في ختام مقال سابق حول نجاح الإخوان في الانتخابات الأخيرة، تساءلنا: quot;ما هو العمل الآن؟quot; وقبل محاولة الإجابة (التي تأخر نشرها لأسباب خارج الإرادة) نبدأ ببعض الملاحظات.
أولا: ما أصدق المثل القائل quot;أول ما شطح نطحquot;. فهاهي ديموقراطيتنا اليانعة تناطح الديموقراطية الفرنسية التي تستمد جذورها من إعلان حقوق الإنسان الصادر في 1789.
تشكيل الأحزاب في فرنسا حق دستوري، ويجري إشهار أي حزب جديد بمجرد quot;إبلاغquot; السلطات. وهناك حوالي عشرين حزبا تغطي ألوان الطيف السياسي من أقصى اليمين حيث يقف quot;لو بينquot; على رأس حزب quot;الجبهة القوميةquot; إلى أقصى اليسار حيث يقف حزب quot;النضال الثوريquot; على يسار الحزب الشيوعي الفرنسي. ولكن الديموقراطية الفرنسية بجلالة قدرها تحظر قيام الأحزاب (أو الجمعيات) النازية لأن فلسفة النازية، القائمة على العنصرية وإقامة الدولة الشمولية الفاشية، بكل بساطة تتناقض مع quot;المباديء الجمهوريةquot; للدولة وتمثل خطرا على نظامها.

أما في ديموقراطيتنا، حماها الله (بمساعدة أعمال البلطجة والرشوة)، فإن جماعة الإخوان التي لا تقل خطرا في مبادئها عن النازية (فاشية عنصرية دينية، بدلا من العرقية)، تدخل الانتخابات بصورة علنية وتفوز بخُمس مقاعد البرلمان، برغم أنها ليست حزبا مشهرا ومن كونها محظورة بالقانون. وبرغم رفعها شعارات دينية فاقعة ورصد مئات الحالات التي قام فيها مرشحوها بترديد شعارات طائفية إرهابية (مثل تلك التي تدعو إلى quot;التخلص من الطاغوت والكفار المشركينquot; كما جرى أثناء حملة المرشحَين العزب مرسي ياقوت وجمال حشمت في البحيرة، أو هتافات quot;لا إله إلا الله، الصليب عدو اللهquot; التي أطلقها اتـباع المرشح الإخواني بدائرة محرم بك بالإسكندرية؛ حيث جرت quot;أحداث طائفيةquot; ..) فلم يخطر على بال لجنة الانتخابات التفكير في اتخاذ أي إجراء قانوني، متمسكة بشعار quot;لا أسمع، لا أرى، أتكلم كثيراquot;. بل إن أحد كبار الكتاب قد انزعج من الوضع لدرجة أنه راح يطالب أثناء الحملة الانتخابية quot;بتفعيل القانون الذي يحظر رفع الشعارات الدينيةquot; فاتحا أعيننا فجأة على أنه لا يكفي أن يصدر القانون في مصر، بل لا بد من فعل فاعل لكي يتم تفعيله! [راجع مثلا القانون الذي يحظر زواج القاصر بدون موافقة ولي الأمر، لكنه يطبق حسب المزاج..]

ثانيا: لقد كان أهم أحداث الانتخابات الماضية هي تحالف الحزب الحاكم وإخوته الإخوانيين في تهميش، إن لم يكن القضاء على، أي تيارات سياسية أخرى، فلم تحصد مجتمعة سوى 3% من المقاعد، مع التركيز بالذات على محاربة quot;التجمعquot; الذي كان، ولا يزال، الحزب الوحيد في مصر الذي يقف موقفا مبدئيا واضحا في فضح الإخوان وإيديولوجيتهم الظلامية. والحقيقة أن ما جرى لم يكن سوى حلقة جديدة من الجهود المشتركة التي دامت لثلاثة عقود بهدف القضاء على المجتمع المدني وكل ما يدعو للفكر المدني. ويكفي مراجعة المماطلات التي تُمارس ضد حزب quot;مصر الأمquot;، لمجرد كونه quot;مدنياquot;، إذ رفضت لجنة الأحزاب (التي يديرها الأمين العام للحزب الحاكم!!) في يونيو 2004 الترخيص له. وعندما رفع بعدها بشهر قضية أمام مجلس الدولة، تأجل الحكم فيها عدة مرات، آخرها إلى مارس 2006!!

ثالثا: مجلس الشعب الجديد سيكون أغرب برلمان في العالم، حيث الحزب الحاكم وquot;الحزب المعارضquot; الرئيسي (الذي هو ليس حزبا بالأساس!) سيتنافسان ويتسابقان. لكن حتى إذا شابتها مشاكسات ومشاحنات، فستظل منافسة بين quot;إخوةquot; (في الرضاعة) يلعبون على أرضية واحدة، مركزين على المزيد من إجراءات ومظاهر أسلمة المجتمع. وقد كانت البداية لا تخطئها العين مع قرار العشرة أعضاء المعينين بالمجلس: وكأن التيار الإسلامي الكاسح ينقصه التمثيل فقد اشتملت القائمة على رئيس سابق لجامعة الأزهر (معروف بتطرف آرائه) الذي تم تعيينه رئيسا للجنة الشئون الدينية بالمجلس؛ إضافة إلى ذمي أهم مؤهلاته (طبقا لصحف الحكومة) أنه خبير في الفقه الإسلامي، وقد نال جائزة فيه!

***
فترة السنوات الخمس القادمة (التي قد تقصر، بتدخل القدر أو بتأثير عوامل ليست في الحسبان...) ستكون فترة quot;استقرارquot; هو، كالعادة، أقرب إلى الركود. وسيكون الهم الأساسي للحزب الحاكم البقاء في الحكم بأقل قدر من الهزات، والإعداد لما بعد الحقبة المباركية. ويمكن الزعم بأن ما سيجري بعدها قد لا يخرج عن أحد الاحتمالات التالية:

1ـ سيناريو quot;الملا عمر المصريquot;، بناء على فرضية أنه من الصعب الوقوف في وجه quot;التسوناميquot; الإسلاموي الماضوي الذي لا بد أن يستمر في اندفاعه المدمر إلى التمام.
وبدون محاولة لخداع النفس بالتمني أو الوهم أو الكذب، فلو قامت في مصر اليوم انتخابات quot;حرة ونزيهةquot; تماما تحت إشراف دولي فإن حصول الظلاميين بأشكالهم على أكثر من نصف المقاعد لا ينبغي أن يكون مفاجئا لأحد. أما تلك الحسابات التهوينية التي تحاول إقناعنا بأن درجة تغلغلهم مبالغ فيها، فهي حسابات ساذجة أو مضللة عن عمد.
[فالحقيقة التي لا مفر من مواجهتها هي أن الإنسان المصري يعيش داخل شرنقة متعددة الطبقات تشمل الأمية التي تستعبد نصف الشعب؛ والتدين الذي يتميز بالهلوَسة والنرجسية والسادية؛ والتعليم المعادي للتفكير، القائم على quot;الصمquot; والأحادية وانعدام القدرة النقدية والغش الجماعي ـ ناهيك عن التعليم الديني الاستقصائي الذي استشرى وتسرطن؛ والإعلام الدعائي الذي يغسل الأمخاخ ويكرس الأكاذيب عن طريق الإصرار والتكرار. وبالتالي، وبدون أدنى نية للإساءة، فإن هذا الإنسان ـ الذي كان ذات يوم رائد الحضارة العالمية ـ أصبح غير مؤهل لإقامة نظام ديموقراطي أولُ أسسِه ومبادِئه وشروطِه quot;الحريةquot;؛ إذ لا حرية حيث العقل مستبعد أومستعبد، أو مغسول وممسوح].
وفي هذا السيناريو، يتولى الحكم الإخوان وأتباعهم واستنساخاتهم، بصورة مباشرة أو عبر تحالف بينهم وبين بواقي وتوابع النظام المباركي... ومع الإمساك بزمام الحكم سيقومون بتنفيذ برنامجهم المعلن والواضح بلا لبس ولا غموض. ولا يحتاج المرء للنبش في دفاترهم القديمة أو التقول عليهم بما لم يقولوه أو اتهامهم بما لم ينفوه. فالكل يعرف؛ وإليك هذا المثال:
عبد الرحمن واحد، الرئيس الأسبق للجمهورية الإندونيسية، فهم جيدا الإيديولوجية السلفية والوهابية، التي لا تختلف عن تلك الإخوانية. وفي محاولة لفضحها ومقاومتها أسس منظمة quot;الحرية للجميعquot; غير الربحية. يقول عن أتباع تلك الإيديولوجية: quot;(إنهم) يبررون وحشيتهم عن طريق شعارات من عينة quot;الإسلام يعلو ولا يعلى عليهquot;، ويسعون إلى ترهيب وإخضاع كل من لا يشاركهم في آرائهم المتطرفة بغض النظر عن الجنسية أو الدينquot;. ويضيف أن أهدافهم quot;تشمل ادعاء العودة إلى كمال الإسلام المبكر كما مارسه السلف الصالح؛ بناء مجتمع يوتوبي (وهمي) مؤسسٍ على تلك المباديء السلفية عن طريق فرض تفسيرهم للشريعة الإسلامية على كافة مكونات المجتمع؛ القضاء على الأشكال المحلية الأخرى من الإسلام بدعوى الأصالة والنقاء؛ تحويل الإسلام من إيمان شخصي إلى نظام سياسي استبدادي؛ إقامة خلافة إسلامية شاملة تحكم طبقا لقواعد الإسلام السلفي المتشددة وتمتد من المغرب إلى اندونيسيا؛ وفي النهاية إخضاع العالم كله تحت سيطرة أيديولجيتهم المتطرفةquot;. ويصف استراتيجيتهم بأنها quot;في الغالب بسيطة ولكنها بارعة. فهم يسرعون في الالتفاف بعباءة الإسلام ونعت خصومهم بالكفر وبالتالي تمهيد الطريق لذبح (حتى) المسلمين غير الأصوليين.(..) وإذ هم توسعيون بالطبيعة، فإنهم يبحثون عن نقاط ضعف أو فرص للضرب في أي وقت أو أي مكان، في سبيل التقدم نحو أهدافهم الاستبداديةquot;. (راجع مقالته في الوول ستريت جورنال ـ 30 ديسمبر).
المهم أن ما سيحدث في هذا السيناريو من مصائب ومجازر يسهل تخيله، بناء على السوابق التاريخية المعروفة. كما أنه ليس من المتوقع حدوث تدخل دولي إلا إذا أصبحت مصر قاعدة للإرهاب (بالفعل، وليس فقط بالفكر كما هي الآن)، أو إذا زادت المذابح عن quot;حد معينquot;...
لكن كما تُعَلمنا مواعظ التاريخ، فصحيح أن الشعوب تنال ما تستحق وتدفع ثمن اختياراتها، حتى وإن كانت عن جهل وتضليل؛ إلا أنها بعد فترة (تطول أو تقصر) من المعاناة ربما تأخذ الدرس وتحاول أن تثور لتخرج إلى النور. وعندما تخرج، فإنها ستعرف جيدا قيمة الحرية وكيف تحافظ عليها ضد أعدائها.
ومن ناحية أخرى هل يمكنها الخروج بسهولة؟؟ ولنا في الحالة الإيرانية هذا الدرس:
عاد صاحبنا ليزور إيران في منتصف الثمانينيات. وعند لقاء صديق قديم، لم يكن هناك مفر من سؤاله عن تغير الأحوال بين ما قبل وما بعد ثورة الخميني التي كان قد مضى عليها ستة أعوام. وفي أسلوب الحكمة الذي يشتهر به الإيرانيون تنهد الرجل وتلفت يمنة ويسرة، فالحيطان لها آذان، قبل أن يقول بصوت هامس: quot;أيام زمان، كنا نشكو الشاه للإله؛ أما اليوم فإلى مَن نشكو الإله؟quot; لقد لخص هذا القول البليغ مدى كراهية الشعب لحكم الملالي بعد اكتشاف حقيقتهم؛ لكنه، في نفس الوقت، يقف عاجزا أمام أولئك الذين لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل بقائهم في الحكم. ومع توالي الأيام، لم يزد الشعب الإيراني إلا كراهية لهم. ولكنهم يلجأون الآن إلى استجداء المشاعر القومية عن طريق افتعال الأزمة النووية لضمان التفاف الشعب حول حكامه بدلا من الثورة عليهم والتخلص منهم.
2ـ سيناريو quot;أتاتورك المصريquot; حيث يقوم حاكمٌ مستنيرٌ، واضحُ الرؤية وقوي (ليس بالضرورة ديكتاتورا) بقيادة تيار تنويري يبدأ بتحجيم التيار الديني وفصل الدين عن الدولة. وبعد فترة إعادة تأهيل للعقل المصري، عن طريق تعليمٍ (يشمل محو الأمية تماما) وإعلامٍ جديدين تماما، تدوم عقدين أو ثلاثة؛ أي ما يكفي لتنشئة جيل جديد، تتجذر خلالها مباديء الحرية والعلمانية، يمكن للديموقراطية الحقيقية أن تنبت وتترعرع. وفقط بعدها يمكن السماح بتواجد تيار سياسي يدعو لأخلاقيات quot;مدنية ـ دينيةquot; إزاء قضايا المجتمع، لكن ليس بهدف إقامة حكومة ذات مرجعية دينية.
والنموذج التركي ماثل أمامنا حيث أصبحت العلمانية من القوة والتجذر بعد ثمانين سنة من إرساء قواعدها، وبفضل حراستها على يدي الجيش، إضافة لدواعي ومتطلبات دخول الاتحاد الأوروبي، لدرجة تسمح للنظام السياسي بالقدرة على تحمل وجود حزب العدالة والتنمية الذي يقوده طيب رجب أوردوجان بدون حدوث ردة خطيرة. (...وإن كان الأمر مازال لم يحسم تماما؛ فالإسلاميون، والحق يقال، لديهم مقدرات هائلة على الالتفاف والالتواء).
3 ـ سيناريو quot;مُشَرّّف المصريquot; وهذا يختلف عن قيام الجيش بانقلاب شبيه بحركة الضباط الأحرار، الذي لم يعد يسمح به الزمن؛ إضافة لانعدام فرص العمل السري quot;التآمريquot; بسبب وجود عدد من أجهزة المخابرات التي تراقب كل شيء وبعضها البعض. وفي هذا السيناريو، سيضطر الجيش بعد انتشار حالة من الفوضى والتخبط إلى النزول للشارع وتولي الحكم بصورة مباشرة لفترة تطول أو تقصر حسب الظروف.

***
لكن هناك احتمال آخر يمكن أن نطلق عليه quot;فولتير المصريquot;: وهذا ليس سيناريو بديل كغيره؛ إذ يمكن حدوثه بالتوازي. وفيه يقوم المفكرون التنويريون كجماعة ـ في غياب شخصية quot;فولتيريةquot; ـ بالدور الذي لعبه التنويريون في التمهيد للثورة الفرنسية وتغيير شكل المجتمع الفرنسي.
لكن الواقع المؤلم هو أن التيار التنويري ـ وخصوصا بعد الضربات المتلاحقة التي نالها ـ أضعف من أن يقدر على إعادة تشكيل مصر المستقبل. بل إن مجرد حصوله على 5 ـ 10% من المقاعد في انتخابات quot;حرة ونزيهةquot; ذات مشاركة شعبية عالية (وبالقائمة النسبية) هو أمر يصعب تصوره.
ومن ناحية أخرى، ربما لهذا السبب بالتحديد (إدراك الضعف)، قد يجد أنه مضطر لدخول معركته السياسية وظهره إلى الحائط (الإخوان أمامكم والنظام الحاكم وراءكم)؛ وأن يخوضها بإصرار، في سبيل إنقاذ مصر، مع التحلي بشيء من الواقعية والتواضع في الأهداف التي يجب أن تركز في المدى القريب على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وكاستراتيجية، لا مفر من الابتعاد عن التشرذم، ومن التجمع في جبهة للعمل المشترك، ولتكن تحت عنوان quot;الجبهة التنويرية لإنقاذ مصر من خطر الفاشية الدينيةquot;، تضم الأحزاب quot;المدنيةquot; ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين والمفكرين التنويريين العلمانيين والليبراليين والتقدميين ممن يتحدون، حتى لو اختلفت آراؤهم واجتهاداتهم في أمور أخرى (مثل النظام الاقتصادي)، في هدف أساسي هو: quot;فض التشابك بين الدولة والدين، دستوريا وقانونيا وسياسيا وتعليميا وإعلامياquot;.
ندعو لأن تقوم إحدى المنظمات المعنية بدور ريادي نحو تشكيل هذه الجبهة وعقد اجتماع تأسيسي لها خلال الأشهر القليلة القادمة، تناقش فيه أهدافها التفصيلية وبرنامج عملها.
هل هذا الحلم المتواضع بعيد المنال؟


[email protected]