quot;هللوووو Hellooooquot;: انجاز مسرحي ضد الثقافة المزيفة

غالب الشابندر من السويد: لم يكن مسرح (حسن هادي) يعالج حالة مندرجة في خانات التكوين المعهود في عالمنا البشري، فالعتهُ الفكري والروحي ليس أمراً شاذاً بطبيعة الحال، والمصحات العقلية والنفسية معلم من معالم مسيرة تاريخ العيادة الأوربية على اختلاف الرؤية من الجنون تبعاً لاختلاف ثقافات الأزمنة المتعاقبة، وقد أجاد الفيلسوف الفرنسي الراحل (مشيل فوكو) في تشريح هذه القضية التي تختزن أكبر إدانة بحق المجتمع البشري القاسي، بل كان المخرج العراقي الموهوب إشكالية حوار صامت بين الجنون والتاريخ، بين الجنون والدولة، بين الجنون والقيم، بين الجنون والدين، بين الجنون والجنون بحد ذاته.
فالمصحة كانت شهادة وفاة بحق المجتمع الإنساني، بحق الإنسان السوي، بحق القيم التي أدانها (نيتشه) من عميق شعوره بالعلو، والتعالي، فما كان منه إلا أن أعلن جبن القيم، فيما كان شكسبير قبله يؤكد أن الاخلاص جعلنا جبناء.
الإنجاز لم يكن مشروع خلاص من جدران المصحة، بل مشروع إدانة فاضحة لجبروت الانسان الذي يعتبر نفسه سوياً، وبذلك يريد العمل أن يشيد لنا عالماً جديداً من القيم، بل منظومة جديدة من القيم، القيم التي تنبثق من الشعور أكثر مما تنبثق من مواضعات الضمير البشري عبر تجاربه المادية، فكان الجنون حكمة، فيما كان العقل ظلماً وتعسفاً.
كان المجتمع الانساني ينتظر الانجاز لأنه أصلاً غير مُنجِز، ولأنه خاب أمله بتقنيات الرقم والحاسوب وتشفعَّت له بدائيات قديمة ليستمر أحساسه بنفسه، ولكن المصح كان مفعماً بالتعاطف مع مشاكل خارج مساحته الضيقة، فقد كان يمتد بتاريخه إلى مجتمع ضد الدولة، مجتمع يريد أن يهرب من الثقافة التي أقر الآخرون انها ضد الطبيعة، مجتمع الفطرة الذكية عاطفياً.
مصح ولكنه مصح لا يعالج نزلاءه، بل يعالج المتفرجين بالذات، وكنت من المتفرجين الذين شعروا أن أبطال هذا المصح منهمكين بتخليق ترياق روحي ينقذني من جبروت غريزتي المفعمه بالخراب والتدمير، ثم الدجل الفكري الذي عاث فساداً في داخل روحي.
كانت فوضى جسدية تغمر المصح بعبقها المتمرد على شهوة عارضة، لتطلب شهوة أصيلة، تشتعل بنارها المتاصلة فيها فطرةَ وليس إكتساباً، كان مصحاً متمرداً، متمرداً ليس على جنونه، بل متمرداً على هؤلاء الذين يضجون بالسؤال عن مصير نزلاء يختزن كل واحد منهم شهادة صارخة ضد الزيف.
كانوا نزلاء أذكياء، ولكنه الذكاء العاطفي، ذكاء الذين يعانون من أجل البشر، عذاباتهم، غبائهم، قسوتهم، ضياعهم، نفاقهم...
كانت سياحة في عالم البراءة، والجسدان الراقصان كانا يجسدان وحدة الكائن البشري عبر رقصة متطابقة المعاني، عبر توازي خطين يحكمان الكون من أقصاه إلى أقصاه. خطان راقصان، يتمحوران حول نقطة أزلية هي الحقييقة، الحقيقة البشرية، فيما الصوت الرخيم يهيم في دنيا لم تُخلق بعد.
صوتها كان يترشح من رحيق جسدها الملائكي المتوشح بعذاب البشر، فتسيح عوالم متوازية تطوف فوق رؤوس الخائفين لتمنحهم اطمئناناً.
كانت تلهث بصوتها عميقاً، تشهق بروحها ولكن بهدوء، تلتحم مع زفير ملكوتها الداخلي، فغاب عن عيني ظاهرها لتتشبّع بداخل يسوده الشجن.
كان هناك نص وما بعد النص، وكان هناك مشهد وما بعد المشهد، ولست معنياَ الآن بالنص بقدر عنايتي بالمشهد، يتحرك المشهد من الأرض ليرمي بثقله خارج حدودها، مشهد الأرض يترجم نفسه بمعادلة ميتايفيزيقة، ميتامشهد، يوازي المشهد الارضي.
مشهد الارض لنا، مشهد السماء لهم، الفيزيق لنا والميتافيزيق لهم، هناك عالمهم الحقيقي، فيما نحن غارقون بتامل المشهد القريب من حواسنا، كانوا أذكى منا جميعاً.
ومن ثم كانت (عايدة)!!!
هي...
تستلهم من جسدها كل حريقها، رقصتها تهز أسرار الكون كي يتشكّل من جديد، تعجن جسدها بناره وحده، تشتعل بسرها الملكوتي. لقد تصاعد العمل، من الشعور بالواحد المنقسم على نفسه، إلى الواحد المتحد بنفسه، إلى الواحد الذي يستعد ليكون الأوحد.
لقد أثبت الجسد في مسرح حسن هادي أنه هو الآية، وليس الروح، (عايدة) قد تجاوبت مع ذاتها وليس مع النص، كانت تخلق نصها الجسدي الخاص بها، كانت نصاً حرقياً من الخارج ونصاً جسدياً من الدا خل.
الرقص كان يرسم دوائر خاصة به، دوائر خارجية ولكن سرعان ما تتفكك الى مساحات هائلة من المعاني، يختصر لنا علاقة المصح أو نزلاء المصح بالعالم، لم تكن إدارة المصح هي التي أطللقت سراحهم، بل هم الذين أنتشلوا أولئك الحراس من جبروتهم ووحشيتهم وثقافتهم المزيفة.
لست من الذين يقرأون النصوص من اليمين إلى اليسار، بل بالعكس، ولست من الذين يقرأون النصوص على سويتها الظاهرة، بل معكوسة، كان العالم هو المصح، وكنا نحن المرضى، أراد المنتِج أن يسخر من الإدراك البشري في مرحلة من مراحل شروره!!
وتعود (عايدة) تشدو كلماتها لتخرجنا من روحية الجسد إلى جسدية الروح، كي تجعلنا ندرك حقيقة أننا واهمون.
مسيرة جسدية من الحق إلى الخلْق، ومن اللاهوت إلى الناسوت، ومن الثقافة إلى الطبيعة، ومن الهمسة إلى اللمسة، فيما (حسن هادي) يصرخ يخدع نفسه بالنجاح، وكان حقاً ناجحاً، ولكن في تحويله لمداركنا من الغياب إلى الشهود، ولم يكن راضياً أن يخرج من المصح، لأنه سوف يلتحق بنا، فيزيد من كمية المأساة في هذا الوجود.
خرجتُ من المسرح إلى غابتي، هناك رحتُ أتامل أوهامنا نحن الأسوياء من بني البشر.