مالم تحدث مفاجآت، فإن الشعب الفلسطيني، مقبل عما قريب، على انتخابات تشريعية جديدة، بعد عشر سنوات تقريباً، من أول إنتخابات تشريعية يعرفها في تاريخه القديم والحديث. في العشر سنوات هذه، جرت مياه كثيرة في مجرى النهر: تماهت فتح مع السلطة، وحكمت بمنطق الحزب الحاكم، مثل أي حزب في العالم العربي، فاستشرى الفساد، ثم قامت الانتفاضة، وانتكست، بسبب عسكرتها من جانبنا، وعنف إسرائيل المفرط في قمعها. ما أوصل الناس، إلى مستوى من الدمار والفقر، لم تعرف له مثيلاً منذ سنة النكبة. كل ذلك أفرز يأساً عاماً، وضيقاً بمجمل الأوضاع، وإحباطاً وكفراً بمعظم الشعارات المطروحة. فالناس الآن، تراجع حلمها الوطني، في ظل متغيرات دولية ومحلية، وبدأت تنتبه إلى حالها الداخلي، ولقمة عيشها، ومستوى الخدمات المقدمة إليها. أي تحولّ همّها السياسي، في جانب كبير منه، إلى همّ اجتماعي اقتصادي داخلي. لم تنتبه فتح، إلى هذا التوجه، وظلت منشغلة في تقاسم بضعة مكاسب ومناصب، هنا وهناك. فيما استغلت حماس هذا الوضع جيداً، فانتشرت بين الجماهير، بمؤسساتها الخيرية، وبجيش من منتسبيها العقائديين، لا يكلّ ولا يتعب، محصنة بوجودها كتيار أيديولوجي معارض، بعيد عن السلطة وفسادها، وبعمليات عسكرية نوعية، ودعم مالي غير ناضب. ما جعلها تتغلل في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، وتكاد تكسب غالبية الجماهير المسحوقة إلى صفها.
وها نحن الآن، نشهد تجاذبات حادة بينها وبين فتح. كأكبر فصيلين موجودين في الساحة. الأمر الذي يهدد باحتمال نشوب ما لا تحمد عقباه: من شبح اندلاع حرب أهلية في الأسوأ، وتصادمات مسلحة في غير مكان، في الأهون!
من هنا تأتي أهمية هذه الانتخابات، كتعبير حضاري سلمي، عن إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وعن وضع كل فصيل منهما في وضعه ومكانه الصحيح. ومع إحباطنا الشديد من إمكانية فوز حماس، إلا أننا نقبل بما يفرزه صندوق الاقتراع. ونرحب بهذه الانتخابات، كأول انتخابات تعددية حقيقية في تاريخنا كله. فقد جرّبنا حكم الحزب الواحد [ القائد ]، كما جربه غيرنا في غير مكان. فوصلنا إلى قناعة بأنه لا مفرّ من التعدد، ولا مفر من وجود قوة أو قوى أخرى، أياً كانت، لفرض التوازن المطلوب. وعلى الأغلب، هذا ما سوف يحدث في القريب العاجل. وبهذا المعنى، فثمة ما يُطمئن في هذه الانتخابات، رغم كل شيء. لكننا نأمل في خطوة أبعد، ونتمنى على شعبنا اجتراحها. وهي انتخاب تيار ثالث، ديموقراطي علماني، يشكّل شبكة أمان، ونوعاً من التوازن، بين الفصيلين المتجاذبين. خصوصاً والكلّ يعرف، أنهما فصيلان شعبويان، لا يمتلكان مشروعاً اجتماعياً، ولا رؤية استراتيجية للمستقبل. فهما فصيلا ديماغوجيا، وشعارات، وقد انتهى زمن هاتين الآن!
إن الشعب الفلسطيني بحاجة الآن، حقاً وفعلاً، وأكثر من أي وقت سابق، إلى وجود تيار ثالث. تيار يحتوي جميع ألوان الطيف اليساري والليبرالي والعلماني العقلاني، إضافة إلى المستقلّين. فالوقتُ يُحتّمُ، والحاجة أيضاً. لكننا نعرف، أن هذا ليس في متناول اليد الآن. فهو يحتاج إلى درجة من الوعي التاريخي لم تتوفر بعد لغالبية الفلسطينيين. وعليه، فأمامهم، أربع سنوات، على الأقل، هي فترة المجلس التشريعي القادم، حتى يبدأوا في تحسس ما لديهم، وما هم بحاجة فعلاً له. لأن الناس كلها أبطال قبل التجربة، أما بعدها، وهذا هو المهم والأهم في نظرنا، فتختلف الأحكام والمعايير. ولذا، فأمام حماس الآن، أربع سنوات، كي تثبت لمنتخبيها، صدق شعاراتها أو عبثيتها، ومصداقيتها على الأرض من عدمها.
لا نريد أن نستبق الأحداث، ولا نريد القول، بأن الذهاب إلى حماس، كبديل عن فتح، هو ذهاب إلى اللاشيء، أو أسوأ: كالمستجير من الرمضاء بالنار. فالتجربة التاريخية القادمة هي مَن تقرر ذلك. لكننا نودّ القول، بأن أمام شعبنا فرصة تاريخية، قلما تتاح، لكي يحدد أجندته المستقبلية، وبرنامج عمله القادم. فإما الرضوخ للشعارات التي أوردته موارد التهلكة، على مدار 57 سنة، أو الإنصات إلى صوت العقل، والأخذ بما يشير به علينا، الآن وفي المستقبل. مع التأكيد على أن فوز حماس أو فتح، بغالبية الأصوات، هو هزيمة لكل ما هو حداثي وديمقراطي وعقلاني، في الواقع الفلسطيني. فلم يعد في الرأس موطىء ضربة لمزيد من الفؤوس. إذ توشك هذه الرأس، من فرط ما تلقت، على الانفصال تماماً عن الرقبة!
أما اليسار العلماني الفلسطيني، المتشظي والمذرر، فقد ضيّع فرصة عمره، بعدم نزوله في قائمة انتخابية واحدة. ما يُراكم من أزمته التاريخية المزمنة. وما يهدد بانفلاشه، وبمزيد من تذريره وتذويبه. فقد اختار بعض رموزه وقادته، الانحياز لحساباتهم الشخصية، الأنانية، على حساب المصلحة العامة، والوضع العام. وهذا شيء مؤسف ومؤلم حقاً. لأن هذه القوى والتيارات، مخولة، أكثر من غيرها، على قيادة أو المشاركة في قيادة المشروع الوطني والاجتماعي، أفضل من ذينك التنظيمين الكبيرين. لكن، هذا هو الحال، ولا سبيل لتغييره بمجرد النوايا والأماني. فاليسار الفلسطيني، مأزوم مثل غيره، وبحاجة إلى ضخ دماء جديدة في عروقه، وتبديل قيادات هرمة بقيادات شابة. بعد أن أصيب بجمود عقائدي، وتكلّس، كالمومياوات!
لقد أفلتَ من يديه فرصة تاريخية، بأن يكون بيضة القبان بين حماس وفتح. وسوف يندم عليها، كثيراً في قادم السنوات. ومع هذا، يظل هو وحده، حامل الأمل، وحامل مشروع الحداثة، والعلمانية، والتنوير. فيما يغصّ غيره من قوى، في عشواء وفوضى، وقصر نظر تاريخي. لقد كنا نأمل، بأن يكون هذا اليسار المتعدد، هو التيار الثالث، المؤهل تاريخياً بانتشالنا من هاوية الوقوع بين سندان فتح ومطرقة حماس. لكن يبدو أن هذه الأمنية، سوف تذهب، مثل كثير غيرها من الأماني، أدراج الرياح!
عموماً، تظل الانتخابات القادمة، بوصفها أول انتخابات تعددية حقيقية في تاريخنا، خطوة كبيرة إلى الأمام، مهما تكن النتائج. فعلى الأغلب سوف تكون فاتحة لمشروع حراك سياسي، بدلاً من هذا الجمود الذي أوقعتنا فيه فتح، بوصفها [ الحزب القائد ] الواحد! فأهلاً بهذه الانتخابات، وحذار حذار من تأجيلها، تحت أية حجة من الحجج! ذلك أن حدوثها في موعدها المقرر، 25 يناير، هو، وبكل المقاييس والمعايير، مصلحة وطنية من الدرجة الأولى. فالبديل في حالة التأجيل، أسوأ بما لا يخطر على بال. ولا أبالغ، إذا قلت بأن التأجيل، يعني، نشوب حرب أهلية! فالأوضاع متأزمة، والنفوس محتقنة، والتجاذبات الفصائلية حادة، ولا مجال لتفريغ كل ذلك، إلا عن طريق صندوق الاقتراع. كما تفعل كل الأمم المتحضرة في هذا العالم.
فأهلاً، إذاً، ب25 يناير كانون الثاني، يوماً من أجل الديمقراطية، ويوماً لفلسطين!
التعليقات