خلق مناخ متحرر.

فالمرحلة التي أعقبت انقلاب quot;مردادquot;والاطاحة بحكومة محمد مصدق1953،تزخر بكتابات جيل من المثقفين الايرانيين الذين أعادوا الاعتبار لأفكار كاتب سبقهم بثلاثة عقود وهو فخر الدين شادمان،الذي تمحورت اراؤه وافكاره حول امكانية الاستعانة بانجازات الحداثة الغربية لخلق نهضة وطنية بعيدا عن المماثلة والتقليد. والمفكرون البارزون في هذه الحقبة هم جلال آل أحمد وعلي شريعتي واحسان نراقي.
يحرص قيصري تبني منهج تحليلي ينأى عن إصدار الأحكام الجاهزة أوتقييم معياري، وبهذا يكتسب كتاب quot;الأنتلجنسيا الايرانية في القرن العشرينquot;أهمية ومكانة خاصة بين الدراسات الأكاديمية المتخصصة بتاريخ حركة التنوير الايراني في القرن المنصرم.