التعليم لا يصنع ثقافة جديدة، بل قد يُرسخ الثقافة القديمة نفسها. هذا ما قاله المفكر المبدع الأستاذ إبراهيم البليهي في برنامج (إضاءات) الذي يقدمه في قناة العربية الوجه الإعلامي المتميز تركي الدخيل. ورغم أنني أوافق الأستاذ البليهي على هذا المنحى إلى حد كبير، إلا أن القضية في تقديري (نسبية) وليست على إطلاقها. ربما أن هذا ينطبقُ على العلوم التطبيقية العلمية البحتة، التي لا تصنع عقولاً متحضرة وإنما عقولاً متخصصة، أما العلوم الاجتماعية والأدبية مثلاً، فلا بد أن يكون لها انعكاسات (ما)، سلبية أو إيجابية، على تشكل ذهنية (الطالب) المتلقي للتعليم، بالمضمون الذي يؤثر على ثقافته، ويأخذ بها إما إلى (الجمود)، أو إلى التغيير والتطور والتجدد.
خذ مثلاً نظرتنا إلى التاريخ. مشكلتنا أننا أمة مغرمة بالتاريخ، أعناقنا دائماً متجهة إلى (الخلف)، لا إلى (الراهن) ناهيك عن (المستقبل). فخرافة أن (التاريخ يعيد نفسه) وهمٌ يعشش في نسيجنا الفكري، ونعلمه حتى لأطفالنا.. هذه (الخرافة) هي في تقديري إحدى معوقاتنا في التعامل مع الواقع، التي جعلتنا نبحث في تاريخنا عن أيامه (المزدهرة)، ثم نحاولُ أن نعيدها بالقوة. ونسينا أو تناسينا حقيقة أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء إطلاقاً، وأن التاريخ لم ولن يعيد نفسه يوماً ما، وأن ما مضى لن يأتي ثانية أبداً.. ومع ذلك مازال الكثيرون منا (يتبطحون) في محطات القطارات، ينتظرون ذلك القطار الذي سيتحرك (ريوس) ذات يوم، متجهاً إلينا (فنركب) به، ونلحق بالأمم الأخرى التي سبقتنا، ونحيي ( مدنيّة لنا سلفت)، لتعيدنا من جديد كائنات (حية) وحيوية ومؤثرة لها دورٌ حضاري تحت الشمس. مثل هذه النظرة من أين جاءت، وكيف تجذرت، أليس من التعليم؟.
كيف نخرج من (قوقعة) التاريخ، ونصرف أنظارنا من الاتجاه إلى الماضي لنجعلها تتجه إلى (الواقع) أولاً وإلى (المستقبل) ثانياً، إلى عصر (الخلف) لا إلى عصر (السلف)؟.. هذا هو السؤال الذي يجب أن يكون (ملحاً)، والذي يجب أن نتلمس إجابته بكل جد واجتهاد. هنا لا بد من العودة ـ أيضاً ـ إلى التعليم مرة أخرى. نحاولُ به (كأداة) لتغيير هذه النظرة الماضوية الرغبوية التي قتلتنا، وسيطرت معاييرها على رؤيتنا إلى واقعنا ومستقبلنا معاً، وحولتنا إلى كائنات (ديناصورية) تحملُ في جيناتها أسباب انقراضها.
دعونا نعلمُ أبناءنا مثلاً (تاريخ الأمم الأخرى)، تاريخ أوربا، أمريكا، الصين، اليابان، بدلاً من أن نحصرهم حصراً في تاريخنا المحلي والعربي و الإسلامي. دعهم يطلعون على تاريخ تلك الأمم التي تقود الحضارة المعاصرة، كيف كانوا وكيف صاروا. دعونا نحاول أن نفتح ولو (كوة) صغيرة في جدار العزلة الثقافية التي نعيشها، ولنبدأ من التعليم، وبالذات فيما يتعلق تحديداً بالعلوم الاجتماعية، وأهمها (التاريخ)، ولنجعله قدر الإمكان تاريخاً (مقارناً) بدلاً من وضعه (الانتقائي) الحالي.
إطلاع أبنائنا على تاريخ الأمم الأخرى سيوسع بالضرورة من مداركهم، وسيلغي على الأقل تلك النظرة القاصرة والمحدودة والأحادية إلى العالم الآخر. سيُعلمهم أننا لسنا وحدنا الذين عاشوا ويعيشون على هذا الكوكب، وليست حضارتنا فقط هي الحضارة (العظيمة) التي عرفتها الإنسانية، وإنما هناك حضارات أسهمت هي الأخرى في ما وصلت إليه الإنسانية اليوم. وأنهم يجبُ أن يستفيدوا منها ومن تجاربها وليس فقط من تجارب أسلافهم.
ولأننا أمة محصورة في تاريخها، أنظر كيف يتعامل مثقفونا مع (العلم) خارج منظومتنا العلمية التاريخية، إنه الجهل المطبق.
خذ (علم الاجتماع) على سبيل المثال. عرف تاريخنا عالماً اجتماعياً واحدا هو (عبدالرحمن بن خلدون)، والذي كان بلا شك إحدى الإضاءات الحضارية في تاريخ (علم الاجتماع) على مستوى العالم. غير أن قيمته (اليوم) تبقى قيمة تاريخية، أما (علمياً) فقد تجاوزه العالم، وأصبح (حضوره العلمي) متعلق (بتاريخ) علم الاجتماع، وليس بعلم الاجتماع المعاصر كعلم ونظريات. ومع ذلك مازال ابن خلدون، ونظرياته، وأقواله، تُسيطر على أذهان مثقفينا، ويجترها منظرونا، وكأن هذا (العلم) توقف عند نظريات ابن خلدون ولم يبرحها قيد أنملة. حضور ابن خلدون (الغير علمي) في الذهنية العربية اليوم هو مثال دقيق على مدى تخلفنا، و ولعنا بتاريخنا حتى عندما يكون الأمر متعلقٌ (بالعلم) وليس بالتاريخ. وما ينطبقُ على ابن خلدون ينطبقُ على الكثير من الإضاءات العلمية الأخرى في ماضينا، والتي لا نتعامل مع (إنجازاتها) على أنها (تاريخ)، وإنما على أساس أنها (صالحة) لكل زمان ومكان، وكأن العلم قد توقف عند هذا التاريخ.
الذي يجبُ أن نقتنع به أن حلولنا التنموية لا يمكن أن نستوردها من التاريخ، وإنما من الحاضر، من البحث و التجريب والبرهان والمقاربات العلمية، كما هم الأمم الأخرى. وسنبقى في وضع (مكانك سر) إذا لم نتخلص من تلك (العلة) التي تبقي أعناقنا متجهة إلى الوراء لا إلى المستقبل.