توقفت العربتان التي تجرها الخيول في احد الشوارع امام باب الفندق، وترجل منها العمال الخمسة وأنزلوا أمتعتهم ووضعوها على الرصيف، وبعد أن دفعوا أجور النقل الى حوذي العربتين تبين لهم أن مجموع ما تبقى لديهم من النقود لا يزيد على دينار واحد، مما أشعرهم بالحيرة والقلق لبعض الوقت، لكنهم سرعان ما استعادوا ثقتهم بأنفسهم وقرروا البحث عن شخص يقرضهم مبلغا من المال يمكنهم من استئجار سيارة تقلهم الى المدينة التي جاءوا منها قبل ثلاثة أشهر، حمل كل منهم أمتعته وصعدوا درجات سلم الفندق الحجرية الضيقة ذات الأضاءة االرديئة واحدا بعد الآخر في خط شبه مستقيم، وكأنهم كانوا يتسلقون جبلا، وما ان وصلوا الى بهو الفندق ألقوا بأمتعتهم بعضها فوق بعض، وكأنهم كانوا يلقون بهمومهم وما ساورهم من شك في امكانية سرعة الوصول الى المدينة، لأنهم شاهدوا سائقا من مدينتهم جالسا يترقب ويتبادل الحديث مع صاحب الفندق، استقبلهم السائق بمودة ورحب بهم بحرارة، ولما عرف انهم يريدون العودة الى المدينة، أخبرهم بأنه جاهز للسفر، لكنهم أخبروه بأنهم لا يملكون من النقود ما يكفي لدفع أجور السفر وأنهم سوف يدفعون له الأجور بعد أيام من وصولهم المدينة، لم يغير السائق موقفه الودي منهم بل أخبرهم بأن غذاءهم سيكون على حسابه الخاص مما شجعهم لارسال أحدهم الى أحد محلات بيع المشروبات الروحية لشراء قنينتين من العرق المستكي بما تبقى عندهم من النقود، ممنين أنفسهم أن يشربوها في ليلة مقمرة بيضاء في احدى الجزر النهرية، يتناولون بعدها عشاء من السمك المسكوف، يقومون باعداده وشوائه وهم يغنون ويرقصون وينشدون الأغاني والأبوذيات والبستات العراقية التي تعلموها عند ارتيادهم دور اللهو والملاهي في فترة عملهم، وينعموا باللذة ويقتنصوا لحظات من السعادة ويتمتعوا بالحرية والراحة حتى انقضاء الليل.

ركب فواز بجانب السائق وركب يوسف بجانبه وركب العمال الثلاثة في المقاعد الخلفية، تحركت السيارة بهم واجتازت بعض الشوارع سالكة الطريق المؤدي الى المدينة، التفت يوسف الى فواز الذي كان غارقا في دوامة من الأفكار فسأله متبسما : هل أصبحت رجلا يمكنك الأعتماد على نفسك، كما أراد لك أبوك أن تكون؟ أجاب فواز: لقد تعلمت بمرافقتي لك في فترة قصيرة ما لم أتعلمه منذ أن فتحت عيني على الدنيا، وأظن أنني أصبحت رجلا متمرسا في امور اخرى، وأضاف: يوسف أخبرني ما الذي سأ قوله لأبي؟ وماذا أحدثه عن رحلتي الأولى للعمل؟ أجاب يوسف على سؤال زميله فواز بابتسامة غامضة دون أن يتفوه بكلمة تاركا اياه في دوامة جديدة من الأفكار، كان يوسف ذاوجه وسيم حلو الملامح، عيناه جذابتان، طويل القامة، متناسق الجسم، لايتكلم الا نادرا، تحس فيه شيئا مثيرا يجذبك اليه، قضى خدمته العسكرية في بغداد ولم يقم بزيارة أهله طوال مدة الخدمة مما أتاح له معرفة أحوال المدينة في فترة الخمسينات من القرن الماضي معرفة جيدة، أما أبوه فكان من قراء القران والمجودين له في جامع المدينة الكبير، وهذا ما دفع بأبي فواز أن يوصي ولده فواز بمرافقة يوسف دون سواه من العمال حينما أرسله مع مجموعة من العمال للعمل في بغداد، لأنه أراد أن يتعلم ويعتمد على نفسه بعيدا عنه، كانت السيارة تسير بسرعة قاطعة الطريق متجهة الى المدينة، وكانت ذكريات فواز تنهال وتنساب بخط معاكس لخط سير السيارة، ابتداءا من خطوبة أباه لأمه وزواجه بها، وولادته، وتسميته باسمه، لقد سمع هذه الحكاية من أبيه مرات عديدة، وفي مناسبات مختلفة، وكان الأب يحلو له أن يرويها دائما، مبتدأ حديثه قائلا (الزواج قسمة ونصيب، تقدمت وطلبت يد امرأة بعد وفاة زوجتي الأولى التي أنجبت لي ست بنات ولم تنجب لي ولدا، وكانت المرأة التي خطبتها امرأة جميلة أمها من النساء المشهورات بجمالهن، تغنى بها شعراء المدينة ووصفوها بالحسن والجمال، وكان ينافسني في طلب يد المرأة شاب تقدم لخطبتها في نفس الوقت، الا ان كفتي رجحت على كفته، لأنني كنت جميلا وفي مقتبل العمر، قويا، ذا أملاك وبساتين، وأهل السلف يفضلون من له أملاك ويقولون quot;الملك للملوكquot;، كنت جالسا في المقهى حينما جاءني شخص يبشرني بأن المرأة التي خطبتها أصبحت من نصيبي وأن أهلها قد وافقوا على زواجها مني، فقلت بفرح لقد فزنا، وطلبت من صاحب المقهى أن يوزع شايات على جميع الحاضرين على حسابي الخاص، فسميت من قبل الحضور بأبي فواز، وبعد زواجي أنجبت لي زوجتي بعد سنة ولدنا البكر، كان جميلا جدا فأرادت امه أن تسميه وضاح، إلا انني أقنعتها أن نسميه فواز لأنني فزت بخطوبتها والزواج منها، ولأن الناس كانوا يلقبونني بأبي فواز قبل أن يخرج فواز الى النور، فوافقت )، تذكر فواز هذه الحكاية، ووصوله الى بغداد لأول مرة، وعمله مع يوسف ومرافقته له، وذهابه الى (المنزول) بيوت الدعارة العلنية، وما قالته له احدى المومسات بعد أن أختلى بها لما رأته جميلا وعرفت بأنه جاء الى هناك للمرة الأولى (دير بالك على نفسك خوفا من أن..) أي انتبه على نفسك من المنحرفين الذين يفضلون ممارسة الجنس مع الغلمان على ممارسته مع النساء، ثم تذكر صديقة يوسف التي تعرف عليها، وكيف وقعت في شباكه على الرغم من وجودها مع امها واختها، كانت فتاة جميلة انجذبت اليه بسرعة وأخذت تحدثه واتفقت معه على اللقاء في وقت آخر، وفي اللقاء الثاني جاءت بفتاة معها عرفتها به فأصبحت صديقة له واصبحا يلتقيان سوية كل بصديقته، لقد كانت تلك اللقاءات وما يدور فيها من أحاديث، لحظات سعيدة لا تنسى، وشيئا جديدا لم يعرفه من قبل، وكان الحب صادقا متبادلا بينهم مما شجع الفتاتين الطلب منهما التقدم لخطوبتهما، لكن يوسف اعتبر ذلك الحب نوع من العبث على الرغم من حبه الصادق لفتاته، وان الزواج لا يمكن تحقيقه، وانه نوع من المستحيل وضرب من الخيال، لأنه كان يدرك أن أفراد عائلتيهما لن يوافقوا على الزواج من تلكما الفتاتين، وانهم سوف يرغمانهما على تركهما وطلاقهما إن تزوجا بهما، لذلك أخبره بوجوب قطع علاقتهما بالفتاتين وعدم الألتقاء بهما، مما حدى بتلك الفتاتين الى المجيء الى محل العمل للسؤال عنهما، وقد أدى ذلك الى احراج كبيرلكل من يوسف وصديقه فواز تسبب في فصلهما من العمل، وقد وقف بجانبهما بعض عمال المجموعة فقرروا ترك العمل مفضلين العودة معهما والرجوع الى المدينة، كانت السيارة تقترب من المدينة حينما أفاق فواز من ذكرياته، فأخذ يفكر بما سيقوله لأبيه، مفتشا عن صيغة ملائمة يمكن أن يحدثه فيها، ولما لم يجد ما يمكن أن يقوله أو يتعلل به غير ما حدث فعلا، ترك التفكير جانبا آملا أن أباه سيتفهم موقفه، لأنه هو الذي أرسله للعمل وأوصاه بمرافقة يوسف.

توقفت السيارة أمام الخان الكبير في المدينة ونزل منها العمال، حمل كل منهم أمتعته ذاهبين الى بيوتهم إلا فواز فقد نادى على حمال لحمل أمتعته، وبعد وصوله الى البيت تنفس الصعداء لأنه لم يجد أباه، فطلب من امه أن تدفع الى الحمال أجور الحمالية، لأنه لم يكن معه من النقود المعدنية شيئا يدفعه له، وبعد استراحة قصيرة طلب منها ربع دينار لحلاقة شعره الطويل الذي كان يشبه شعر رجال الغجر، لأنه لم يحلقه منذ مدة، وليحتفظ بالباقي لدفع قيمة الشايات في مقاهي المدينة، وعند العشاء تلاقى فواز بأبيه، كان الأب يتوقع أن يحدثه الأبن عن رحلته ويقص عليه ما حدث له فيها، الا أن فواز كان صامتا، يجيب على أسئلة أبيه بأجوبة مقتضبة، أدرك الأب أن هنالك شيئا ما قد حدث لأبنه لا بد من معرفته، أخذ الاب ولده جانبا مطالبا إياه بالأفصاح عن ما حدث له، قال فواز: لقد أوصيتني بمرافقة يوسف دون سواه من العمال، ولقد كان يوسف متعودا على ارتياد دور اللهو صارفاً ما يستلمه من الاجور في بيوت الدعارة وفي الملاهي ومحلات الشرب وغيرها من الأماكن التي تمنحه اللذة وتبعث في نفسه السرور وتحقق له السعادة، ولقد رافقته في جميع الأماكن التي ذهب اليها، وفعلت ما فعله، ثم أخبره أيضا كيف تعرفا على الفتاتين وما حدث لهما بسبهما ورجوعهم الى المدينة مع مجموعة من العمال دون أن يتمكنوا جميعا من دفع اجور السفر، فقال أبو فواز : لقد أوصيتك بمرافقة يوسف لأن أباه من قراء القرآن، وأردف قائلا بلهجة تنم على الرضا والشعور بالراحة: الحمد لله على عودتكما الينا من دون أن تأتياننا بزوجتين غريبتين، تخربان طباعنا، وتغيران أحوالنا وتفرقان بيننا وتفصلاكما عنا وتسببان لنا من المشاكل القادمة ما نحن بعيدون عنها، لان المثل يقول: quot;زوان البلد ولا حنطة الجلبquot;، حينذاك عرف فواز أن ما توقعه صديقه يوسف ووافقه هو عليه كان حقيقة لا ريب فيها.