الحضارة سياق مترابط يأخذ بعضه بأطراف بعض، ومن المستحيل فصل جزء عن غيره، وهذا إذا حصل فسيؤدي إلى شلل حتمي، إنه يشبه إلى حد كبير، من يقود طائرة بعقلية قيادة جمل كبير في السن لا يكاد يقوم!
والمتابع للمجتمع السعودي -في مجمله- يجده وقع في حرق المراحل، حين انتقل من النمو الطبيعي إلى التنمية الإجبارية، دون التهيؤ العام لاستقبال ضيف ثقيل كـ"الطفرة"!
لقد كان المجتمع قبل الطفرة يعيش بوجه واحد، ويأكل من صنف واحد، وينام على سجيته متخذاً الليل لباساً والنهار معاشاً، ينتشر في الأرض، معتبراً أن عدة الشهور عند الله "اثنا عشر شهراً"، فالمزارع ينتظر محصوله مرة في العام، والموظف يأخذ راتبه مرة في الشهر، والمحتاج يأكل اللحم مرة في الأسبوع، والراغب في الطعام يأكله مرة في اليوم والليلة، بل أن الدجاج والنحل وسائر المخلوقات، كانت تسير على فطرتها عندنا إلى أن جاء عصر الطفرة، فانقلبت أعالي الأمور إلى سافلها، وتغير كل شيء، وصُدم المجتمع وضاعت ملامحه، وتبدلت أزياؤه وملذاته، ومشاربه وأذواقه و"سفرياته".. حصل كل هذا دون تهيئة المكان والإنسان لحركة الغليان، حتى جاء بها الزمان! ثم ماذا حدث؟!
أصبح -هذا التائه- يحمل وجهاً واحداً، جاف الطلعة، أحادي الملامح، لا يرغب به أحد، ولا يجالسه أحد، فما لبث أن تغير وتبدل، واستعار عشرات الوجوه، وجه للطلعة مع الزملاء في الاستراحة، ووجه للزوجة، ووجه للأولاد، ووجه للمدير، وآخر للمسجد، وخامس "للثلوثية" وسادس للكتابة -إن كان ممن يكتبون- وسابع للفهلوة، وثامن لخارج البلاد، حين يفر المرء من العباد، ليكثر هناك من الفساد! أما الطعام، فالقوم لم يصبروا على طعام واحد، فأخذوا ينوعون الموائد، ويأكلون الأطعمة المتنوعة حجماً ورائحةً ومذاقاً، حتى وصل الأمر إلى أن يُؤلف أحدهم كتاباً بعنوان: "الفوائد في عدم تنوع الموائد"! وأما النوم، فالساعات البيولوجية انحرفت، فانقلب النهار ليلاً، والليل بياضاً!
وأما الزمان، فقد تلاعب به القوم، فالمزارع صار يغتصب التربة والماء والمناخ، ليزرع مزروعاته في "بيوت محمية" تختصر الزمان، وتستعجل الثمار في سباق مع الوقت، ومن هنا تخرج الثمرات قاسية بلا قلب، وجافة بلا طعم، ويابسة بلا روح! والموظف لم يعد يكتفي براتبه، فابتكر لعبة "الأقساط" واستعجل رزق "المستقبل" ليأخذه الآن فوراً، و"يتدبس" بسداد أقساط تلاحقه لسنوات طويلة! والمحتاج الذي كان يأكل اللحم مرة في الأسبوع، فقد أصبح يأكله مرة أو مرتين في اليوم، ليُصاب في مفاصله، ويعاني من "النقرس" وزيادة في الأملاح! والراغب في الطعام الذي كان يأكل مرة أو مرتين في اليوم والليلة، أضحى يأكل ثلاث أو أربع مرات، ناهيك عن "التخديش" و"التلبيبة" و"النقرشة" و"القدوع" و"الكيك بعد العصر" و"تهشيم المُكسرات" و"الحلا يدفع البلا"! حتى أنك ترى واحدهم يسير في الشارع، وكأنه يحتضن زير ماء، أو كيس أسمنت!
حتى الدجاجة لم نتركها على فطرتها، فقد قام التجار بحبسها في حجرة مظلمة، وأخذوا يُشعلون الأنوار البيضاء كل ست ساعات، لتعتقد هذه "المسكينة" أن ضوء النهار انفلق، فتستجيب لفطرتها وتبيض، وبهذا يحصل التاجر الخبيث من الدجاجة الواحدة على أربع بيضات في اليوم، بعد أن كان يحصل على بيضة واحدة فقط!
حتى النحل لم يسلم -هو الآخر- فقد تم تضليله، وإجباره على أكل السكر، ليُنتج لنا عسلاً لا شفاء فيه!
هل أبالغ إذا قلت أن ديك جدتي كان سليم الفطرة، يُنادي بعد انجلاء ظلمات الليل، على صلاة الفجر في وقتها، وكانت جدتي -رحمها الله- تضبط ساعتها على صياحه، أما الآن فقد ضاعت ساعتنا، وأصبح الديك يصيح طوال الليل، باحثاً عن "هويته" و"فطرته"!
في النهاية، لا نلوم إلا أنفسنا حين انحرفنا، ولكن ماذا نقول إذا الحيوانات سألت بأي ذنب مُسخت؟!

[email protected]