الحقيقة المرة يجب أن نواجهها بصراحة وإلا فنحن نطبق سياسة النعامة في طمس رؤوسنا بالرمال. أنا علماني وليبرالي في الصميم، وأدين كل توجه طائفي ولكن هذا لا يعني أن أسكت عما يجري من حرب الإبادة الطائفية ضد طائفة أخرى خوفاً من تهمة الطائفية. فعندما ارتكبتْ عصابات مقتدى الصدر (الشيعي) الجرائم البشعة ضد النساء والمسيحيين والصابئة وطلبة الجامعات، أدناها بشدة وما زلنا ندينها إلى أن تنال هذه العصابات جزاءها العادل.
إن ما يجري في العراق في هذا الزمن الرديء لا يترك مجالاً للمجاملات بطمس الحقائق، إذ لا مفر لنا من أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية. نحن نضطر إلى استخدام مسميات طائفية كنا نرفض في الماضي استخدامها، وذلك لأن الواقع صار ينضح بالطائفية شئنا أم أبينا، ولأن ما يجري في العراق من الأعمال الإرهابية موجهة بالذات لإبادة الشيعة. وهذه الحرب هي امتداد لحرب الإبادة التي مارسها النظام البعثي الساقط خلال حكمه الجائر عن طريق نشر المقابر الجماعية وحروب الأنفال واستخدام السلاح الكيمياوي في حلبجة والأهوار وغيرهما.. الضحايا من نفس الفئات، الشيعة والكرد، والمجرمون هم أنفسهم، فلول النظام الساقط، بعد أن كانوا يمارسون جرائم إبادة الجنس وهم في السلطة، راحوا يمارسونها وهم خارج السلطة باسم "المقاومة الوطنية الشريفة".
كان شعب العراق محاصراً في سجن البعث أيام حكمهم والآن صار محاصراً بالإرهاب على أيدي فلول البعث وحلفائهم السلفيين المتطرفين القادمين من البلاد العربية وبتحريض من أئمتهم الذين أفتوا لهم قبل سقوط النظام الجائر، وحرضوهم على هدر دماء الشيعة "الروافضة" وغيرهم من الفئات "الضالة" وكل من لا يسير على ملتهم وسكتهم. لقد استوردوا أبو مصعب الزرقاوي الأردني ليلعب ذات الدور الذي لعبه أبو الطبر في السبعينات، حيث كان البعثيون يذبحون العائلات البغدادية المعارضة لحكمهم على طريقة أفلام الرعب وينشرون الذعر في صفوف الناس باسم (أبو الطبر). كذلك الآن اخترعت مختبرات البعث اسم أبو مصعب الزرقاوي ليختبأوا وراءه ويرتكبوا جرائمهم ضد الشعب العراقي باسمه. وهذا لا يعني عدم وجود مجرم بهذا الاسم، ولكنه مجرد واجهة لنشر فلول البعث بياناتهم باسمه ومجرى لتصريف قاذوراتهم عن طريقه وربما هو خارج العراق الآن. وإلا فإن الزرقاوي ليس أقوى وأخبث من صدام، فكيف تم إلقاء القبض على صدام وقتل ولداه، وفلت الزرقاوي لحد الآن؟
إن ما يجري في العراقي هو حرب الإبادة الواسعة ضد الشيعة بكل معنى الكلمة، وكذلك ضد الكرد ولو على نطاق أضيق لأن المنطقة الكردية أكثر حماية من المناطق الشيعية في بغداد وما يجاورها من المدن، بفضل حكومتها المتماسكة ومليشياتها (البيشمركة) المدربة. لقد سلك حكم البعث ذات السلوك التقليدي المتبع في التاريخ في حرب إبادة الجنس وتفريغ البلاد من سكانها الأصليين. والطريقة تعتمد على القتل الجماعي والتشريد والترحيل القسري وإحلال العناصر المرغوبة محلهم. فمنذ اغتصاب البعث للسلطة عام 1968، بدأت عملية قتل وتهجير الكرد بحجة التمرد، وكذلك الشيعة بحجة التبعية الإيرانية والانتماء للحركات الإسلامية الشيعية. وكان حصاد هذه الحملات على مدى ما يقارب أربعة عقود حوالي مليوني قتيل وتهجير مليون وتشريد خمسة ملايين ودمار شامل للبلاد.
والآن وبعد سقوط نظام الإبادة الجماعية، تواصل فلوله ممارسة ذات النهج في حرب الإبادة وتشريد العراقيين وإرغامهم على ترك مناطق سكناهم كطريقة للتطهير الطائفي والعرقي. ترتكب فلول البعث هذه الجرائم بعد أن اختطفت الطائفة السنية وراحت تدعي أنها تحارب الشيعة نيابة عن السنة دفاعاً عن حقوقهم. ولن تتورع هذه العصابات عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق الإنسانية التي يندى لها الجبين إلى الأبد، مثل مجزرة 13 تموز الجاري التي راح ضحيتها 30 طفلاً في بغداد الجديدة، ومجزرة المسيب التي قتل فيها ما يقارب المائة وجرح المئات، وقتل عائلة شيعية بالكامل المكونة من 9 أفراد معظمهم أطفال ونساء. وقبلها مجازر متواصلة في الأحياء الشيعية في مدينة الشعلة والثورة والمدائن وبغداد الجديدة ومعظم التفجيرات الانتحارية تحصل في المساجد الشيعية إثناء أوقات الصلاة حيث تزدحم حشود المصلين، وهي ممارسات تذهب ضحيتها العشرات يومياً. أليست هذه حرب إبادة جماعية ضد الشيعة؟ إنها ترتكب من قبل البعثيين باسم السنة وتنشر بياناتها باسم الزرقاوي، أبو الطبر الجديد لحزب البعث. كان على أبناء السنة الخروج بمظاهرات إدانة لهذه المجازر ويرفعون لافتات يكتب عليها: (ليس باسمي..NOT IN MY NAME)، كما خرجت الجاليات الإسلامية في بريطانيا بعد تفجيرات لندن. بينما الذي يحصل في العراق هو صمت أبناء السنة وتمادي "هيئة علماء المسلمين" في التحريض على المزيد من الإرهاب والدفاع عن المعتقلين الإرهابيين.
لقد عمل البعث بقيادة صدام حسين على تعقيد الوضع العراقي وتحويله إلى بلد لا يمكن حكمه إلا بالاستبداد الجائر. وقد استغل الدكتاتور أبناء الطائفة السنية لأغراضه بتنفيذ جرائمه فاختار معظم منتسبي أجهزته القمعية من سكان المدن السنية التي جمعها أحد الشعراء العراقيين باسم (تعسف)، ت= تكريت، ع=عانة، س= سامراء، ف= فلوجة. فمعظم أفراد الأجهزة القمعية التي اعتمدها النظام في اضطهاد الشعب العراقي ونشر المقابر الجماعية وجرائم الأنفال، كانوا من هذه المدن وقد أغدق عليهم بالمال والمناصب والامتيازات على حساب بقية أبناء الشعب. بينما المناطق الجنوبية الشيعية وخاصة البصرة والناصرية والعمارة وغيرها، أهملت وتركت خرائب وأنقاض طيلة حكم البعث، وراح أبناؤها وقوداً للمحارق البشرية ومدنهم ساحة للحروب العبثية، رغم أنها مصدر الثروة النفطية للعراق، وقد اغتصبت مدن (التعسف) هذه الثروات ينعمون بها. وهذا هو سبب كون معظم القتلة الإرهابيين الآن من هذه المدن يستميتون في ذبح العراقيين أملاً في إعادة حكمهم الجائر وامتيازاتهم أو حرق العراق عن بكرة أبيه على غرار (عليّ وعلى أعدائي يا رب).
لقد استمرت هذه المجازر ضد الشيعة طيلة العامين الماضيين على أمل استدراجهم لرد فعل مماثل ضد أهل السنة وإشعال حرب طائفية لا تبقي ولا تذر. وفي رسالة للزرقاوي قبل عام يحرض بها على إشعال حرب طائفية حتى ولو تطلب الأمر قتل عدد من أهل السنة لتحريك "لإيقاظ المغفلين منهم من نومهم" على حد تعبيره. ولن استبعد أن يكون قتل ثلاثة أعضاء من لجنة الدستور يوم 19 تموز الجاري وهم من أهل السنة أن يكون من جرائم البعثيين وحلفائهم الزرقاويين لتحقيق أهدافهم الشريرة لإشعال حرب طائفية. فطيلة هذه المدة استطاع آية الله السيد على السيستاني الضغط على الشيعة بدعوتهم إلى الصبر وضبط النفس والهدوء والسكينة وعدم الرد بالمثل للمجازر التي تتلقى المباركة من (هيئة علماء المسلمين) ورجال الدين العرب من أمثال القرضاوي وحتى من بعض شيوخ الأزهر وتنال التأييد الحار من الجماهير العربية "من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، لبيك عبدالناصر!!".
وإذا نجح الإرهابيون، لا سامح الله، في إشعال الحرب الطائفية في العراق فهذا يعني تحريك الشعوب العربية السنية على نطاق واسع وعلني لإرسال المزيد من المتطوعين الانتحاريين وحتى مشاركة قواتهم المسلحة، لإبادة الشيعة والكرد عن بكرة أبيهم. ولكن نسي هؤلاء أن العراق سيصبح ساحة للحروب الإقليمية، تؤدي بالنهاية إلى حرق دول المنطقة بالكامل ودمار الجميع بمن فيهم أبناء السنة العرب أنفسهم. طبعاً يراهن الإرهابيون على إلحاق الهزيمة بأمريكا وانسحاب قوات متعددة الجنسيات من العراق وبذلك ستفرغ لهم الساحة دون رادع حيث حافظوا هم على تنظيم قواتهم العسكرية وميليشياتهم (فدائيو صدام) بعد أن نهبوا جميع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة من الجيش الذي حلوه بأنفسهم تأهباً لهذه المرحلة. ولكن لا يعرف هؤلاء نتائج هذه الأعمال الإجرامية وماذا سيحل بالعراق. فستتدخل إيران في المناطق الشيعية بحجة حماية الشيعة والعتبات الشيعية المقدسة، وتركية في كردستان لحماية التركمان والدول العربية المجاورة ستحتل المنطقة الشمالية- الغربية بحجة حماية العرب السنة وعندها ستصبح الدولة العراقية في خبر كان.
نحن نعرف أن الإرهابيين، البعثيين وحلفائهم السلفيين فقدوا بصرهم وبصيرتهم وقد سلكوا هذا السلوك الأعوج الانتحاري لأنهم أصيبوا بالعمى بسبب (آيديولوجية الشر) على حد تعبير توني بلير، وحقدهم الدفين على القوميات والطوائف الأخرى. ولكن الكارثة أن هذه العصابات المجنونة المنفلتة أو كلاب جهنم، كما يسميه سيد القمني، تتلقى الدعم بالفتوى والمال والتحريض من رجال الدين والإعلام والأثرياء العرب. فأين العقل والضمير من كل هذا يا عرب العاربة والمستعربة ويا شيوخ الإسلام؟
لقد أثبت معظم العرب أنهم لا يبالون بقتل العراقيين مهما بلغ العدد، فما يصرح به الزرقاوي علناً على فضائية الجزيرة يقولونه هم سراً في مجالسهم الخاصة. فكما نشر لفيف من علماء الحوزة العلمية بياناً يوم 19/7/2005 قالوا فيه ما معناه، عندما يقتل طفل في فلسطين تتزلزل الأرض العربية ولكن عندما يقتل الإرهابيون 30 طفلاً عراقياً لم يتحرك لهم رمش وكأن شيئاً لم يكن، بل اكتفوا بالصراخ على أن "عروبة العراق في خطر".
بعد تفجيرات لندن الإجرامية، صار المسلمون في خطر، ليس في بريطانيا فحسب، بل في كل الدول الغربية. وتلافياً لرد الفعل العنيف ضد المسلمين وخاصة من المتطرفين اليمينيين، حاول رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، تهدئة الوضع وحماية المسلمين وتبرئتهم من هذه الجريمة النكراء وإلقاء تبعتها على قلة من الذين تم غسل أدمغتهم بآيديولوجة الشر. ولكن بالمقابل دعا بلير رجال الدين المسلمين أن يلعبوا دورهم في محاربة الإرهاب. فأصدروا فتوى أدانوا فيها هذه الأعمال واعتبروا القائمين بها مجرمين وليسوا شهداء. وقد وقع الفتوى خمسمائة رجل دين من مختلف الطوائف الإسلامية المقيمين في بريطانيا، وحسناً فعلوا. ولكنهم عملوا ذلك لأنهم يعيشون في بريطانيا ويخافون على أنفسهم من رد الفعل العنيف ضدهم. وأغلب الظن أنهم لو كانوا خارج بريطانيا وبمأمن من الطرد والمساءلة، لما أصدروا هذه الفتوى. لأن أغلب رجال الدين، السنة والشيعة، لم يكتفوا بالصمت إزاء المجازر ضد المدنيين العراقيين فحسب، بل اعتبروها عملاً جهادياً مشروعاً. ويا للمفارقة، حتى مقتدى الصدر الذي يطرحه الإعلام العالمي باسم (الزعيم الديني الشيعي) راح يبارك للإرهابيين جرائمهم ويصفها بأنها مقاومة مشروعة. ولكن مقتدى هذا يعمل بأوامر أسياده وأولياء نعمته من المتشددين الإيرانيين. فهؤلاء ومعهم النظام السوري لا يبالون بذبح العراقيين لأنهم يريدون إلحاق الهزيمة بأمريكا وجعل العراق ساحة لحروبهم بالنيابة عنهم.
مسكين شعب العراق، خاض ثمانية سنوات عجاف حرباً طاحنة في محرقة قادسية صدام المشؤومة لحماية البوابة الشرقية للبلاد العربية من "الفرس المجوس". والآن يريد الإيرانيون والسوريون والسلفيون المتطرفون أن يحاربوا أمريكا في العراق وبدماء الشعب العراقي أيضاً. فمتى ينتبه العراقيون، السنة والشيعة، إلى هذه اللعبة القذرة؟ سوريا تستخدم شيعة لبنان وسنة العراق لأغراضها، أما إيران فتستخدم شيعة البلدين لذات الغرض، والعرب المسلمون إما صامتون إزاء حمامات الدم العراقية بحق الشيعة والكرد، أو مشجعون لها لأنهم ليسوا شيعة ولا كرد.
يقول الشاعر الألماني القس مارتن نيمولر عن جرائم النازيين وكيف بدأت بحق البشرية ما يلي:
أولاً بدؤوا بالشيوعيين،
فلم أعترض لأني لم أكن شيوعياً
ثم جاءوا لليهود، فلم أعترض،
لأني لم أكن يهودياً
ثم جاءوا للكاثوليك، فلم أعترض،
لأني كنت بروتستانياً
وأخيراً جاءوا لي...
في ذلك الوقت لم يبق أحد ليعترض من أجلي.

إن البعثيين والسلفيين بدأوا حربهم بإبادة الشيعة والكرد، يجب أن يعرف المتفرجون والصامتون والمؤيدون والمحرضون للمجزرة، أنها لن تنتهي بإبادة الشيعة والكرد وحدهم كما يتصورون، بل ستطال جميع مكونات الشعب العراقي ومن ثم ستصل نيرانها إلى دول الجوار، كما انتهت النازية بحرق أوربا كلها. فهل من مجيب لصوت العقل، أم أنها مجرد صرخة في واد ونفخة في رماد؟