أعتقد من غير الصحيح أن نأخذ بالمعاني المعجمية مباشرة، أي من دون تدقيق ومقارنة ومقاربة بين المعاجم، وحتى في داخل الاستعمال الواحد ينبغي ممارسة هذه العمليات، فكثيرا ما تتفاوت المعاجم في إعطاء المعاني والدلالات.


في مصباح اللغة
جاء في المعجم (الخِمارُ : ثوب تغطي به المرآة رأسها... واختمرت المرآة وتخمِّرت لبست الخمار... ويقال : هي اسم لكل مسكر. خامر العقل أي غطَّاه...).
فالخمار حسب هذا المعجم هو ثوب تغطي به المرآة رأسها... ولكن الثوب كما نعلم ملبوس البدن ، ومن هنا قد نقع في الخطأ، ذلك أن الثوب ما يُلبس، بصرف النظر عن كونه يغطي كل البدن أو الرأس أو الصدر...
هل يغطي الخمر كل العقل؟
ليس بالضرورة، فالخمر قد يبقى العقل نشطا، وقد يفقده كل صوابه، وقد يفقده بعض نشاطه، وهي تسمى خمرة في كل الحالات.
يقول (... والخُمرة : حصيرة صغيرة قدر ما يُسجد عليها...) وقد تكون هذه الحصيرة مثقوبة، أو هناك تخلخل في نسجها، مما لا يمنع أن نرى من خلاله الأرض ، لا تحجب النظر تماما عما تحتها، وهي في كل هذه الأحوال خُمرة.


مقاييس اللغة لابن فارس
قال : (... أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر... وفلان يدبُّ لفلان الخمر، وذلك كناية عن الاغتيال، وأصله ما وارى الإنسان من شجر، والخِمار خمار المرآة، وامرأة حسنة الخِمرة، أي : لبس الخمار، والتخمير : التغطية، ويقال في القوم إذا تواروا في خُمِر الشجر : قد أخمروا... والمخامرة : المقاربة...).
ماذا نستفيد من ابن فارس هنا؟
أن الأصل في المادة هي التغطية، وذلك بصرف النظر عن وسيلة التغطية هنا، قد تكون قطعة قماش أو جلد أو قش، أو ورق شجر...
وهناك أمرآة حسنة الخِمرة، وأذن هناك أمرآة سيئتها، وذلك اعتمادا على قوله (وامرأة حسنة الخمرة، أي لبس خمارها...).
وعليه هناك تخمير حَسن، وهناك تخمير سيئ، وذلك بالنسبة للمرأة ، ولكن السؤال هو : ما المقصود بالحسن هنا؟
هل يعني حسن الشد على الرأس؟
هل يعني مساحة التغطية، فإذا كانت تامة فهو تخمير حسن، وإذا كانت ناقصة فهو تخمير سيء؟ ولكن على كلا الضربين هو تخمير في النتيجة النهائية.
أم يعني الخمار إذا كان جميل الشكل و الألوان فهو حسن، وإذا كان الخمار قبيح الشكل ، فاقع اللون، منفر، فهو سيئ؟
يبدو لي أن الحُسُن هنا متوجه إلى حجم الخمار في التغطية، تغطية الرأس، وليس إلى شكل القطعة أو لونها، المعجم يشير إلى (لبس الخمار...)، أي إلى الجانب العملي، السلوكي، وليس إلى الجوانب الخارجة عن حريم الكلمة على صعيد دلالتها... أي الشكل ... اللون... الفن ...
فالمرأة سواء لبست الخمار بكامل رأسها أم ببعض رأسها على شرط مساحة معتبرة، غالبة بشكل طاغ... هي امرأة قد اختمرت، لبِسَتْ الخِمار، وعليه إذا قيل لنا أن المرآة في الجاهلية كانت تختمر، ليس بالضرورة نفهم أن هذا الخمار كان كاملا، أي يغطي كل رأسها، ربما المساحة الأغلب، الأكبر من رأسها.
ولكن المادة حسب ابن فارس تتصل بالستر، أي أن التخمير هو التغطية على نحو الستر، مما يشير إلى الاختفاء لان الاستتار هو الاختفاء، إلاّ أننا نلحظ هنا شيئا من الاضطراب، ذلك أن الشجر إذا كان كثيف الأغصان فهو ساتر، (وشجر ستير : كثير الشجر / الزمخشري)، ومن التخمير التواري خلف الشجر الكثيف، حيث تبقى هناك فجوات وثغرات يمكن أن يخترقها البصر ليطلع على هؤلاء المختفين المتواريين...
فهل تخمير الرأس ينطوي على خصوصية التغطية الكاملة، بحيث لا يسمح لأي اختراق بصري، ولو بسيط، يتبدى من خلاله شعر المرآة ولو بشكل شبحي؟ أو يغطي الشعر بحيث يخفيه ولكن في مجال ما غطى فعلا، كأن يكون الحجم الغالب من الرأس مثلا؟ لأن تغطية الجزء الأكبر من الرأس تخمير كما قلنا قبل قليل، ولكنه تخمير ليس بالحسن، وأنا أسال ذلك أيضا، لأن التخمير خلف الشجر قد يسمح لمثل هذا الاختراق الجزئي البسيط، ثم أن التغطية الغالبة للرأس تخيمر في المحصلة النهائية وإن كان سيئا.
التخمير بمعنى المقاربة هل يفي بمعنى الستر الكامل؟ !
يبدو من التمعن في معجم ابن فارس نفهم أن المادة تعني التغطية، ولكن ليس شرطا أن تكون هذه التغطية كاملة، بدلالة ستر الشجر للمتواريين خلفه، وبدلالة المقاربة، وبدلالة حسن التخمير الذي يشير إلى أن هناك تخميراً سيئاً، وهو منصب على وظيفة الخمار وليس على شكل الخمار ولونه وطرازه وكيفية شده من ناحية فنية.
يقول ابن فارس أيضا (... يقولون : دخل في خُمار الناس وخمرهم أي زحمتهم...) وبالتالي، ليس هناك اختفاء كامل بطبيعة الحال، ومن المادة (... الخُمرة : شيء من الطيب تُطلي به المرأة وجهها ليحسن به لونها...) وهو طبعا ليس ساترا للوجه، بل ساتر للون الوجه، فهل كان ذلك الطلاء يستر تمام لون الوجه؟


في لسان العرب
قال (خامر الشيء : قاربه وخالطه....) وهو لا يفيد كامل التغطية بالضرورة، ويقول (والخَمَر : ما واراك من الشجر والجبال ونحوها....)، فهناك أنواع من المواراة، منها ما يمكن اختراقه من خلال الحاجز الذي تواريت خلفه، كأن يكون شجراً كثيفا، ومنها ما لا يمكن اختراقه كأن يكون جدارا سميكا.
وقد قالوا أن الخمار بالنسبة للمرآة كالعمامة بالنسبة للرجل، جاء ذلك في تعليق العلامة الزبيدي في شرح القاموس على الخبر الذي يقول أن أم سلمه كانت تمسح على الخمار، حيث قال الزبيدي (الخمار : العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه، كما أن المرأة تغطيه بخمارها) فليس بالضرورة أن العمامة تغطي كل شعرة من شعرات رأس الرجل، ولنفترض أن خصلة بسيطة من شعره خرجت عن العمامة، هل خرج عن معنى تخمير رأسه؟


في صحاح اللغة
قال : (... وخَمِر عني الخبر : خفي ...) وفي مصباح اللغة (... خَمِر الرجل شهادته : كتمها...) ، وإخفاء الخبر ألوان، قد لا يخفي كل الخبر، بل جزئه من أجل التمويه، كذلك الشهادة.
هذا أهم ما قرأته لغة في خصوص معنى الخمار، ويبدو لي أن اشتراط بعض الفقهاء في كتبهم التي قرأتها أن يكون الخمار لا يشف، ولا ينحسر عن شي من الشعر ، وشامل لكل الرأس، متأت من هذه الملاحظة، أي أن معناه اللغوي لا يعطي بالضرورة الإحكام والغلظة والتغطية الكاملة. ومن هنا قد يستدل الآخرون على هذه الخصائص للخمار، أي كونه غير شاف، وغير حاسر، ومحكم، من خارج اللغة، أي من السنة الشريفة أو السيرة مثلا. وسوف نتناول ما قاله كبار المفسرين عن الخمار، و الحمد لله رب العالمين.