في اليوم السابع استراح الرب، ووضع رجل على رجل، وجلس على قفاه فوق عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، عندئذ كان في السماء نصف قرص القمر، لذلك في هذا اليوم المقدس المبارك لا آكل لحم مشوي، وخبزا، ولا أبدل ملابسي بأخرى جديدة، ساعيا إلى الأيام من دورة الأسبوع، وأقتفي أسابيع الشهر، فأزجها في زمن الماضي كصور مكثفة، متضحة، خاطفة، متحركة، فاليوم السابع يقيدني، ويجعلني في متاهات لا مثيل لها، تتجاوب في غياب وسوسة مشاعري، وأنا أتقصى أثرها، وأضرب في الغياب تائها، مستطلعا، لائذا بوحدة قاسية كي أفضي إلى شئ محدد، تنتشي به أذني كأصداء خفيفة أسمعها، وأظفر بها بقبس يتوامض، خاطفا، مشرقا في ذكرى تلوح إلى ذكرى، ومشاعر تستجلي مشاعر، ففي ترادف هذه الأحاسيس، والصور، يتسق لي أن أتفاعل مع الزمن، أعيش فقدانه، مضيع لحظاته، وهو دائما في قدوم، لا ملمس له، لا لون له، ولا حتى صورة له، دائما أضيع في اليوم السابع المتمرد، المكونة أعوامي منه، يسحرني، ويقيدني بأغلاله، ثم يجعلني مطيعا، مستسلما تارة، جامحا، شامخا تارة أخرى، بيد ينطوي في فترة على اكتمال البدر إذا ما تحدثنا عن الزمن القمري، إلا ما حدث لي في اليوم السابع لم يحدث لأحد غيري، أنا الذي أبلغ الخمسين من العمر، وأكملت دراسة العلوم الإنسانية، وأعمل أستاذ في جامعة المستنصرية، فقد كنت أتقلب في منامي فوق السطح العالي قبل أن ينهزم الظلام فجر هذا اليوم، وأحلم أن أكون بطلا شعبيا عظيما، فقد كان أول صوت سمعته قبل أذان الفجر من الجامع كان صوت يدعو إلى التحرر من الاحتلال بكافة أشكاله، فنهضت بسرعة، مدهوشا، متعجبا، ,أنا أسبق الفجر ليتفتح أمامي فجر آخر، ونهوض جديد، يتفجر في كل اتجاه، لا يمكن أن يخمده النسيم الآتي من نهر دجلة الذي راح يضرب جبيني، لقد كنت رابط الجأش، تتراءى لي صورا : رجال يغرقون بالدماء، جثث مكومة فوق بعض، سيوف اقتحمت بطون، رؤوس أطيح بها.
كان الصوت مضغوطا، مجذوبا لي بصورة شبحية، لم أكن أعرف كيف كان يبدو أمامي، إلا أنني شعرت بنفسي متجمدا، واقفا في فراشي المفروش على أرضية السطح، وقد خلق من زمن الصوت غي المتجانس الذي تزحلق علي متموجا، وهو يدعوني إلى النهوض في ظرف نهائي، فائق في خلفية المنشأ مثل نجم تهاوى متفجرا، أو منكمشا إلى نفسه، أحسست بتقلص في ساقي، واقتنعت تماما إذا لم أتحرك أعجز أن أنفلت من الفراش، وقد حاولت أن أخرج قدمي من الفراش، وبقيت عاجزا على أن أتصرف إزاء قوة جذب هائلة من الصوت، وفي لحظات متعاقبة جاءتني من الماضي السحيق، بحلول جيل جدي بجيلي، بإيقاع متناوب، فأيقنت أنا المشمول الوحيد بهذا الصوت، آنذاك استنبطت بكامل الوضوح والدقة أن الطريق مهد أمامي أن أصبح بطلا، وذاكرتي متجه نحو الماضي، إذ نهوضي يضع حدا للانهيار في وطني، لأن الانهيار ما زال جاريا، فعلي بزمان الشيء، أي اخترت في أفضل زمن، وعيناي يقبلهما النسيم، فنزلت من السطح العالي إلى الحوش، ودخلت غرفة جدي، وسحبت السيف من غمده، وهززته في الفضاء، مثلما عهد لي الصوت، أن أقود التحرير، رغم أنني أبدو شاحبا، ضعيفا، منهوكا، لكنني كنت على أتم الاستعداد أن أفدي نفسي من أجل وطني، مهما يهددني من خطر، ثم وجدت أنني لا يمكن أن أنجو من أية معركة تحدث، وربما ndash; أسبب الفوضى للمحررين، ولكن الآن تلذعني وخزات شديدة لا تطاق أن أكون قائدا مرعبا، استمد قوة مطلقة من دماء الأجداد، بحلول ذكراهم في نفسي، كان الصوت حاد، وقد سحرني، وتآلف معي، وجذبني إليه حميما، وهذه أول مرة أكتشف نفسي، بوجود حقيقي بارع في عهد مضطرب، مؤججا مشاعري أن أكون بطلا شعبيا أوحد البلاد، وأوقف قطع الرؤوس، والتفجيرات، والحرائق، والقذائف، جاعلا التحرير يشتعل بسيفي، تحت قيادتي في معركة عنيفة، أنهض بها الأرواح الخالدة، فجأة جاءني صوت الأذان كما لو يوقظني من غفوتي، فسقط السيف على الأرض، وتوضأت، وأديت الصلاة، وتأكدت أن لكل شئ وقت منذ دهر الداهرين.