هذه السلوى العجيبة:

فرشاة، علبة الوان صغيرة، اوراق باحجام وسمك وسطوح مختلفة، بين احضانها تندس محتمية صفائح لوحات قديمة، قلم صغير كاد ان يستهلك، اسفنجة تشربت بالوان وازمنة

الحلقات السابقة
وذرات ورق ذائب وبصمات اصابع..
لوح خشبي رقيق تأطر بخطوط مشرشرة وبقع والوان بمستويات مختلفة يمكنك معرفة اعمارها كما في حلقات مقطع جذع دوح معمّر.
تحملها تحت ذراعك برفق وحنو
تحمل هنامشاعرك وانطباعاتك ورؤاك، احلامك وشوقك والحنين الشاف الممض..
تحمل بها التجربة ولحظة الانبهار في اكتشاف موقع ومعلم..
تحمل حزمة ضوء معفـّر، يتسلل كاللص بين اغصان غابة كثيفة.
هنا اصطياد لحظة سكون من ظلال غيمة سابحة فوق حقل اخضر.
هنا في هذا الخزين من الوريقات والخطوط و اللون المنساب المرتـَشف تكمن معالم كآباتك واحباطاتك.
تعبر من خلال مساحاتك الورقية الملونة ليل النجم الساهر، واحتراق quot;فحمة الديجورquot;، والضوء المنتشر الذي لا حدود له، والظلال الزاحفة، وابخرة الوديان..
تحمل تحت ذراعك زرقة البحر الملتمع، الكابي، المعتم، الشاف بخضاب البنفسج، المتورد الخلجان بالحصى.
تحمل البحر اقحواني الافق..
لحظة سارعت لتستوحي منه على وريقاتك، لقطة من مزاجه البحري..
عبرتَ فيها بالوانك على عجل وانفعال منبهر منتشي..
وجدت نفسك وفرشاتك والوانك قد ابدلت مسارك ومسار كل ادواتك، لتماشي مزاجه المتبدل في غنج، ثانبة بثانية...
هنا تحت ذراعك وانت تسير على غيمة من ذهول حالم شاشات مترامية الابعاد تظهر عليها تفاصيل ذكرياتك، براقة متفجرة الالوان زاهية حينا، ضبابية غامضة عسيرة الوضوح حينا آخر.
عدّتك تلك، قرّبت الابعاد التي تلاشت.. الهيئات والفضائات المترامية.. الجدران المصمتة والنخرة المتهاوية.. الواحة والصحراء.. النهر المتدفق والجدول الرائق..
ضفاف الطين والرمل.. و ارضاً مشت فيها اخاديد الجفاف المعروقة...
هنا سعف النخل المتناثر الهفهاف كشعور السعالي في ليلة عاصفة
هنا حزنها الازلى المستوحش في لفح هاجرة صموت..
هنا تحت ذراعك جبال كردستان الملونة تتدرج بوضوح عبر الزرقة البنفسجية من اوشحة الغروب تخال السلاسل المتلاشية في الافق البعيد تمتد الى ابدّية غامضة..
هنا وتحت ذراعك الوطن الذي تستحضره متى ما امضّك الشوق وانهكتك الغربة..
لقد انرت بما تحمل عتمة الشمال الاسكندنافي الطويلة الحزينة..
انت ايها المقرور بالبرد والغربة ! ها قد ألهبت بتوهج الوانك اصقاع العدم الجليدية.
كم كانت تلك الادوات المتواضعة بديلا عن عقاقير الاكتئاب وأسرّة الردهات الصامتة الاكثر اكتئابا،
كانت فرشاتك حبل نجاتك الذي تسلقته لتخرج من عتمة اقبية الاحباط الى فسحة الامل النيرة.
.. وفيما انت في فيافيك، حاملا متاع همومك، تجد فسحة صغيرة من تعب التجوال والضياع.. تسارع فتلقي بعصا ترحالك في استراحة بين المتاهات.
تجد ركنا دافئا تضع فيه حاملة خشبية.. علب الوانك وانابيبها.. لفائف من اقمشة الكتان.. صفحات وسيعة من الورق.. رزماً من كتب، وعددا من اشرطة موسيقية..
فجأة تكتشف انك ابتـنيت وطنا صغيرا تستعيض به عن الوطن المتنائي عنك يوما بعد آخر..
ذلك السراب المخادع الذي كلما اقتربت من صفحة مياهه بعطشك الممض، نأى عنك الى افق ابعد.
.. يا لك من مزمن ضياع..
على مشارف عقدك الثامن، ولا زلت عند مفترق الطرقات.

* * *


هل انت الذي تتبع الضباب ام انه هو الذي يتبعك، ها هي احزمة منه تقترب منك متوجسة، شاحبة، حذرة، تنزلق فوقها اوشحة اخرى باتجاهات مغايرة..
حواشي الاوشحة المتهدلة تـُسحب فوق سطح التربة الندية التي تبان من خلال الستائر الشافة المشرشرة بقعا واخاديدا وكتلا طينية.
. تتوارى هذه المعالم لتظهر بعد لحظة في مكان آخر..
التربة الندية تزحف.
على مبعدة من مكانك ترتفع ابخرة متموجة، مذكّرة بغيمات دخان متصاعد عن مواقد التنانير المشجورة بالسعف والاعواداليابسة عند الفجر في بيوت طينية منثورة بين حقول الجنوب.
.. اشباح عجيبة ملوّنة تطل متـنقلة هنا وهناك من خلال كوى نصف شفافة بين وشاحات الابخرة البعيدة..
تتبدل الالوان وكثافاتها زاحفة، مبدلة هيئات رسومها دون انقطاع.
. انها اشباح الغابة البعيدة،
quot; حين تتحرك غابة ( دوناي- نورماندي ) في مواجهتك quot;.
تحث الخطى لتلحق الاحزمة الشفافة وكوى الالوان المتحركة التي تلاعبك فتعاود الظهور عن يمينك.. عن شمالك.
تهرب منك.
تتلاشى الالوان والهيئات الشبحية..
تلتف في متاهات زجاج مضبب متماوج..
يندى خدك.
تواصل سيرك دون معلم مرئي.. تطفو.. تستقر على سطح لين.. تنحدر فوق احجار بليلة زلقة..
انت الآن تخوّض في جدول بارد يمتزج خريره بحفيف اشجار تقترب..
للضباب همس مبهم..
تغوص في الوحل مصرّا على متابعة تخبطك كطفل عنود..
وخز يدمي ذراعك.
تتخطى سياج اسلاك شائكة فتنهب مساميره نتفا من ثيابك..
تـُدمى ساقاك
تسير حثيثا في مجاهلك..
انت محوط الآن بأحزمة ضباب اكثف و اشباح تتحرك.. تظهر وتختفي.. انها جذوع السنديان الضخم العتيق..
تواصل..
خيمات وسيعة من اغصان الصنوبر تهفهف فوق رأسك..
تضرب احداها فينثـل عليك مطر ابري وقطيرات تنثر وجهك بالماء والعطر الصنوبري..
تسكر بنشوة عابرة.
تزداد كثافة الالوان وروائح اللحاء والاغصان المنخورة والجذوع وحصيرة الإبر الصنوبرية المتخمرة والعفص والاعشاب الندية..
.. لتربة الغابة المنتفخة بالأشنات عطر يتمايز عن كل ذاك المزيج الاخر من عطور الاشجار وبقاياها
.. يتنامى فضولك من ذلك المشهد، يلفـّك غموض يمتزج بخوف الغريزة من عتمات مجاهل الطبيعة البدائية..
ما الذي يختبيء وراء هذه الظلال المزدحمة وامواج اوشحة الضباب المبحر في اتجاهات ومستويات متباينة؟
تتهادى امامك الاوشحة باغراء وغنج.. تنسرب بين اشباح الجذوح.. تغريك باللحاق.. اشباح غواني (جيزيل ) المسحور اتبع عشقهن القاتل يسحبنك الى المجهول فتتبع ولـِهاً مأخوذا.
.. تعبـق من جديد عطور العفص وإبر الصنوبرالندية المذوبة بعبق الارض المبقعة بالكتل الهشة من التربة المنتفخة بالطحالب والاشنات.
.. بثور انفقعت واخرى آن لها ان تنفقع عن فوهات عاتمة الخضرة مبقعة بحبيبات سوداء.
تنحني متأملا هذا البركان الخامد الصغير..
في قعر الهوة بقايا من فتات حمم..
ابر صنوبر عتيق متيبس..
اتربة فحمية هشة..
قطع لحاء متنخر..
بقايا هلامية لزجة لفطر الثعلب الهرِم.
تغرف بكفك من مزيج الدورق الترابي.. تقربه من انفك وتستنشق عبقه ملء رئتيك..
لحظة سكر عابرة تتجدد.
تواصل ابحارك السندبادي في بحور الغلالات الشافة وعماليق الظلال واشباح االغواني الراقصة.
فجأة تخترق الاحزمة الضبابية السابحة اصابع ساحرات متشعبة مستدقة.. يمتد بعضها صوبك في حين ترتفع اخرى ممشطة شعورا كثة متشابكة خضراء تتدلى من بعضها جدائل معثكلة ملفوفة بشباك من خيوط العناكب.
. تزيح الاغصان وتطفو على وجهك ابتسامة منتشية من دعابات الساحرات الطفولية التي تحاول استثارة خوفك الغريزي ونبش مكامنه..
تحني رأسك مارا تحت انامل الاغصان العارية.. تحس بالانامل المستدقة تمشط شعر رأسك.. تسمع انين تكسّر بعض هذه الانامل الرقيقة.. تزيح البعض الآخر بأناة وحذرعطوف وانت تواصل خطواتك.. تخشى ان تفسد دعاباتهن بكسر انامل رقيقة اخرى.. تسمع صرير حطام اطراف اخرى تساقطت عبر ازمنة متباعدة.. تحس حصيرتها الاسفجية تحت قدميك.
فجأة، وكما تنزاح ستارة مسرح بأناة وبطء وصمت، تتباعد الابخرة وتشف..
تنساب حزم متكسرة من الضوء بين الكتل الكثيفة الخضرة.
.. تخطو بضعة امتار تجاه منابع الضوء.. ينبلج افق رحيب لماع الخضرة تنزلق فوقه بقع النور المصفرة البراقة..
تبدل الآن البقع النـيّرة المخضوضرة اماكنها، منسابة كحلم صامت عجول، تاركة بين مجالات سياحتها اخاديد زرقاء وبنفسجية ومربعات صفراء واخرى عاتمة الخضرة.
تعود من رحلتك تلك عند حلول المساء.. تفتح باب وطنك الصغير فتقابلك بحفاوة رائحة زيت الكتان الطرية المخلوطة بمزيج من محاليل المذيبات التي تذكرك برائحة علكة المستكي.
تزيح من على سطح اللوح الخشبي الواسع علب اصباغ وانابيب الالوان الزيتية والفرش، وسكاكين المزج المعدنية الرقيقة، وصحونا، وقطع الواح زجاجية واواني فخارية تستخدمها بديلا عن لوح مزج الالوان الخشبي.
.. تفسح مجالا لصفحة ورق حبيبية السطح، خشنة، مدغمة البياض.
.. تضع علبة الوانك المائية العتيقة.. تفتحها بلهفة المحب.
.. تضع اكوابا من الماء.
تستل فرشاة ناعمة.. تبلّها، ترطب بها حدقات الالوان..
تعود من جديد في سياحة اخرى فوق سطح الورق.
تبدأ الصفحة بالاتساع.. تترامى ابعاد حواشيها.. يبدأ السطح الورقي بالتحول الى عالم غامض.
.. تنساب مبحرا من جديد في متاهات اوشحة الضباب المتداخلة.
.. تتمايز وتتضح معالم جذوع السنديان الضخمة وخيمة اغصان الصنوبر الهفهافة.
.. ينفغر ثغر ذلك الوعاء العجيب من بثور تربة الغابة المنفقعة.
يتراكم ذلك الخليط العجائبي من حمم التربة وبقايا الغابة النخرة والأشنات في قعر ذلك الوعاء.
.. تفوح في الغرفة الصغيرة روائح رحم الغابة المظلم.
اشم من جديد ذلك الخليط من عطور العفص وابر الصنوبر الندية وبثور التربة المنتفخة بالطحالب والأشنات وقطع اللحاء العتيق المنخور والبقايا الهلامية لعطر الثعلب الهرم.
تغص حنجرتك بغرغرة مكبوتة، تندى عيناك، تتصاعد حسرة مسموعة الى شفتيك.
تهرع الى باب الغرفة.
.. تفتحه على عجل.
.. قبل ان تضع قدمك خارجه، ترفع رأسك الى السماء مطالبا، لا سائلا، فسحة قصيرة اخرى من العمر.