الحالة الكئيبة والمثيرة للإحباط في العراق لا تثير التأمل فقط، بل تثير الجزع وكل معاني الأسى والحيرة على مصير شعب ووطن وواقع سياسي مريض لم نكن نتوقع أن يصل لهذه الدرجة من الرداءة وسط بحار الأمنيات التي عشناها أكثر من عقدين من الكفاح ضد الفاشية البعثية المأزومة الكريهة الفاسدة، فإذا بالنتائج الميدانية الجاثمة على الأرض تنبيء اليوم بحجم هائل من الكوارث التي مبعثها الفشل الواضح في إدارة السلطة وفي كيفية التعامل مع العديد من الملفات الوطنية الحساسة والحاسمة، وفي فشل النخب والأحزاب السياسية العراقية جميعا بدون إستثناء في أن تكون على مستوى الأحداث الكبرى التي حدثت في العراق والتي عبرت خير تعبير عن فشل الدولة العراقية المترسخ، وعن ضعف فظيع في الولاءات الوطنية، وعن كل ذلك الحجم الهائل من التخلف الفكري والسياسي والإجتماعي، وعن حجم التدمير المنهجي والمنظم الذي تعرض له المجتمع العراقي طيلة سنوات التسلط الفاشي البعثي وقبله العسكري الممتد والموروث منذ إنقلاب 14 تموز 1958 ووفقا للصورة التي أظهرتها مرحلة ما قبل وما بعد الإنتخابات النيابية الأخيرة قبل حوالي الشهر والتي بدلا من أن تكون عنصرا توحيديا للمسيرة الوطنية أضحت إحدى أهم نقاط الخلاف والصراع والتنافس والشقاق والتي إرتفعت بسببها لغة (يا لثارات قريش)!، وتهديدات اللجوء للسلاح والحرب الأهلية!! لا بل أن (سقيفة بني ساعدة) جديدة عادت للحياة اليوم لتنصب أوتادها في الوسط الطائفي العراقي المهلهل المريض ووسط شعار (منا أمير ومنكم أمير)!!؟ وسجالات لها بداية وليس لها نهاية؟ ورؤوس متنطعة للزعامة والقيادة والسلطة وشهوة الحكم؟ وإتهامات متطايرة من هذا الطرف أو ذاك جعلت المواطن العراقي العادي المفتقد للخدمات الضرورية والإنسانية يكفر بكل ذلك (الترف الديمقراطي) وبكل ذلك الجدال (البيزنطي) السقيم بعد أن تحول الإنسان العراقي اليوم لأبخس رأسمال؟ وبعد أن أصبحت المجازر البشرية وحفلات القتل الجماعية وحملات الرعب اليومية من مفردات الحياة العراقية ليتحول العراق بكل ثرواته المنهوبة أو التي في طريقها للنهب لواحد من أكثر ألأقاليم في العالم طردا لسكانه وأهله !!، بعد أن تمكن الإرهابيون من مختلف الملل والنحل من فرض سطوتهم على الشارع العراقي وتمكن (الإخوة المؤمنون) من فرض (دويلات اللطم والكآبة والسلفية السقيمة)!!، وبعد أن تراجع المثقف العراقي لآخر الصفوف حسرة وخوفا من بنادق الرعاع والمؤمنين التي لا تفرق بين الحق والباطل وتحول العراق بأسره لمسرح قتل شامل في ظل غياب كامل للسلطة (المنتخبة) عن تفاصيل الحياة اليومية فالكل مشغول بحماية نفسه من موت محتمل، والجميع في حالة تدافع بالمناكب للحصول على المناصب والإمتيازات والمصالح وكوبونات النفط المهرب المسروق؟.

ولعل من أعجب ألأمور وأكثرها إثارة للحيرة والأسى والتأمل هو فقدان السلطة العراقية لزمام المبادرة الميدانية في متابعة الجماعات الإرهابية وخصوصا البعثيين الذين باتوا يحظون اليوم برعاية أميركية ملفتة للنظر وتنم عن خطوات مستقبلية لا تثير الإرتياح بل تشعل وتستحضر كل مخاوف الماضي القريب، ولعل في إطلاق سراح دفعة من إرهابيي البعث العراقي النافق مؤخرا ما يثير الحيرة والعجب ومنهم من كانوا مصنفين ضمن مجموعة الفئة(55) إرهابيا مثل صهر صدام جمال مصطفى التكريتي ومثل آخرين لا زالوا حتى اليوم يدافعون عن ولي نعمتهم صدام ويصفوه ب(سيادة الرئيس)!! ومع هذا يطلق سراحهم علنا ونراهم في الأردن أو الدوحة أو الواق واق!! دون مساءلة ولا رأي من السلطات الأمنية العراقية والتي يبدو أنها تتصرف كالزوج المخدوع تماما (آخر من يعلم)؟، مما ينبيء بشكل واضح من أن ملف الجماعات الإرهابية لم يعد مسيطرا عليه من قبل وزارات الأمن الوطني أو الداخلية أو حتى مستشارية الأمن القومي!! لصاحبها ووكيلها ومتعهد أعمالها سماحة العلامة الجهبذ (موفق الربيعي) قدس الله سره المبارك الشريف !!، فوزير الأمن الوطني سماحة الملا (عبد الكريم العنزي) يبدو أنه في حفلة شواء سعيدة على الخازوق، ولا علاقة له ولا لوزارته التي لا نعلم مهامها بالضبط بما يدور من أمور؟ أما (مستشارية) الأمن القومي فلا شيء متميز بها وبنشاطها سوى إبتسامة المستشار الساحرة وأسنانه التي لم ينخرها التسوس بعد ! ونهنئه أصدق التهنئة لتمكنه من الحفاظ على أسنانه رغم عنف التفجيرات ودقتها!!، أما وزير الداخلية فكان الله في عونه وهو يرتق جدران وزارته من ثقوب الثعابين البعثية المعشعشة بها ويتعرض لخطف أقربائه وأهله على أيدي الجبناء البعثيين والسلفيين المتحالفين معهم من الذين يفتقدون الحد الأدنى من الشرف والكرامة ليعرضوا عضلاتهم على النساء والمستضعفين؟.
أما السيد الأميركي وهو رأس الخيط ومربط الفرس فيبدو أن لغزله وغرامه مع البعثيين المجرمين منهم والأتقياء(إن وجدوا أصلا) مخططات وسيناريوهات مستقبلية قد نراها مرتسمة قريبا على جلود مستضعفي العراق... فهل يعترف إخواننا في المعارضة العراقية السابقة وحكامنا حاليا بحجم ودرجة الثقوب الأمنية ويكشفون الحقائق للتاريخ ويضعوا النقاط على الحروف !؟، أم أن شهوة الحكم والسلطة وهيلمانها ستكرر حكاية : (إننا قتلنا خير الناس أما وأبا)!!... أغلب الظن أن العراقيين جميعا باتوا يعيشون اليوم في حفلة على الخازوق.

[email protected]