منذ أكثر من عامين، أقترن أسم العراقيين السنة، بكل ما يشهده العراق من عمليات بربرية. فإذا تم قطع رؤوس الأبرياء، وحرق أماكن العبادة، وتفجير المستشفيات، واختطاف العاملين الأجانب في العراق، وتدمير البنى التحتية، وحرق أبار النفط، قالت وسائل الإعلام أن سكان "المثلث السني"، أو المقاومة السنية، أو مناصري صدام السنة هم، الذين قاموا بتنفيذ تلك العمليات.
وبسبب هذه التغطية الإعلامية بدى العراقيون السنة وكأنهم مجموعة من أكلي لحوم البشر، يسكنون الكهوف والصحارى، يطوقون أعناقهم بقلائد صنعت من عظام البشر.
ولم يبق أمام وسائل الإعلام، حتى تكتمل هذه الصورة، غير أن ترسم صورا يظهر فيها محمود شكري الآلوسي، وعبد العزيز الدوري، وعبد الستار الجواري، وعبد الرحمن البزاز، وشفيق الكمالي، وفؤاد التكرلي، وشاذل طاقة، وجلال الحنفي، وكامل الجادرجي، وفائق السامرائي، وداوود السعدي، وضاري المحمود، وعجيل الياور، وعبد العزيز البدري، ومحمد محجوب، وعبد الخالق السامرائي، وصلاح عمر العلي، ورفعت الحاج سري، ونزيهة الدليمي، وعامر عبد الله، وحسن النقيب، وعبد الرحمن عارف، وهم يرقصون طربا حول مواقد تتصاعد منها رائحة الشواء البشري.

فهل هناك أكبر من هذه الطامة؟
لكن، هل أن هذه الصورة الشنيعة هي، كلها، من صنع الخيال، أم أنها تمت إلى الواقع بصلة؟أليس لهذه الصورة علاقة بمواقف الزعامات العراقية السنية، وطريقة تعاملها مع الأوضاع السياسية التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين، وتحديدا موقفها من "المقاومة" العراقية؟
لقد سمح العراقيون السنة، بعلمائهم، وعشائرهم الضاربة، وشيوخهم ومثقفيهم ونخبهم العريقة ونسائهم المتنورات، وبكل ما يملكون من تجربة عتيقة في الحكم والسياسية، لمجموعة من الصبيان الأجانب، يترأسهم مغامر مخبول أسمه الزرقاوي، أن يتحكموا في مصيرهم، ويعلموهم ما يفعلون وما لا يفعلون، هم العراقيون أصحاب هذا البلد، الذين شيدوا الدولة العراقية على أكتافهم. وبطريقة التفكير ذاتها، سمحت النخب العراقية السنية لحفنة من عتاة البعثيين الموغلين بدماء العراقيين، أن يختطفوا ملايين العراقيين السنة كرهائن، وأن يصادروا حقوقهم، ويتحكموا بمصائرهم وبمستقبلهم. وأخر ما فعلته النخب العراقية السياسية السنية هو، اشتراطها أن يتم حذف مادة إجتثاث البعث من الدستور العراقي. وهذه مسألة محيرة، حقا.
فنحن نفهم، بل ونرحب، لو أن زعماء العراقيين السنة اشترطوا أن ينص الدستور الدائم على مادة تحرم نشاط أي جهة عراقية، مهما كانت، تروج للأفكار الفاشية والعنصرية والديكتاتورية والتوليتارية والطائفية. لكننا لا نفهم أن يطالب بإلغاء مادة اجتثاث البعث، زعماء يفترض أنهم يمثلون وينطقون بأسم ملايين العراقيين السنة.
إن السؤال المحير هو، لماذا ينفرد العراقيون السنة، وحدهم ودون سائر المكونات العراقية الأخرى، بإظهار موقف أيجابي إزاء حزب البعث؟
إن إصرار زعماء العراقيين السنة وحدهم على رفع مادة احتثاث البعث، ألحق وما يزال يلحق ضررا كبيرا بجميع العراقيين السنة، لأنه، ببساطة، يظهر العراقيين السنة، وكأنهم وحدهم، من دون جميع المكونات العراقية، سدنة الأفكار الديكتاتورية، وهم وحدهم حماة الظلمة والطغاة، أو كأن البعث حزب وضعت على بابه، منذ لحظة ولادته، لافتة كتب عليها: حزب البعث لأصحابه السنة، وليس حزبا ساهم في نشأته وعمل في هيئاته القيادية، عراقيون ينتمون لمختلف مكونات الشعب العراقي. فلماذا يتبرع، وبعناد لا مثيل له، زعماء العراقيين السنة على تحميل العراقيين السنة وحدهم، أوزار حزب البعث؟
هذا في ما يخص موقف الزعماء السنة من الزرقاوي، وحزب البعث. إما موقفهم من "المقاومة" المسلحة، وموقفهم من الانتخابات، بل موقفهم من العملية السياسية الجارية برمتها، فأقل ما يقال عنه انه يعبر عن ذهنية سياسية رومانتيكية وعاطفية، تعيش وتفكر في حقبة الحرب الباردة، إن لم نقل في بداية سنوات القرن الماضي.

خطأ قاتل
وفي رأينا، إن الخطأ الأساس في مواقف الزعامات العراقية السنية يكمن، أصلا، في تصور أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة لإسقاط نظام صدام، كانت حربا ضد العراقيين السنة، دون غيرهم من مكونات الشعب العراقي. بالطبع، أن هذا التصور لم يكن كله وهما أو من صنع الخيال، وإنما أعتمد على بضع وقائع، زرعتها وغذتها الولايات المتحدة قبل سقوط نظام صدام حسين. فقد عمدت الولايات المتحدة، بعد حرب الخليج الثانية، إلى خلق خطوط الطول والعرض. وبررت فعلها ذاك بأنه يهدف لحماية الكورد في الشمال، والشيعة في الجنوب والوسط، من قمع صدام. وسواء فعلت الولايات المتحدة ذلك عن وعي أو بسبب رعونة في تفكيرها السياسي، فأنها أوحت للعراقيين السنة بأنهم المجموعة العراقية الوحيدة المضطهدة "بالكسر"، وأنهم، بالضرورة، موالون لنظام صدام. وهو أمر ما كان من الصعوبة أن يقود إلى استنتاج مفاده، أن مصير العراقيين السنة مرتبط بمصير صدام.
والحق، أن زعماء العراقيين السنة حالوا، مباشرة بعد سقوط صدام حسين، أن يفندوا تلك الفرضية، وهي فرضية تنطوي على مبالغة كبيرة، إن لم نقل أنها فرضية ظالمة وغير صحيحة، وتصرفوا إزاء الوضع الجديد، بطريقة حكيمة، واقعية، وعقلانية. ولكنهم بدلا من السير في ذاك النهج حتى النهاية، فأنهم سرعان ما تراجعوا عنه، وأوقعوا أنفسهم، بعد فترة قصيرة، فريسة لابتزاز صدام والزرقاوي، وانصاعوا لأفكارهما المغامرة، بدلا من الاستمرار على النهج الواقعي. وبهذا الانقياد، بدأت النخب العراقية السنية تتصرف، شئنا أو أبينا، باتجاه تعزيز الفرضية المذكورة. وهي فعلت ذلك، ليس وفقا لحسابات سياسية واقعية ناضجة، وإنما وفقا لمحض أوهام. وتلك الأوهام خلقها، أولا، صدام حسين، بالبلاغات العنترية التي بدأ بإذاعتها بعد هروبه من المعركة وتخفيه، وبمقابلاته السرية مع بعض أعيان السنة إثناء فترة التخفي. وخلق تلك الأوهام، ثانيا، الزرقاوي والمجموعات التي وفدت معه. وهنا يجدر بنا أن نعود قليلا إلى الوراء، أي إلى مسلسل الأحداث في الأيام القليلة التي أعقبت سقوط صدام حسين، لنعرف كيف تغيرت الأمور.

عباءة نسائية وأحمر شفاه

فنحن نتذكر أن القوات الأميركية دخلت المدن العراقية التي تقطنها غالبية سنية، كمدن الموصل والرمادي وسامراء وتكريت، بدون أي مقاومة. وكانت القوات الأميركية قد أجرت، حتى قبل دخولها العاصمة العراقية، محادثات مع بعض القادة العسكريين المكلفين بحراسة هذه المدن. وتكللت تلك المحادثات باتفاقيات لوقف أطلاق النار، تدخل بموجبه القوات الاميركية بدون قتال. وهذا ما حدث، مثلا، مع قادة الفيلق الخامس المرابط قرب الموصل في العاشر من نيسان 2003 ، بعد أن أرسل سكان مدينة الموصل وفدا، ضم قادة من الفيلق المذكور ومحافظ المدينة وزعماء أسر مهمة، إلى مسعود البرزاني طالبين وساطته لدى الجانب الاميركي "لاستسلام سلمي للمدينة بدون قتال".
وفي ما يخص محافظة الأنبار، وهي البؤرة الأكثر اشتعالا الآن، فنحن جميعا نتذكر أن شيوخ عشائر ووجهاء المحافظة اتفقوا مع القوات الأميركية، وبعد مرور أقل من أسبوع على سقوط النظام، على عدم إبداء أي مقاومة عسكرية من جانبهم. ونشرت وسائل الإعلام في 16 أبريل 2003 صورة يظهر فيها اللواء محمد جرعاوي قائد قطاع الأنبار وهو يلقي التحية العسكرية على الكونويل الاميركي كورتيس بوتس قبل التوقيع على وثيقة اتفاق مشترك. وأعلن وقتها الشيخ علي سليمان، من شيوخ عشائر الأنبار، أنه اتفق على هذه الخطوة بعد اجتماع للعشائر في المحافظة، "اثر وضوح الموقف العسكري الذي يميل لصالح القوات الاميركية". وقال حينها الشيخ سليمان "إننا من باب المسؤولية التاريخية وحقنا للدماء قامت مجموعة من وجهاء وشيوخ المحافظة بالاجتماع مع القيادة الأميركية وتم الاتفاق على استسلام المحافظة وعدم أطلاق النيران على هذه القوات".
وكان ذاك تصرفا واقعيا وحكيما ساهم في حقن الدماء وترسيخ الهدوء. وظل مراسلو الصحف الذين كانوا يتواجدون آنذاك في مدينة الرمادي، يبعثون بتقارير يصفون فيها كيف أن مدينة الرمادي "يسودها الهدوء والنظام واستناب الأمن"، حتى أن الجنود الاميركين المتواجدين هناك كانوا، كما نقلت حينذاك بعض التقارير الصحفية، "في حالة استرخاء وبعضهم يقرأ المجلات والبعض الآخر يكتب الرسائل إلى ذويه". وبعد مرور شهرين على ذلك الاتفاق أعلنت القوات الاميركية عن تخريج خمسين طالب من كلية أمن الانبار، كوجبة أولى. وفي التاسع من نوفمبر 2003 أعلنت سلطة التحالف في العراق أن مدينة الرمادي ستكون أولى المحافظات العراقية التي يتم تسليمها إلى السلطة المحلية العراقية.
لكن، هذا الموقف الحكيم، الواقعي والمسؤول لأهالي الانبار، لم يرق لصدام ورجال مخابراته، فأراد أن يورطهم، ومعهم جميع العراقيين السنة، في حرب جديدة غير متكافئة، يعرف الجميع أنها تسير في طريق مسدود.
وبعد أن فر صدام وكبار القادة والجنرالات، بجلودهم من ساحة القتال وتركوا شعبا بأكمله يواجه مصيره أعزلا ومنفردا، عادوا، بعد أن أطمأنوا، إلى مواصلة نفس أساليبهم البهلوانية الصبيانية القديمة. فقد أوعز هولاء إلى صبيانهم بإرسال طرد بريدي إلى الشيخ علي سليمان، يحتوي في داخله على "عباءة نسائية وأحمر شفاه"، كدلالة على تخاذل وجبن الشيخ علي سليمان، وكأن صدام وقادة الحزب وجنرالات الجيش ظلوا يقاومون القوات الاميركية بالسلاح الأبيض حتى الرمق الأخير، ولم يشاهدهم العالم على شاشات التلفزيونات وهم يفرون من ساحات المعارك بملابسهم الداخلية، أو يولون الأدبار مع عائلاتهم باتجاه سوريا والأردن، وبحوزتهم ملايين الدولارات المسروقة.
وهكذا، فمثلما قاد صدام، بسياسته الرعناء وهو في الحكم، العراق كله إلى الهاوية والخراب، فأنه نجح، أيضا، أن يعيد تطبيق هذه السياسة الرعناء نفسها، وهو مختبئ في حفرته، ونجح أن يبيع حفنة من الأوهام لزعماء العراقيين السنة، ويقنعهم بأن العنف هو "الحل الأوحد" لإعادة الأمور إلى نصابها السابق، وان المشاركة في العملية السياسية الجارية، خيانة وطنية لا تغتفر.
وبدلا من التصرف ك"شيوخ" أنضجتهم تجارب سنوات الحكم وأشعلت شعرهم شيبا التجارب السياسية، فأن زعماء العراقيين السنة تصرفوا كمراهقين سياسيين، يسيرون على هدى خطابات صدام الرنانة، ومغامرات الزرقاوي الدموية. ووفقا لتلك الاستنتاجات المتسرعة تبنى زعماء العراقيين السنة استراتيجية المقاومة المسلحة،
مفضلين لغة السلاح بدلا من لغة السياسية، ولغة العاطفة بدلا من تحكيم المنطق، ولغة الشعارات بدلا من انتهاج سياسة براغماتيكية واقعية، فحدث بعد ذلك ما حدث، مما يعيشه العراقيون من ويلات ومصائب ما تزال مستمرة حتى هذه الساعة.

قرار حكيم
الآن، وبعد مرور أكثر من عامين، عاد زعماء العراقيين السنة، فأعلنوا عن مشاركتهم في العملية السياسية. فقد شاركوا في كتابة الدستور. وبعد ذلك استنتجوا أن مسودة الدستور بشكلها الحالي لا تلبي طموحاتهم، فقرروا رفضها والاشتراك في الاستفتاء المزمع أجراءه، لإسقاط المسودة، وقرروا أن العراقيين السنة سيشاركون في الانتخابات القادمة. وتزامن ذلك بإجراء لقاءات أجراها بعضهم مع مسؤولي القوات الاميركية في العراق، وعقد مؤتمرات صحفية مشتركة مع السفير الاميركي في بغداد.
وهذه بدايات طيبة تؤشر إلى قدرة القيادات العراقية السنية على استيعاب التطورات التي جرت خلال السنتين الماضيتين. ولكن هل كان زعماء العراقيين السنة بحاجة لأن يحدث هذا الدمار الهائل وهذا الخراب المريع وهذه الويلات التي عاشها العراقيون، حتى يستنتجوا أهمية المشاركة السلمية في العملية السياسية ؟
هل كان الأستاذ عدنان الدليمي بحاجة لأن يحدث كل هذا الدمار، حتى يقول "أن السنة مصممون على المشاركة في العملية السياسية حتى لو أمطرونا بالقنابل"؟
هل كان الشيخ عبد الغفور السامرائي بحاجة لأن يرى هذه الرؤوس المقطوعة بيد الزرقاوي والغرباء الذين وفدوا معه، حتى يستنتج "أن الزرقاوي حكم على العراقيين جميعا بالإعدام" ويعلن "بأنه لا فائدة من قدوم مقاتلين عرب إلى العراق" ويطالب "بإنزال أشد العقاب بمن تلطخت أيديهم بدم الأبرياء"؟
أما كان الأولى بزعماء العراقيين السنة، هم أصحاب الخبرة الطويلة في السياسة والحكم، أن يدركوا، منذ اللحظات الأولى، أن ما حدث في العراق في التاسع من نيسان 2003 ، ليس مجرد ثورة أو انقلاب عسكري، وإنما زلزالا سياسيا، يحتاج المرء، لكي يفهم أبعاده ويستوعب تأثيراته، إلى عقلية خلاقة، وإلى نمط من التفكير الجديد ؟
على أي حال، أن الوقت لم يفت بعد، وما تزال الأمور في العراق في بداية المشوار. والمهم هو، أن النخب العراقية السنية قررت الانخراط في العملية السياسية.
لكن هذه الخطوة ستظل ناقصة إذا بقيت كمناورة تكتيكية هدفها إحراج الآخرين أو تحقيق أهداف آنية، أو مجرد تسجيل موقف للتاريخ.
إن ما تحتاجه النخب العراقية السنية الدينية والسياسية والعشائرية هو، تحويل هذه الخطوة إلى رؤيا استراتيجية شاملة، تقطع أي وشيجة مع أسلوب العنف المتبع حتى الآن. وهذا التحول الاستراتيجي يحتاج إلى ذهنية جديدة، حرة من جميع قيود وعقد الماضي. إنه بحاجة إلى الوجه المكشوف الذي يواجه الواقع العراقي والدولي كما هو، وليس الوجه الملثم الذي يلوذ بالأوهام، والذي يجد في السيف الوسيلة الوحيدة لحل التعقيدات والمعضلات السياسية الكبرى.

وهذا أمر لا يتم إلا باستيعاب المتغيرات، وقراءة الواقع كما هو، وتفكيك عقده واحدة واحدة. وهو ما سنناقشه في حلقة قادمة.