مستقبل الفن يكمن في وجه امراة حسناء.. هذا ما قاله مودلياني في باريس في موقف درامي تحفيزي وضعه بوجه بعض مجايليه من كبار الفنانين والمبدعين : بيكاسو، ريفيرا، اوتريليوا وسوتين وماكس جاكوب واخرين. كان هذا المشهد نقطة انطلاق موفقة للمخرج الاسكتلندي ميك دافيز في سعيه للفت انظار المتلقين الى موضوعة فيلمه السينمائي (اميدو مودلياني- 2004) وكذا إلى مناخ التنافس المشحون بين كبار الفنانين والادباء في باريس اوائل العشرينيات، وجذبه في الوقت عينه الى كاريزما شخصية الرسام الايطالي الشهير مودلياني، اقله بالنسبة لعديد عشيقاته واتباعه ومريديه من الكتاب والموهوبين الذين تستهويهم حيوات المهمشين والبوهيمين آنذاك.
بالنظر الى سيرته بقيت حياة اميدو مودلياني مرهونة لشتى انواع الضغوط حيث تمتزج اشباح الفقر والعدمية وتبديد طاقة الحياة بافراط يائس وابداع أخاذ.

ملصق الفلم الذي صنع على حياة الفنان
ليس بعيدا عن هذا،سنرى أن المخرج ميك دافيز وهو الخبير بالفنون التشكيلية والسيناريست المجرب حاول في فيلمه هذا ان يوظف معرفته التفصيلية باجواء تلك الفترة الزمنية التي يعدها البعض فترة ذهبية بلا منازع لاعادة رسم مصير الفنان ومعاناته مع الفن والحب والمرض، حصرا في الفترة الأخيرة من حياته الضاجة بمرارات صراعه مع ادمان الخمور والمخدرات.

الفنان هاهنا بطل فردي تنبئي يعبده جمهوره ويعنى به، ليس فقط لموهبته الفنية، وانما لطبيعته الطفولية وفطرة حواسه في سياق نوع من التمثل بهالة حياته وسلوكياته ومصيره الشخصي المأساوي. حتى ان هذا المرتكز الدرامي والذي ساعد المخرج كثيرا في صياغة احداث فيلمه يمكنه ان يكون تفسيرا رمزيا لتفوق مودلياني بحسه الفطري ورؤيته الطفولية الغنائية للحياة على انطفاء الآخرين.
أن يكون الفنان لصيق بجمهوره ومحبيه مهما كانت درجة موهبته وطبيعة فنه، تحت مؤثرات ازمة انسانية ووجودية واحدة، سبيدو حينها معنيا إلى حد كبير بظاهر حياته وانجازاته. لكن، وهنا اشارة الفيلم الشاعرية، لم يكن مودلياني من صنف اولئك الفنانيين المكترثين لما ستؤول اليه حياته او الى ما ستقوده اليه خطاه. فبدا ان هذا الجانب الحساس في شخصية الرسام مودلياني هيمن على المساحة الاكبر من الفيلم لينتهي بماساة موته المبكر.
الفنان والفيلم :

ولد مودلياني عام 1848 في مدينة ليفرن بايطاليا وتوفي 1920 عن ست وثلاثين ربيعا. هاجر الى باريس كغيره من الفنانين، ولم يكن قد قرر بعد ان كان سيركز على الرسم ام النحت. ولكن ثمة لمسة خاصة في أعماله quot;فالصورة تخاطب الناظر طالبة ان يتعاطف مع الموضوع، وضمنا مع الفنان، وقد يكون هذا تحديدا ابرز وجوه الرسم التعبيري quot; ذلك ما قاله الناقد الان باونيس في قراءته للفن الأوربي الحديث.
ورغم إن مسار قصة الفيلم التي كتبها المخرج ذاته تتوزع بالتوازي بين ثلاثة أقطاب أساسية هي : مودلياني وعشيقته جين هيبوترن وبابلو بيكاسو، إلا أن الفيلم جاهد ليعطي مودلياني الطابع المحوري في مساحة الأداء الدرامي الأبرز، وعبر قصة ذات صبغة رومانتيكية، ونهاية تراجيدية. وقد يعترض البعض قائلا : ان هذا الفيلم رغم انه عن رسام عبقري موهوب، لكنه لم يظهره وهو في مرسمه الا بلقطات محدودة جدا، ولنا ان نستعيد ردا مألوفا ومتوقعا هنا : كم عدد الذين سيهمهم رؤية الفنان في مشغله في مسحة تعليمية غير مفارقة، لن تبدو سينما جذابة بكل الأحوال. يدرك ميك دافيز هذا المعطى فصنع سينما تتخذ من حياة الفنان مادة سينمائية جذابة، تمتاز بالصدق والجمال، حتى وان بدا في بعض محطات الفيلم ومفاصله المؤثرة منحازا لخطى مودلياني كشخصية محورية على حساب تهميش مساحة الآخرين بالظهور المؤثر، ربما إلى درجة جعل بيكاسو يعيش في روح اميدو مودلياني بعد وفاته في اشارة الى تاثير الاخير البالغ على مجايليه. وذاك بكل الأحوال شان مؤرخي الفن أكثر من كونه شان سينمائي.

صورة نادرة لمودلياني

على مستوى الاداء يبدو ان اختيار النجم الكوبي الاصل اندي غارسيا موفقا في استيعاب حجم شخصية بمواصفات مودلياني وسيرته الفنية، سيما وان غارسيا يتمتع بحس داخلي منضبط في تقمص الشخصية يفوق استجابته لطبيعة الممثل العضوية والحيوية، فضلا عن خبرته في تأدية شخصيات شهيرة ذات عمق معين ومواصفات محددة، مثل أدائه المميز لشخصية الشاعر الأسباني (لوركا). ولم تكن الممثلة الفرنسية ايلبا زلبرشتاين اقل شانا في تادية دور عشيقة مودلياني وزوجته لاحقا.
جين الرائعة والمخذولة في حياتها ومصيرها، تقدم على الانتحار حزنا على مودلياني بعد انقضاء يومين على موته، وهو الذي قال لها يوما ما بلسان عارف: سأرسمك، وحينما ادخل الى روحك واعرفها، سارسم عينيك حينها.

يفتتح الفيلم بسؤال (جين ) مستعادا وملخصا الحكاية كلها : هل جربتم يوما معنى الحب الحقيقي ؟ لتنساب شاعرية السرد السينمائي تباعا بتصعيد جمالي وحنان عاطفي يبتعد عن الترهل في خلق صورة الفيلم وتنوع مداها الإنساني.
فيما حبست الأنفاس أخيرا في لحظات مصرع الفنان الذي قال عنه كبير الانطباعيين اوغست رينوار يوما ما :
في إحدى المرات، رأيته يرقص كالطفل حول تمثال بلزاك، كانت يداه تحلقان كطائر، وكان وجهه جميلاً مشرقاً، كان مثلي في إحدى مراحل حياتي، لذلك سرقت تلك اللقطة وخزنتها في ذاكرتي لأعيش بها ومعها حتى أيامي الأخيرة هذه.