لن نقع في فخ التنظير، لأن من اسوأ الأمور في هذا الأطار هو التنظير حول الشعر. فالشعر مادة سيالة، متحركة، متجددة وغير قابلة للأحتواء. الشعر، كائن زئبقي، كالواقع الحياتي، كلما حاولنا أحاطته من جهة سال لنا من الجهة الأخرى. بل أنه كالأنسان في مرحلة مراهقته، كلما حاول الآباء توجيهه حسبما يريدون، نجده يفعل أشياء أخرى تثير نقمتهم وغضبهم عليه. والسبب برأينا لأن المراهق، كائن متمرد، شيطاني من الدرجة الأولى بحق القيم والمثل والأخلاق المألوفة. فهذا هو حال الشعر، وهذا مايجب أن يكون عليه حال الشاعر أيضا. لذا فأن محاولة رسم تفاصيل منهجية للشعر لأتباعها هو نوع من الغباء. ولكن لاضير برأينا من التحدث عن أطر عامة للسلوك الشعري، أو عن مناخات جديدة له تجعله قادرا على مسايرة متطلبات الحياة الجديدة، والأهم من هذا مسايرة أعماق الشاعر الصادقة والمليئة بمناخات الرؤيا الهامشية المأخوذة من براكين المجهول الكامنة هناك. ولانقصد بهامشية الرؤيا هنا بأنها هامشية من حيث القيمة وانما هامشيتها متأتية من حيث أنها مختلفة ومغايرة للسائد والمألوف. ولانقصد بالمجهول هنا هو ذلك الشئ الذي لايملك الملامح كما هو متعارف عليه، وأنما هو ذلك الشئ المختلف تماما عن ماهو سائد من الاشياء المعلومة وهو من يملك ملامح في غاية الوضوح. ولكن وضوح هوية وملامح المجهول لايراها سوى الذي ينظر الى أعماق روحه السحيقة نظرة تشبه نظرة الانسان الاول الى الأشياء حينما اراد فض بكارتها ومعرفة اسرارها، وتشبه نظرة الشاعر الحقيقي الى أعماقه أو تشبه محاولاته الدائمة في الهبوط بحبل الدهشة من حافة روحه الى ينابيع الرؤيا والجمال الكامنة هناك لتدوين حمم الشعر الهاطلة عليه من اللاشئ، أو من المجهول. والشاعر لكي يصل الى هذه الحالة عليه أن يمزق صور الشعراء الذين سبقوه سواء في اللحظة الشعرية الأولى التي تقتحمه أو سواء في اللحظة الشعرية الأخيرة التي يدونها. بل عليه أن يمزق كل ماخزنته ذاكرته وعقله من معارف وآداب وفنون وأفكار وتصورات عن العالم. أي عليه أن لاينظر ألى المنجز السابق أو الى التراث الشعري ـ بصورة أدق ـ كمن ينظر الى العالم من خلال شرفته. لماذا ؟! لأن منجز الاخرين سيكون قابعاً في تلك الأقاصي البعيدة من الروح تلقائياً بعد هضمها المستمر لها، لذا نحن نقول بأن الآخر أو التراث الشعري يشكل جزءاً مهماً من هوية الشاعر ومن هوية المجهول المستوطن في أعماقه معاً. ولكننا نطالب الشاعر بتمزيق كل ماذكرناه لسبب أهم وأرقى وأجمل ألا وهو الوصول الى روحية الأنسان الأول البدائي، والى طريقته في التعامل مع الأشياء وفي طريقته في أكتشاف العالم وأكتشاف أسرار الوجود. على الشاعر أن يكون كالأنسان الأول في رؤيته للمجهول الذي تحدثنا عنه، لأن المجهول ليس مجهولاً، وأنما هو شئ لايشبه الاشياء. المجهول، شئ مستتر، أو لاشئ محسوس ولكنه غير مدرك إلا لمن يمتلك أدوات الوصول اليه. وهذه الادوات هي مايجب على الشاعر أن يمتلكها. المجهول يمتد من أعماق الأنسان الى المجهول الكامن في أعماق الوجود. لذا على الشاعر أن يستمع للموسيقى القادمة من الأقاصي البعيدة في أقاليم روحه غير المرئية بمهارة متلقٍ بارعٍ وذكي وأن يترنم على نغماتها بحرارة راقص مبدع خلاق.
للمجهول نار في غاية الحرارة، وله موسيقى في غاية الدهشة، وله ألوان في غاية الأبهار، وله صور في غاية الجمال، وله بالطبع كلمات في غاية الأختلاف. أنه الحضن الأبدي للشعراء. وبأمكانه أن يكون حضناً لكل أنسان أن عرف هذا الانسان كيفية النظر الى أعماق روحه في لحظة العزلة التي تشبه عزلة الشاعر مع شعره، غير أن الفرق بين هذا الأنسان وبين الشاعر هو أن الأول يعكس نتائج ماحصل عليه من عملية غوصه في أعماق روحه على سلوكه الحياتي وربما العملي أيضاً، بينما الشاعر يعكس هذه النتائج على نصه الشعري بالأساس.
نحن الأن بحاجة الى أن يستوعب الشاعر لعبة المجهول. أن يذبح بحرارة كائنات المجهول الهلامية القادمة اليه من الأبدية أمام ذاته مثلما يذبح الأرهابي بحرارة ضحاياه أمام أنظار العالم من دون رحمة وبثقة وأيمان لايتزحزحان، من أجل أخراج المعاني والصور والرؤى الشعرية من تلك الكائنات أو بالاحرى من تلك الاسرار التي نشبهها بالكائنات الهلامية.
من جهة أخرى، قرأنا سابقا عن تفجير اللغة وعن البناء اللغوي البعيد عن البناء اللغوي المألوف، وقرأنا عن أنشغال الشعراء بحشد أكبر عدد ممكن من الكلمات الجديدة في قواميسهم اللغوية. والأن دعونا نتحدث عن حرارة النص الشعري. حرارة فضاءاته ولغته وروحه المتأتية برأينا من حرارة براكين المجهول التي تحدثنا عنها قبل قليل.
الشاعر الحقيقي والأصيل ولانعني هنا بالشاعر الذي يتناول كتابة الشعر فقط، هو من أكثر الكائنات قرباً من المجهول، وهو من يراه ويمسكه كما يرى ويمسك الحبيب حبيبته لحظة ممارسته معها الحب الملتهب للمرة الأولى.
أما كيفية إمساك الشاعر للمجهول ؟ فبأمكاننا القول أن على الشاعر الغرق في بحار التأمل الأصيل. ونقصد بالتأمل الأصيل هو ذلك التأمل الذي يعيد من خلاله الشاعر أعادة اكتشاف الأشياء التي من حوله وكأنه أكتشفها بنفسه الان. فعلى الشاعر أن يعيد أكتشاف أحد الأشياء على الاقل كل صباح. فمثلاً عليه أن يعيد أكتشاف الأنهار، الأشجار، الزهور، المدن وتفاصيلها... الخ، من خلال إلغائه لتسمياتها وصورها التي يعرفها عنها مسبقا. عليه أن ينظر ألى الاشياء وكأنه يراها للمرة الاولى، مثلما رأها الانسان الاول للمرة الاولى او مثلما ينظر الطفل الى العابه الجديدة للمرة الاولى بدهشة. ربما هذه ليست طريقة جديدة في التأمل ولانزعم بأننا أبتكرناها. ولكن أن يلجأ الشاعر لهذه الطريقة لأكتشاف العالم ومن ثم أكتشاف هوية المجهول فذلك هو الأبداع الحقيقي برأينا، لأن هذا التأمل هو المناخ الأجمل لأستفزاز ينابيع المجهول العظيمة.
على الشاعر أن يلغي كل مشاهداته للعالم الخارجي وأن يقضي الخلوات الطويلة في تأمل المجهول الكامن في أعماقه لكي يرتقي قمة اللذة العظيمة. أي لذة الدهشة المتأتية من لذة حرارة الأكتشاف الشبيهة بالحرارة الشعرية. أجل الحرارة الشعرية.
فالشئ الأهم ولن نقول الأوحد برأينا في الشعر هو عنصر الحرارة النابعة من حرارة المجهول الأزلية. الشاعر الحقيقي والأصيل هو من يرى المجهول في غاية الوضوح عبر بصيرته ولهذا فأن روحه تبكي رؤى شعرية وصورا شعرية ولغة شعرية ملتهبة حينما يلسعه الشعر، غير أن اللغة تخونه أحيانا كثيرة للتعبير عن هذا المجهول بشكل بسيط ومألوف. إن أفضل تعبير عن نغمات هذا المجهول ومعانيه وأشكاله وحرارته برأينا هي النصوص الشعرية فقط وليس أي شئ آخر.
ولكن ماهو معيارنا لمعرفة وجود الحرارة الشعرية في النص الشعري ؟ برأينا أن المعيار الاكثر وضوحا هو معيار البكاء الروحي للشاعر لحظة أحتراقه بنار المجهول الأزلية. قد يظن البعض بأن هذا النوع من البكاء هو من النوع الرومانسي والكلاسيكي، ولكننا نقول لهؤلاء، لا وألف لا. بكاء الروح يختلف عن بكاء العيون، على الرغم من أن العيون أحيانا تذرف دموعها حينما تذرف الروح حرارتها، وهو أمر مقبول بلاشك. ولكننا نقصد ببكاء الروح هو ذلك البكاء القديم الذي أطلقته روح الانسان الاول حينما تساءل عن ماهية المجهول سواء الذي يعيش في أعماقه أو ذلك الذي يحيط به من كل جهة أو ذلك الذي قذفه الى العالم من دون أرادة منه. تلك الروح الأولى هي روح الشاعر الحقيقي، وذلك البكاء الأول هو بكاء الشاعر الحقيقي، وذلك التساؤل الأول هو تساؤل الشاعر الحقيقي. المصيبة أن البشرية بمن فيهم الكثير ممن يتعاطون الشعر والأدب والمعرفة باتوا يتعاملون مع الكثير من الأمور على أنها أشياء بديهية ولاتحتاج الى التساؤل والحيرة حولها مرة اخرى. ومن أهم هذه الأشياء هي بكاء الروح وهوية المجهول. ولهذا برأينا نرى أن الكثير من الشعر سواء الذي كُتِب في الماضي أو في الحاضر هو شعر بارد وخال من الروح والحرارة على الرغم أحيانا من براعة صنعته من حيث اللغة والبناء مثلا.
أن لذة النص الشعري برأينا تكمن بالاساس في حرارة الشعر المحملة بحرارة المجهول القديمة. وهذه الحرارة تبرز في النص الشعري المسترسل بفطرة عالية وفي النص الشعري اللاهث خلف السؤال مثلما كان الأنسان الأول يلهث خلف طريدته وخلف أسئلته المربكة. هذه الحرارة هي الحرارة الشعرية المرتجاة. أنها روح الروح. أنها جوهر المجهول، وجوهر الشعر الأصيل. هذه الحرارة هي التي تجعل الروح تبكي، لانها تمتلك حرارة التساؤل والاكتشاف، وحرارة الخوف من المجهول والدهشة، وحرارة الشعر والوجود . وبكل تأكيد أن كل قارئ ذكي ومتأمل سيشعر بحرارة نص الشاعر من دون صعوبة حتى وأن لم يفهم الكثير منه.
بأختصار على الشاعر أن يكون متأملا، طفلا، مراهقا، مجنونا، شريرا، وأنسانا بدائيا لكي يمسك المجهول. لأن لحظة أمساك المجهول من قبل الشاعر تعني بأنه سيبكي لنا شعرا أصيلا حارا وملتهبا بالرؤى الجديدة.
[email protected]