أيعتلي صوت الحدأة كل منائر الولايات المنثورة فوق سواد الحروف!، وهل للذاهبون بثور تعابثها الغربان في فلاة مزروعة ببقايا قبور؟ رفع الشيخ الأحدب رأسه ليودع سرب حمام أزرق غادر حقول العيش في ساحات الكاظمية، كان النهار يلفظ شرر نوره لحظة هبوط الظلمة في الطرف الآخر من الجسر، نكس الشيخ رأسه وهو يختم يقينه بأنين أكداس الحمام الأزرق في مزاغل جدران الأعظمية، وكان الجسر يلفظ لعابة ومزحاته بين طيات الأقدام القاحلة في رحلة اللاّعودة.
هاهم قادمون من أقاصي الجنوب، فلاّحون، رعاة، خزّافون مهرة، بناؤون أرهفت الحياة أخيلتهم فراحوا يبتدعون شوارد الفكر في تأصيلات وفنون، عاطلون عن العمل بعد أن إشمئزّت سحنات الحقول من صفحات معاولهم، تحملهم حبال السيقان المعفّرة بالطين والملح، طيور وضواري تحرس ذؤابات الرتل الطويل المندس في دخان الفكرة والغد المرمز بالإستفهام وأنهار الرماد، وكلماّ مروّا بالبيوت الطينية في ضواحي المدن المنشغلة بالحضارة، شيّعتهم الغربان وكلاب المسالخ وأرتال الضباع الموسومة بالتصيد في متاهة الإنشغال، هاهم يلوذون بالفلاة العارية إلاّ من أصداء الصخب كما الغجر عند مشارف لاس فيغاس مواسم الأعياد، يتناسلون في أخيلتهم كالذباب ويتناثرون كالوهج عند شروق لايتكرر في تواريخهم الدامية، ربما هم أكثر من غيرهم يدركون جسامة ما تنسجه الأقدار ضدهم، هناك، عند حقول القمامة يرممون أكواخهم وينتظرون، يتأملون كفوف السماء تهبهم أفراساً نارية ليختزلوا بصهواتها كل تلك المسافات ويقتحموا المدينة التي ولدتها أكفهم، وعمّرتها أكتافهم الصلدة، المدينة العاهرة التي بصقت في وجوههم في أول إحتفال صيفي لجني الفرح.
في أرض السواد يولد الفعل مثلما السكون، سيّان في تجريم الليل وبقايا النهار، في أرض السواد ينبت الحب في صهاريج النار، في الخبايا، في مزابل تأريخ أنهكه التأويل، ولغة باتت عاجزة عن إدراك علّتها في فهم الآخرين، هناك في دروب القبائل يذبحون البشر مثلما الخراف ويتوضّؤون في الخضاب، ببنادق محشوة بالعويل يمزّقون صفحات الحنين ويوقدون في الجذور نسغ التشتت، هناك بين أرتال النخل المقطع الأوصال يصهل الموت مثل نباتات الصبير، هناك... الصحراء تتعملق بوجه الماء والشجر يتقزّم في فلاة مسورة بالتراب، الخضرة تهرب كل يوم، كل ساعة أمام عويل المجنزرات، والأرصفة سقطت أسنانها من سماجة مزاح العاطلين عن العمل، ها هم يمزحون مع الفراغ ويكتبون القصائد من جديد، نفذ حبر التقارير السرّية من أسواق مابعد السقوط وحضر حبر الأدعية وتدبيج الأسماء الإلهية المقدرة، في أرض السواد.. الناس يركضون خلف احلام التموين، يهرولون وراء سحب الأمل، وحينما يسقط المطر تحضر الفجائع، بين مأتم ومأتم حدأة تنوح، وبين عربة وعربة على رصيف مهدم يجلس متسوّل فقد ذراعة أو عينه في متاريس جهنم التي حلت في أرض السواد ضيفاً ثقيلاً.
يتسائلون... من نبش تأريخهم الملغم بالأقاويل وعبث في سكون بحيرتهم ليلة العيد؟ كانوا يتحرّكون دون كنى، دون تسميات تزفّ لهم الموت في باصات النقل العام، ظل الله في الأرض كان خرابهم الوحيد، هاجسهم الوحيد، ينامون ويستيقضون وصورته لم تزل متشبثة بشاشة تلفاز الحضارة الجديدة، أيقنوا بعد أعوام التيه أن الله يعاقبهم بصورة ظّله في الأرض، حاولوا أن لا يستيقظوا باكراً وناموا السنين العجاف، وحينما تعالت الصيحات اختفى ظل الله وظلال جميع الكائنات التي كانت تنقر في حقوله، وأكل العري الشوارع والدروب وتسللت القحالة لتغسل وجه الصبح في مدن العراق، تواربت القامات وتشظّت في عتمة اللغط والعويل، رحل اللصوص من ساحات المدينة وحل السماسرة، تجار الحديد والخراف، باعوا كل شيء لرعاة البقر، شوّهوا كل اللمسات الجميلة التي أبدعتها أنامل جواد سليم وفائق حسن، أنزلوا قامة المتنبي من ربوة الشعر، قيدوه بالأدعية ومجالس العزاء، قطعوا رأس المنصور بعبوة صغيرة مثلما ذبحوا الآلاف من أطفال العراق، حطّموا خزائن الأحلام وتركوا الأوهام تسيح بين الأشجار العطشى، في متنزهات خاوية تسأل الظلال الهاربة عن بقايا رغبات للفرح، في العراق... الدموع مفتتح التسابيح، والبسمة الممزوجة بتجاعيد الزمن هي ملح اللحظة الهاربة.
هناك عند المشارف يقفون وعيونهم ترنوا لمنائر الكاظمية، يتأملون كلمات الرب وتواشيح الحداد، كم مات منهم في مزحة الجسر وكم بقي منهم ليكمل ميتة الفصل الأخير من تلك المسرحية البائسة؟، بالأمس دونت تواريخم ملفات التقارير البوليسية وأخفت ملامحهم أخاديد المقابر الجماعية، واليوم تأكلهم العبوات والسيارات المفخخة بالموت، كانوا وما زالوا يموتون دون دموع تؤبن رحيلهم، كانوا ومازالوا يضيفون سواداً وعتمة لأرض سوادهم التي ما تعبت يوماً عن إحتوائهم، والجمهور يتفرّج دون انفعال، يحملون فؤوسهم ومناجلهم ويقصدون قرص الشمس لنسج حكايتهم، سيقانهم تكابد وعورة الدروب وجدب اليباب، منذ قرون وهم يعسكرون عند تخوم مدينتهم التي حملوها فوق ظهورهم دون أن تهنأ قلوبهم في رياضها، في كل الأزمنة تتواجد المصائب التي تحول بينهم وبين مدينتهم، في كل الأزمنة تحمل لهم الأقدار من ينوب عنهم في ممارسة الحب والفرح فوق أجسادهم، ومالهم من الكدّ إلا الزفرات وأرتال الآهات، والآن بعد هذا الكم من العذاب باتوا يشكّون في حقيقة مدينتهم العاهرة، المدينة التي تستلقي عند أقدام كل مسافر وتبصق في وجوههم حين يقتربون، منهم من يقول أنها اللعنة التي حلّت في جسد هذه الفاتنة التي جلبت لهم مآسي المعمورة كلها، حتى تقاطر عليها الغزاة والسماسرة ومن قبلهم كان الجلاّدون واللصوص، أي فاجعة تمخر في أوقيانوسهم وسواقيهم، وأي تراجيديا سوداء تتقمصهم وهم يرقصون فوق أجساد ضحاياهم، يبيعون لحومهم وهي تتحرك بأنفاس الرب، وينتهكون محارمهم أسفل شرفات البيوت المقدسة، حتى قداستهم فقدت عذريتها في مهرجانات الليالي المطعمة بالدم والنار، الكل يهذي لحظة الفجر، الكل يسفك الدم ويتوضأ بنجيع الأحلام يسأل الرب عن سبل النجاة، يصلّون لرب كان بينهم، ورب أوشكوا أن ينسوه، في أرض السواد ماعادت حكاية شهرزاد تتكرر كثيراً، شهريار ماعاد قادراً على ممارسة الحب، شهريار استنبت روحة فعل القتل واحترقت حدائق مخيلته، في أرض السواد تحدث الأشياء مثلما ترونها في عيون عدسات المصورين التي باتت عاهرة هي الأخرى.
ديترويت -2006
التعليقات