نحن لا ننصت إلى كلمات الشياطين حتى لو كانت ذات رمز أو دلالة، ممتلئة بالمعنى أو تتناول إعادة كتابة لغة أصيلة، تسبك فيها الزيف، لأن لغتهم تستحق التفحص دائما، لأن الشياطين بحد ذاتهم قساة في لغتهم، لا رحمة عندهم، منذئذ وجدوا قبل بدأ الخليقة، وقبل التاريخ، فهم أشرار بطبعهم، وضد المقدس، والآلهة، والبشر، والخير.طقوس تعبدهم مجهولة، فيها التمايز اللامتناهي، لذلك نخشى أنسابهم، أنصافهم، عناصرهم، وأجزاءهم التي تجيد لغتنا، فهم يبتهلون إلى طقس ديني في إيذاء سياق حياتنا، وعرفنا الإنساني، هم يمارسون شعائرهم السرية على تعاسة غير جنسهم، ونوعهم، فنحن نراهم ولا نراهم، نسمعهم ولا نسمعهم، لأنهم شياطين في العلن والخفاء، وكم من أشياء اخترعها خيالهم، أشياءهم جزعة، مقرفة، مؤذية كالدمار، والخراب، وتهاوي المباني، ما الذي تركوه لنا؟! تهشيم روح الإنسان الفذة، فهم شعلة حارقة لنهاية واحدة في تعدد الإمبراطوريات، وانهيارها، وتواصل التاريخ في غير استقرار، فالتاريخ مرتبط بكتبهم القذرة الملطخة بالسواد، ودرجات تفوق بعضهم على بعض، أغنياء كانوا أم فقراء، بمراتب عالية أم سفلى، هم دائما يضحكون بأعلى أصواتهم أو يبكون خبثا، يتزوجون أولا يتزوجون، ينجبون أبناء أولا ينجبون، كل هذه الأمور نعرفها نحن البشر الأبرياء، عجزنا في السيطرة عليهم، وتجاسرنا فقط أن نلعنهم، قد يسمعون همس لعناتنا، فيضحكون، ويراقبون وجوهنا بتجهم،، وليالينا، ورؤيانا، وأحلامنا، لماذا يمارسون هذا الدور في التاريخ؟! ربما_ يعتبروننا حكاية من حكايات التاريخ، أو عقولنا لا تدرك صنع التاريخ، ربما_ يعتبروننا ذكرى تمحى ما بعد البعث، إذ ينفضح كل شئ، ويتكبل كل شئ، أن نقف جميعا في يوم القيامة، عندئذ ما تنفع في ذلك اليوم حتى كلمات الملاطفة الناعمة التي نحتاجها في وقتنا الحاضر، وينكشف الزيف والحقيقة، حتى بكاء الجزع، ورثاء الدنيا في الصمت والضجيج في ليلة واحدة أوبعد ليلة واحدة، فالعقول التي تغذت بدنياها لا تتغير، وإن تغيرت لا تفهم خلجاتها في ثنايا القرار الرهيب، الكل سيحدد مصيره في الجنة أوالنار، إن كان محصورا بأجنحة خفاقة أو ظلمة حراشف شعلة ملتهبة، _ الفكرة لمعان ساكن _ بوجوه متعددة،مفاجئة، شاسعة بفهمها، وتفسيرها، وصور انعكاسية لنتاج واقعنا البشري، _ في الدنيا يوجد شياطين _ فهمنا الأمر بهدوء أو سذاجة، تظل تتردد في قلوبنا، وتتمدد عل وجوهنا، سوف نحشر كلنا في يوم واحد من التاريخ، وإن تعددت ألواننا، ولغاتنا، سوف تطقطق عظامنا وتخشخش أقدامنا، ونثرثر خائفين، أين يكمن اللغز الكبير؟! تنفتح عيوننا على وسعها بهلع متوتر، ونحن نسمع دوي انفجارات السيارات المفخخة لتقتل الأبرياء، فنوصد أبوابنا أو نهرع خارجين مرعوبين نبحث عن أبنائنا العائدين من مدارسهم، فهناك قعقعة، وهناك جلبة أحذية سوداء، كيف نلم أشلاء أبنائنا، وقد اسودت أجسادهم، وتفحمت، ونحن نتقدم إلى الأمام بسرعة مذهولين، باكين، صارخين، ماذا ينفع ذلك؟! الدم الذي حملناه من كف أو قدم من تراكم أعضاء الأجساد، أو التضرع إلى الله أن ينتقم من الشياطين، ماذا ينفع ذلك؟! فهذه الأم التي احتضنت طفلتها على ذراعيها، وقلبها، سحقها الانفجار لبشري تحت الأقدام، بلا عظام، لحم مهروس، لقد اصطف دم الأم بدم الطفلة، دم مشفوط من دم، كل هذا بفعل الشياطين. هناك جسد ممدد، جسد مبارك، لا وجود مثله، مرتجف، هيكله يحتضن غصن طفلتها المحترق جزء منه في النار، رائحته رائحة موت، لم تستطع أن تنقذ طفلتها، ونفسها من سحق انفجار سيارة مفخخةhellip;. هناك من يحفر من عمق الأرض، لم يصغ أحد إليهم، وهم يحفرون في الظلمة، أيادي مرتعشة طويلة، أظافرها مخالب، وأجساد عملاقة تحفر بغضب، إنها رحلة أخرى من العالم السفلي _ عالم الأموات، عالم اللاعودة، عالم اللارجعة، عالم الأبدية _ نفس أسرار العالم القديم _ أولئك سئموا الحفر، خلعوا قشرة الأرض، وظهروا في آثار بابل بلباس أصفر داكن، بمعاولهم، بفؤوسهم، بعصاهم، بسياطهم. راقبوا، وضحكوا مكشرين عن أنيابهم، وهم يسمعون على بعد أصوات حادة في نزاع، ومغالبة، ومشاحنة، وأخرى انفجارات مرعبة، ونواح، وصراخ. تركوا الأصوات، ومشوا يفتشون في الآثار مستخفين، مستهزئين، أهذه بابل الخربة مكومة في باحة صغيرة، لم يبق منها إلا رمز الموت! فقالوا بصوت واحد يخاطبون عشتار المرهقة، البائسة:
_ انظر!
بكت بكاءا مرا، وتمزق قلبها ألما أن تكون بابل مملكة الظلام، امتدادا للزمان المهووس بالغالب والمغلوب، لم تتفوه بكلمة خجولة لائذة بالصمت المعذب، إذ ذروة بابل الظلمة أشبه بأطلال فارغة، مخيفة، مرعبة، لم تصمد إزاء ندمها، فرفعت يدها اليمنى البيضاء، ومزقت شعرها، قائلة:
_ ذهب جمالك، وحكمتك، وسلطتك، أنت لا تستحقي ذلك، يا بابل.
يبدو أن الخراب يقع لومه على معشر الآلهة، وخيانة مردوخ، وعلى غرورها هي عندما قررت أن تنزل إلى العالم السفلي، ليس لتحرر تموز، بل لتفرض سلطتها على عالم الأموات، بعد أن فرضته على عالم الأرض، الآن فتشوا الشياطين في الجحور، والدروب، وجدوا تمثالا حجري لأسد يعتلي جسد، ضحكوا بابتهاج، وبوجوه متجهمة،، فأردفت عشتار تخاطب نفسها:
_ لم يبق منك أيتها الروعة الخالدة إلا التفوق الهش!
فالتفت إليها أحد الشياطين، وقال بتهكم:
_ هذا وقت آخر يا عشتار.
مشوا في شارع الموكب، فوقع بصر حارس الآثار عليهم، الضليع بمعرفة تاريخ بابل، عيناه لم تصدقا ما تراه، فالرؤية أخذته على حين غرة، فجفل في مكانه مرعوبا، جالت عيناه فيهم، وهو يردد مع نفسه:
_ ماذا دهاني؟
راح يفتح عينيه على وسعهما، ثم ي غمضهما، لم يكن يصدق أن هناك خيال خاطف ينحدر إلى التاريخ القديم، ولم يصدق أن التاريخ يكرر نفسه، وينبعث على أنقاض، وخراب، وآثار، فرأى عينا عشتار دامعتين، ووجهها شاحب، وهي منهكة، مقهورة، (الآن أستطيع أن أرى بوضوح)، هذا ما غمغم به، فوقف في مكانه ثابتا كمن يتحدى ولادة جديدة، وانبعاث جديد، وسلسلة من تجسيد آخر للروح البشرية، كان ينتظر ذلك العالم الآخر، وهو منجذب إليه، شئ ما يحدث في هذه الدنيا، انحنى لعشتار كأي بابلي يفتخر بمجدها القديم، فرأى سواد عينيها، وابتسامتها له، واستغرق طويلا فاغر الفاه، أيهجم على الشياطين، وينقذ عشتار، إنه لا يستطيع، إنهم متفوقون عليه، فراح ينظر إلى الشياطين، وهم يفتشون في شارع الموكب، كانت صورهم تتشدق كريهة في عينيه، التفت، ونظر إلى الخلف، لم يجد أحدا، تذكر سحر الآلهة في الكتب، تناسخ الأرواح، الانبعاث، القيامة، دورة التاريخ، كان ذلك تمازج في لون صور متحركة مدركة حسية في عينيه _ شياطين الجلا hellip;عشتار _ إذن تواصل العيش بعد الموت في أرض شبه ميتة، رمادية، قديمة، كل الماضي يفضي إلى نهاية آنية، مفقودة في حياة ماضية _ ذكرى بابل _ نظر إليهم خائفا بطراز قديم مع آهة مستكينة، ليمتد نفوذ آلهة الحب والجمال والإخصاب إلى الزمن السحيق، إلى زمن الحاضر _ إشارات، علامات _ لن ينسى الحماس الذي أجابهم بها _ إشارات، علامات _ حدث منطقي في أرض الرافدين، انبعاث واحد يأتي كخلق من العالم السفلي _ إنجاب، وخلق _ رباط مقدس بين القديم والحاضر، شاءت إرادة القدر الخفية ببعثهم ، أشياء لا توجد بنفسها، أشياء ليس لها وجود، الآن مسيطرة على الأشياء المشهورة.أشاروا إلى الحارس، وسألوا عشتار:
_ أهذا هوالبديل؟
خشعت، وبكت، وتوسلت إليهم، وتذكرت أنهار بابل، وطائر السنونو الذي بنى عشه فوق برج بابل العالي، وقالت كلمات تتقد، وتنطفئ:
_ لا hellip; ليس هوhellip;
إشارات، وعلامات من الشياطين: دعها تتذكر أيامها القديمة التي فيها سر النفس المخبوءة أيام الطاعون، الحروب، الموتى، الأوجاع، المحن التي سببت المجاعة، تلك التي اجتاحت بلادها، وقضت على أعداد غفيرة منهم، ذلك الألم البعيد، أن يتواصل الفناء _ هذا ما أراده الشياطين.
أجل، عشتار وحيدة مع مشيئة قدرها، خائفة، مدينة لعرشها الإلهي، كانت تتأمل الآثار، ما الذي أفادها من ذلك؟!خطوة تمشي بخطوة على أرضها، ماذا لو زلزلت الأرض، وتشققت الصخور، وانبعث الشياطين من العالم السفلي، سيقضون على لذة العيش في وادي الرافدين، أشياء ليس لها وجود في حضارتها القديمة، آثار متفرقة، محطمة، مندثرة، عشتار وحيدة بلا صديق، ثابتة مثل قرني الثور المجنح، تحب وادي الرافدين، لازالت كلماتها طازجة، لازالت تتذكر عنف كلكامش عندما عيرها بعشاقها، دعها تتذكر أيامها القديمة ،هكذا كانت تحدق بها عيون الشياطين الواسعة المدورة، فالأشياء التي يروها صحيحة، والتي لا يروها أيضا صحيحة، إن بابل مجرد آثار _ إشارات، علامات _تظهر في رأس الحارس، أيقن أنه لن يكون ضحية التاريخ، فضوء الشمس يميل إلى الغروب، غروب دافئ، فما عليه إلا أن يغادر المكان، تراجع إلى الوراء، ثم انسل مرعوبا من بابها الضخم الكبير، المزخرف بوجوه حيوانات، هاربا، راكضا، أنه يركض بسرعة، أنه يركض ليخبر أهل بابل أن عشتار ظهرت من العالم السفلي، وهذه أكبر بشارة في التاريخ، إنها ستنقذ البلاد من الخراب، وتبني الحضارة من جديد، فتبعه الشياطين إلا أن عشتار كانت تصرخ، وتقول:
_ ليس هو البديل.
رأوا شابا راعيا يرعى ماشيته، فسألوها بغضب:
_ أهذا البديل؟
فأجابت بامتعاض:
_ أجل hellip;هو البديلhellip;
انهالوا عليه ضربا بالفؤوس، والمعاول، والسياطين، وأوثقوه بالسلاسل، والدم ينزف من جسده، وأخذوه إلى داخل آثار بابل، ونزلوا به إلى العالم السفلي، أما عشتار، فهربت إلى البساتين، وعرجت، في أمكنتها، وحلقت إلى معشر الآله، بينما واصل حارس الآثار ركضه، وتوقفت عند مدخل إحدى القرى، لاهثا، يسحب أنفاسه بصعوبة، فتجمعت حوله حشود من أهل القرية ببنادقهم، وسيوفهم، وخناجرهم، وهم يسألونه:
_ ماذا حدث؟!
_ خطفوه hellip;
_ خطفوا من؟
_ الراعي حميدانhellip;
_ من هم؟!
_ الشياطين hellip;
جلس على الأرض، فأحاطوه متعجبين مدهوشين، وراح يحكي لهم عن التاريخ بعد أن ارتاح قليلا: (قبل ستة آلاف عام كان هناك معشر للآله في السماء، وكانت عشتار آلهة الحب والإخصاب والجمال، أبوها إله القمر (سن)، وأمها الآلهة (ننكال)، وأخوها الآلهة (أوتو)، وأختها الآلهة (إيرشيكال) آلهة العالم السفلي عالم الأموات، وعلى عشتار كان يتوقف خصب الطبيعة بكل محتوياته من إنسان وحيوان، ونبات، فبدونها يموت كل شئ،فعليها يتوقف الغذاء، والتناسل لديمومة البشرية، ذات يوم كانت ترقص تحت ضوء القمر، فرآه إله الرعي (تموز)، أحبها، وخطبها من أهلها، وتزوجها، إلا إنها أرادت أن تملك عالم الأموات بعد أن فرضت سيطرتها على عالم الأرض، إلا أن أختها (إيرشيكال) بعد أن نزلت إلى العالم السفلي عذبتها مختلف صنوف التعذيب لأنها تكرها، ولأنها هي آلهة العالم السفلي. توسطت بقية الآلهة إلى رئيسها، من أجل إنقاذ عشتار، وعودة نسل البشرية بعد أن أخذ يتناقص، فاشترطت أختها بديلا لها، وهكذا تمر الأيام، فيصطحبها الشياطين إلى الأرض لتسليم بديلها، فوقع اختيارها على زوجها لأنه لم يحزن على غيابها، وكان يقيم الاحتفالات غير آبه بمصيرها في عالم الأموات، يظهر أن التاريخ يتكرر الآن، فهي لم تسلمني إلى الشياطين، بل سلمت الراعي حميدان، وأنا لا أعرف لماذا، هل لأن زوجها تموز كان راعيا؟! أنا لا أفهم ذلك، والآله تموز يتوقف الربيع على وجوده، فبظهوره تزهر الأرض، وبدونه تصبح الأرض كالحة جدباء لذلك نحبت أخته (كشتن آنا)، وشقت ثيابها، وأبدت استعدادها أن تبدل تموز كل ستة أشهر). أغمض الحارس بصره كأنه يبحث عن نجدة، كان عاجزا عن التقدم بحديثه أكثر، ووجهه شاحب متلفت إلى وجوههم، وهم يرددون مع أنفسهم (قد يكون الحارس على حق، وهو من الناس الطيبين الشرفاء)، فانتظر صامتا، فتكلم شيخ عجوز بصوت أجش غاضب:
_ أريد ابني حميدان، طيب hellip;بدلها بأخته فطيمة hellip;
هتف أحد الفلاحين، قائلا:
_ سميه كشتن آنا
التفت إليه العجوز، وقال بانفعال:
_ ليكن ذلكhellip;
فانفجر الفلاحون في الضحك، وثرثر البعض، ولم يجرأ الحارس على الكلام عدة لحظات، ثم قال بتودد:
_ التاريخ يعيد نفسه على عدم الاستقرارhellip;
بدا يسيطر عليهم شئ غريب، وهم يتناقشون، غمغم أحدهم، وقال:
_ ماذا نسمي ابننا الراعي؟
أغمض الحارس جفنيه المثقلين، وهو يتفكر، وقال:
_ تموز hellip;
قاطعه الشيخ العجوز، وهو يمسك سبحة طويلة سوداء، قائلا:
_ ماذا سنفعل حتى يرجع تموز لفترة ستة أشهر؟!
كان الفلاحون يثبتون أنظارهم على الحارس، وكانت بين الحين والآخر تصدر ضحكة أو كلام متقطع منهم، وهو يسمع وقع خطى ثقيلة تتجمع حوله من القرى بعد أن شاع الخبر، فوقف بثبات واثقا من نفسه، تنم من عينيه حزنا، وهو يقول:
_ الآن عشتار مع معشر الآله، وهي تحب أرض الرافدين، وستنقذهم من الدمار، والخراب، والموت hellip;
نفد صبر الفلاحون، وكان أحدهم يكلم الآخر، ويتطاير الشرر من عيونهم ليقبضوا علي الشياطين، ويخوضون معركة شرف، هذا ما كان ينتابهم، فقال أحدهم بصوت متوتر:
_ قل لنا ماذا نفعل؟
أخفض الحارس رأسه بألم، ثم رفعه، وقال مثلما قال شاعر الحضارة القديمة:
النواح ، النواح أيتها المروج، النواح hellip;
وردد أيضا قول عشتا مأخوذ من شاعر قديم:
راح قلبي إلى مكان تموز
إلى العالم السفلي، مرقد الراعي
فاطلق فلاح تنهيدة، وقال:
_ لم أفهم شيئا.
لقد أذوى الحارس الجهد في إقناعهم، وخيل إليه أنه نفذ إلى أعماقهم، فأردف قائلا
_ غدا نخرج مظاهرات في وسط مدينة بابل، نرفع الرايات، واللافتات، ونكتب عليها:
_ عشتار المنقذ الجبار
تموز عد إلى البلاد!
وادي الرافدين في انتظار