أياّ كان مصير أرييل شارون، سواء كتب الله تعالى له الحياة أو حجبها عنه، فان لهذا الزعيم الاسرائيلى البارز، على أسرائيل والاسرائيليين ما يساوى أو يفوق ما لبن غوريون، واسحق شامير، ورابين، و.. حتى مناحيم بيغن، الذى كان أول أسرائيلى يخترق الوصايا الصهيونية ويعترف بجيرانه على النيل والى شرقى الاردن.
صحيح أن تاريخ شارون بالنسبة للعرب، والفلسطينيين، والشعوب المحبة للسلام، تاريخ حافل بالتجاوزات العسكرية والدماء والموت، حتى لا نقول بجرائم الحرب لان الرجل أصبح فى عهدة ربه (حيا أو مصابا أو غائبا) غير أن الصحيح أيضا أن هذا الضابط الفذ، الحديدى الاعصاب، والمتجهم دائما، القاس دائما، هو واحد من قلة نادرة من الاسرائيليين الصهاينة الذين أدركوا فى وقت من الاوقات أن أسرائيل الصهيونية (من النيل الى الفرات) أمر مستحيل، وأنه مستحيل ايضا قيام اسرائيل على كامل تراب فلسطين التاريخية، وانه مستحيل ثالثا أن تبقى هذه الدولة الصغيرة العمر مدججة بالسلاح الى الابد، لان من شأن ذلك أن يرهق الانسان الاسرائيلى نفسيا وعقليا وجسديا فيهاجر ويترك quot;دولة الميعادquot;.
ونحن نؤكد على صحوة شارون السياسية والعسكرية ونضعها فى الموقع الايجابى، لاننا نعرف من هو شارون، وماذا كان فى مقدوره أن يفعل ، وبماذا كان يفكر.
وللحال ، نستجمع عنه الذكريات الاساسية الاتية:
اولا: أن شارون ليكودى حتى العظم . أو بالاحرى ، كان ليكوديا متطرفا حتى قبيل أصابته عندما قرر ترك حزب الليكود وانشاء حزب جديد سماه: quot;quot; كاديما quot;quot; اى: الى قدّام . أى الى الامام.
وبرنامج حزب الليكود الدائم يقوم على ما يأتى:
أ ndash; سيادة أسرائيلية مطلقة على كل فلسطين من النهر الى البحر.
ب ndash; حرية الاستيطان فى جميع أنحاء quot;أرض أسرائيلquot;.
ج ndash; التفاوض مع العرب تفاوضا ثنائيا وتوقيع معهادة صلح مع كل دولة عربية على حدا.
د ndash; تهجير اليهود من البلدان العربية التى ما زال فيها بعضهم واستقدامهم الى أسرائيل.
ثانيا: أن لشارون مشروعا أستيطانيا يقوم على تحويل مدن الضفة والقطاع الى جزر معزولة محاطة بمستعمرات أسرائيلية تعج بالمستوطنين وتشكل خطرا ديموغرافيا واقتصاديا وأمنيا على الفلسطينيين فلا يبقى أمامهم سوى القتال حتى الموت، أو الهجرة وتفريغ مدنهم وقراهم.
وقد حاول شارون منذ 1985 أن ينفذ مشروعه، بالحيلة تارة ، وبالقوة تارة (عندما أصبح رئيسا للحكومة) لكنه أدرك أخيرا أن هذا المشروع لا يمكن تطبيقه، فبدأ يتراجع بمقدار ما تسمح به قوته ومصلحته .. وكان الانسحاب من غزة دليللا على هذا التراجع.
ثالثا: كانت غولدمائير تقول: quot;إن حدود أسرائيل الدولية هى حيث يستوطن اليهودquot; وكان بيغن (الليكودي) يقول: أن القرار 242 لا ينطبق على الضفة الغربية وغزه ، لان هذه أرض محررة وليست أرضا محتلة.
وكان شارون مسؤولا فى حزب الليكود عندما قرر هذا الحزب أن يرد على سؤالين وجههما أمين عام الامم المتحدة غونار يارينغ فى اَذار / مارس سنة 1969 الى أسرائيل وهما:
1 ndash; ما هو مفهوم اسرائيل للحدود الامنه؟
2 ndash; هل توافق أسرائيل على سحب قواتها من الاراضى التى أحتلتها فى حرب 1967؟
وقد أجابت اسرائيل على هذين السؤالين بتاريخ 2/4/1969 بما يلى:
1: لا توجد حدود اَمنه ومعترف بها بين أسرائيل والدول العربية . ولذلك يجب أقامة هذه الحدود كجزء من عملية السلام المبنى على التفاوض الثنائى.
2: لن تنسحب اسرائيل الى خطوط ما قبل الخامس من حزيران سنة 1967 .

ومن هذه المنطلقات ينبغى على السلطة الفلسطينية أن تنظر الى مستقبل العلاقات بينها وبين أسرائيل ما بعد شارون. ذلك أن شأن شارون ألزم خلفه أّيا كان أسمه وانتسابه، بحقيقة أعترفت بها أسرائيل، وشارون بشكل خاص، هى: أن حدود أسرائيل التاريخية من البحر الى النهر، أو من النهر الى النهر، لم تعد قائمة وينبغى ألغاء التفكير الاسرائيلى بها لانها أمر مستحيل وغير قابل للتنفيذ.
وأمام السلطة الفلسطينية، وامام الرئيس أبو مازن خصوصا، فرصة مواتيه لسلوك المسلك الذى يخدم هذه الحقيقة الجديدة التى وضعها شارون (مرغما أو لكبر عقله) ولم يعد ممكنا ألغاؤها أو تجاوزها مهما كانت الظروف، وايا كان حكام أسرائيل اللاحقون.

وفى نظرة تحليلية للمستقبل، يمكن أن تنير شمعة صغيرة أمام السلطة الفلسطينية، يشيرمنطق الامور، الى مايلى:
اولا: قد يكون يهود أولمرت، نائب شارون، أوفر المرشحين حظا لخلافته، سواء فى رئاسة الحكومة أو فى زعامة الحزب الجديد، فاذا حصل هذا فسوف يكون من حسن حظ السلطه الفلسطينيه، وذلك لسببين:
الاول: أن أولمرت يعتبر رجلا معتدلا، فهو عندما تشدد شارون فى لقاء الرئيس أبو مازن والحوار معه، ساهم فى كسر جليد العلاقات بينهما.
والثانى: أن أولمرت متزوج من سيدة يسارية تتعاطف مع التطلعات الفلسطينية، وأبنها البكر عضو فى حزب ميريت، الاقل تشددا فى الاحزاب الاسرائيلية.
ثانيا: اذا فشل أولمرت فى خلافة شارون فى رئاسة الحكومة أو فى زعامة الحزب، فان الاحتمال الممكن سيكون شاوول موفاز. لكن موفاز لم يكن متحمسا لخروج شارون من الليكود لتأسيس quot;quot;كاديماquot;quot; الا عندما شعر أن نتنياهو وبيريت لن يقدما له أى تعويض، فأضطر للحاق شارون.
ثالثا: أذا فشل أولمرت فى خلافة شارون، وفشل معه شاوول موفاز، فسوف يكون البديل الثالث هو شيمون بيريس، لكن بيريس لم يعد مؤهلا، من حيث سنه ووسائله القيادية، لحمل الحزب الجديد quot;quot;كاديماquot;quot; الى النصر، ما دام أن تاريخه حافل بالفشل تلو الفشل.
رابعا: اذا جرى الاستفتاء على الحكم اليوم، فقد يربح حزب شارون الجديد الانتخابات .. ومن ثم الكنيست، وعلى رغم أننا نجهل، حتى الان، تفاصيل برنامج حزب quot;quot;كاديماquot;quot; الاّ أننا نرى بصيص نور فى هذا الحزب أيا كان برنامجه، فهو، على الاقل، لن ينادى بفلسطين التاريخية كما يفعل ليكود نتنياهو وبيريت. وطبقا لمبدأ quot;عدو عدوك صديقكquot;، من الممكن للسلطة أن تتفاوض مع quot;كاديماquot; بأسهل مما تتفاوض مع غيره من الاحزاب.

أقول ذلك، وفى وعيي الكامل، من هو شارون اليوم، ومن هو بالامس، وأول أمس، لكن السياسة لا تتقدم الى الامام بالعواطف والافكار المسبقه. وما فعله شارون يسجل على تاريخه، ولا يسجل على الفلسطينيين وفلسطين.