في موقف إعلامي لم يكن غريبا ولا مفاجئا وضعت قناة (الجزيرة) القطرية من خلال برنامج (الإتجاه المعاكس) قضية التطورات السياسية والإصلاحات القانونية وحالة المراجعة الشاملة لملف حقوق الإنسان في المغرب أمام طاولة التشريح والتحليل والمسائلة وهو جهد مشكور لا ريب في ذلك لو أنه تم فعلا بطريقة موضوعية وهادفة وبشكل يبعد ذلك الملف الحساس بالكامل عن قضية الإثارة الفارغة أو إشعال حفلات الدخان وإستعراض عضلات اللسان ومحاولة نشر غسيل الماضي الوسخ المعروف للجميع وبتفاصيل حيوية ومجهرية أكثر بكثير من تلك التي قيلت في الجزيرة؟ وقد كانت أولى علامات التخلف والإبتعاد عن الموضوعية هو الإستعانة بباحث وإعلامي من بلد آخر غير المغرب لمناقشة قضية داخلية مغربية هي بمثابة أم القضايا اليوم وهي دليل التحول السياسي والإعلامي والحقوقي في المغرب؟ ولا أدري أو أعلم عن سبب واحد يمنع طاقم برنامج الإتجاه المعاكس من البحث عن معارض مغربي من الداخل أو الخارج يستطيع أن يناظر الأستاذ أحمد شوقي بنيوب عضو لجنة الإنصاف والمصالحة بدلا من الأخ والزميل الجزائري يحيى أبو زكريا الذي رأيناه سابقا في مناظرات عن دول أخرى كالعراق مثلا؟

وأنا لا أقلل من أهمية وحيوية فكر ومنطق وأسلوب أبو زكريا ولكنني أعجب أشد العجب من اللجوء للخيارات البديلة في ظل وجود الأصل والذي لو تحدث فإن له من المصداقية الشيء الكثير لأن الأسلوب الذي تحدث به الزميل الجزائري كان يتسم بالتشهير والعدوانية وبعيدا كل البعد عن الموضوعية المطلوبة في تقصي أمور وأحوال واحدة من أهم المتغيرات السياسية في العالم العربي خلال السنوات الأولى للقرن العشرين؟ يستطيع المرء أن يتهم وأن يشتط ويجنح ويتطرف في إتهاماته ولكن لا يحق له أن يبيع (الميه في حارة السقايين) !! أو أن يزايد على مواقف وتوجهات مناضلين مغاربة قضواالسنوات الطوال من شبابهم في زنازين (المخزن المغربي) ! وفي مواجهة آلة القمع السلطوية التي شكلت تاريخا طويلا من القمع والصراعات السياسية وهي العملية التي مرت بجميع شعوب العالم دون إستثناء والتي يحاول المغاربة من خلال روحيتهم المتسامحة وإجتهاداتهم السياسية المخلصة وحيوية وشبابية هيئاتهم وتجمعاتهم السياسية والمجتمعية مناقشتها للوصول لصيغة توافقية تجنب البلد والمجتمع المغربي مغبة الصراعات الأهلية الدموية أو تستدعي تدخل الأجنبي لفرض الرؤى والحلول؟ وأعتقد أن تجارب الحكم في المغرب هي أكثر حكمة ونجاعة من كل تجارب شعوب ودول الجوار فحالة الأمن والإستقرار والتطور الإقتصادي رغم نواقصه تظل من العلامات المميزة لذلك البلد الثري بثقافاته وتشكيلاته السكانية والإثنية وبحيوية قواه السياسية والإعلامية وبإنفتاحية مؤسسة الحكم فيه حتى في أيام وفترات التسلط الدكتاتورية! فعلى يد المرحوم الملك (الحسن الثاني) ما غيره كانت بدايات التحول السياسي والإنفتاح الفكري وتصفية المعتقلات السيئة الصيت والسمعة والتي بنضال وكفاح الشعب المغربي وحده فتحت أسوارا ومغاليقها وملفاتها وأتيح للرأي العام المحلي والدولي الإطلاع على كل شيء وفي ظل حالة شبه كاملة من الشفافية المعلوماتية فحتى الحسن الثاني نفسه لم يقل أنه كان ديمقراطيا؟ بل كان يتصرف وفقا للظروف والمتغيرات والتحديات الداخلية والدولية ووفقا لمفاهيم وتصورات كانت مرتبطة بأدق فترات النزاع السياسي والصراع السلطوي بين القوى السياسية وبين مراكز القوى السياسية في النظام المغربي والتي إستغرقت قضية تصفيتها وقتا وجهدا وتضحيات ليست بالقليلة فبناء نظام ثم الدفاع عنه ليس مسألة نظرية يقولها المرء وهو يتمدد على فراش الراحة في الممالك الإسكندنافية؟

بل أنه أمر دونه (خرط القتاد)؟، والحديث عن دولة القمع والسجون ينبغي أن يتبعه أيضا الحديث عن المحاولات الإنقلابية و أحداث العنف السياسية الموجهة لتغيير النظام والتي لابد أن يتبعها رد فعل مساوي له في المقدار والإتجاه إن لم يكن يزيد قليلا؟، فوجود معتقل جهنمي رهيب مثل فيلا (تازمامرت) لم يكن مجرد إمعان في الإذلال والقمع؟ بل كان نتيجة لصراعات دموية حادة ولمؤامرة عسكرية إنقلابية فظيعة كانت ستؤدي لو نجحت أن يكون المغرب مثل العراق محطما وهشيما وعامرا بالصراعات بين العسكريين وبما سيؤدي لإثارة حرب أهلية ومناطقية لن يستطيع منعها أحد؟ كما أن المعتقلين في تلك السجون السرية الرهيبة والمرفوضة لم يكونوا من عامة الناس أو يلتقطوا من قارعة الطريق بل كانوا من المشاركين الفاعلين في حمامات دم إنقلابية شنيعة أودت بحياة العشرات من الأبرياء في مغامرة الإنقلاب وتغيير الحكم وتحويله لدكتاتورية وجمهورية عسكرية قمعية على نمط دول الجوار المحيطة بالمغرب؟ نعم حصلت تجاوزات وكانت فظيعة وإعترف بها النظام وحاول إصلاح الضرر ولكن ليس خوفا من أحد ولا تملقا لأحد بل أن منطق العصر وطبيعة التحولات المحلية والدولية كانت تفرض المصالحة وسياسة إسدال الستار على الماضي التي إتبعتها دول وشعوب عديدة والمغرب ليس إستثناء في هذا المجال أما صيغة النظام الملكي الدستوري في المغرب وهي صيغة تاريخية إرتضاها المغاربة فنقولها بصراحة دون أن تربطنا أدنى علاقة بأي مسؤول مغربي من أنهاالصيغة الأكثر ملائمة حتى يثبت العكس أو يقوم البديل؟ فبسبب النظام الملكي تجني المغرب هزات سياسية قاتلة كما أن العرش المغربي ليس غريبا عن البلد كما هو حال العرش العلوي المصري السابق مثلا؟ بل أنه ينبثق من مكونات المجتمع المغربي ومن رحم التاريخ المغربي الإسلامي وهو الذي ضمن وحدة وتألق الحضارة المغربية و أصالتها وفرادتها في الثقافة العربية والإسلامية لقد واجه نظام الراحل الحسن الثاني تحديات دموية شرسة ومقلقة ورهيبة صمد بوجهها وإرتكب من الأخطاء والخطايا ما إرتكب ولم يزور الحقائق التاريخية أو يتلاعب بالملفات بل ترك الحقيقة تتحدث عن نفسها وترك للتاريخ أن يروي وأن يحكم بنفسه عن ما حصل؟ وهي عملية ليست سهلة ولا هينة في عالمنا العربي والشرقي الذي تعود من الحاكم أن يظهر نفسه معصوما عن الخطايا والموبقات ولم يقل الحسن الثاني ذلك أبدا بل وضع مقدمات المتغيرات الدستورية والسياسية ورحل عن عالمنا وهو يخطط لمغرب أكثر إنسجاما وحداثة وديمقراطية وهي عملية تاريخية متدرجة فالديمقراطية ليست (حقنة بنسلين) ! بل أنها بناء وسلوك وثقافة تحتاج الكثير من الوقت ليتم إستيعابها ما حدث في المغرب من تطورات لا يستطيع برنامج تلفوي مدته الفعلية نصف ساعة أن يفيه حقه؟ ولكنها إضاءات لا بد منها لفهم شكل وطبيعة المتغيرات التاريخية في المغرب الذي يخطو اليوم نحو المستقبل بكل ثقة ليرسم معالم لتحولات نتمنى أن تترسخ وتنتعش لا أن تنتكس... وتلك هي المسألة.

[email protected]