لا يكتفي الثري الطموح خاصة إن كان ذا أرومة عريقة، بما يملكه من أموال طائلة، بل يتطلع إلى السلطة، لحماية أمواله وزيادتها من جهة، وتوسيع نفوذه وتحقيق طموحاته من جهة أخرى، فالمال والسلطة قوّتان، يسند أحدهما الآخر، يطلبه ويناديه. والدول الثرية ذات الطموحات السياسية تسعى دوما لتأكيد حضورها، وإمضاء كلمتها، وتعزيز هيبتها، وحماية مصالحها وتطلعاتها، فترفع أولا قدراتها العسكرية والتكنولوجية.

وإيران الضاربة عميقا في التاريخ والحضارة والنفوذ، والتي جنت أموالا طائلة من ارتفاع أسعار النفط، ترى نفسها مؤهلة تماما بصورتها الجديدة لقيادة العالم الإسلامي، وتحقيق طموحاتها الدينية والسياسية اللذين يخدم كل منهما الآخر، واحتلال موقع فاعل في الخريطة الدولية، يشد أزر مؤيديها، ويحمي مصالحها، ويوسع نفوذها، ويعيد دورها التاريخي، وهيبتها التي فقدتها في حربها مع العراق.

ولا ينقص إيران العريقة الجديدة، كي لا تبقى دولة هامشية تصارع مشاكلها الداخلية الشبابية والاجتماعية والمعيشية، فتصرعها، لا ينقصها سوى امتلاكها التكنولوجيا النووية، فتجعل منها مصلحة وطنية عليا أولى، تعبئ الجماهير خلف قيادتها الدينية، وتبعدهم عن مشاكلهم اليومية ومطالبهم والمستقبلية، وتنال إعجاب الشوارع العالمية الإسلامية، وتخيف جيرانها السنة والعرب، الذين يجمعهم معها تاريخ من العلاقات السياسية والقومية والمذهبية طويل قديم حزين مضطرب (العرب والفرس أولا، والسنة والشيعة تاليا) والذين وقفوا مؤخرا ضدها في حرب صدام، ويحتمون أو تربطهم أطيب العلاقات بالغرب، وأمريكا العدوّة.

لن تجد إيران أوضاعا وظروفا أفضل لتمرير مشروعها النووي، وقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى منه، والانتظار أو التأجيل قد يُنهي صلاحية أوراقها (المشار إليها في مقال سابق: سر قوة إيران..) فتصبح عديمة المفعول، خاصة أن الخيارات الأمريكية الحالية كما ترى إيران قليلة جدا أو شبه معدومة، نتيجة لتورطها في جبال أفغانستان وأوحال العراق، ووجود أكثر من مائة وثلاثين ألف جندي أمريكي في مرمى السلاح الإيراني، وأن همَّ أمريكا الآن البحث عن درب للخلاص تحفظ فيه ماء وجهها، فكيف لها فتح جبهة جديدة أشد إيلاما وفتكا، قد تطيح بعظمتها وتنهي أسطورتها!

لا تبدي إيران اكتراثا يذكر لمجلس الأمن، وتظن اجتماعاته فاشلة، فروسيا صديقتها، تساعدها في أبحاثها النووية، وبينهما أفضل العلاقات التجارية، وتحتاج للأموال الإيرانية. ونصف نفط الصين من إيران، وكلاهما ترغبان وتعملان على إضعاف أمريكا التي تقف حجر عثرة في طريقهما، وللغرب الأوروبي عامة مصالح في إيران ليس من السهل التضحية بها، وكذلك اليابان. ومهما يكن- وقد نكون مخطئين- ربما لا تمانع إيران في فرض عقوبات عليها كإجراءٍ أخير وحيد، تتفرغ بعده لمشروعها بعيدا عن المماحكات والمفاوضات والمشاحنات، ودون حسيب أو رقيب.

قد تقيس إيران على الباكستان التي أنجزت مشروعها النووي على مرأى ومسمع العالم أجمع، ولم يقف في طريقها أحد، وإيران أقوى وأغنى وأعرق وأشجع وخلفها شعوب. لكن الباكستان ليست مثالا يُحتذى، ولا ينبغي لإيران القياس عليها، فهي بدأت مشروعها في زمن الحرب الباردة، وتسبح حاليا في المياه الأمريكية، وتشن حربا ضروسا ناجعة ضد الإرهاب والإرهابيين وجماعات بن لادن وطالبان، ومن لف لفهما من الأصوليين. كما لا تصح المقارنة بالحالة الكورية، فكوريا الشمالية تحتمي بالصين، ولا تشكل خطرا على الأمريكيين، وأقصى ما تطمح إليه القيادة الكورية البقاء في كراسيها، والقمح الأمريكي لإطعام شعبها، وحفنة من الدولارات للمستلزمات الأولية.
ليست التكنولوجيا النووية هي السبب الوحيد للمواقف الغربية من طهران، لكنها التي أطفحت الكأس وقصمت ظهر البعير. فإيران تملك أوراقا تلوح بها، تناوئ أمريكا، وقادرة على خلخلة الأوضاع من هرمز إلى العراق، ومن منابع النفط إلى أفغانستان وإلى لبنان وفلسطين، وقادرة على تعبئة الجماهير الإسلامية شرقا وغربا ضد أمريكا ومصالحها ومخططاتها، وصُنفت كدولة في محور الشر وتدعم الإرهاب والإرهابيين، ولأمريكا تجارب مريرة معها منذ الأيام الأولى للثورة الخمينية ومحاصرة السفارة الأمريكية واعتقال موظفيها واعتبارهم رهائن. مع أن أمريكا- بغض النظر عما كانت تأمل- ساهمت في إسقاط الشاه، ورفضت مساعدته، ومنعته من استعمال العنف كالسابق، وحثته على المغادرة.

إن إيران تعرف أن امتلاكها سلاحا نوويا يعد من المحرمات في نظر الغرب وأمريكا وإسرائيل، ولهذا مسؤوليها ينفون دائما رغبتها بامتلاك هكذا أسلحة، ويؤكدون أنها لا تريد غير الطاقة النووية السلمية. لكن الغربيين تساورهم الشكوك، ويتساءلون: لماذا تنفق إيران كل هذه المليارات من الدولارات، وتثير كل هذا اللغط، وكل هذه المخاوف للغرب والخليج، من أجل الحصول على الطاقة النووية السلمية، وهي التي تعوم على بحر من النفط والغاز؟ وإن كانت صادقة فيما تقول، ونواياها سليمة، وغاياتها سلميّة، فلماذا لا توافق على تخصيب اليورانيوم في موسكو وتقبل عرض روسيا الأخير؟

لا أحد يجهل أن منابع النفط والإرهاب وإسرائيل، خطوط حمر أمريكية غربية. فهل يأمن الغرب وأمريكا التي اتهمت إيران بدعم الإرهاب، واعتبرتها واحدة من محور الشر، ألا تتعاون مع الإرهابيين وتمدهم بأسلحة دمار شامل، يحلمون بها، ويسعون إليها ويتلهفون لامتلاكها واستخدامها ضد أمريكا والغرب؟ وهل تسمح أمريكا لقوة تعاديها مثل إيران أن تهيمن على منابع النفط في الخليج؟ ألم يحاول صدام من قبل وفشل؟ وهل تسمح أمريكا، وتقبل إسرائيل بوجود قوة نووية أخرى في الشرق الأوسط، تعاديها، وتطالب بإزالتها من الخريطة، أو نقلها إلى أوروبا؟

قد تكون الأوضاع السياسية والانتخابية وذهاب رئيس الوزراء الإسرائيلي في غيبوبة طويلة، وعدم وجود من هو مخول باتخاذ القرار في إسرائيل، ظروفا مواتية لإيران، لكنها ظروف مؤقتة، وقد تكون إسرائيل غير قادرة على خوض حرب بعيدة جدا عن أراضيها، وأقصى ما تستطيع فعله هو توجيه ضربة جوية لا تظن إيران أنها ستقضي على مفاعلاتها وحلمها بمتابعة أعمالها، ستكسب بعدها إيران التأييد الواسع والشامل من البلاد والشعوب العربية والإسلامية، وتخسر إسرائيل. لكن إسرائيل سبق لها ودمرت قبل حوالي عشرين عاما، بقليل من الوقت المفاعل النووي العراقي، ولم تكن تملك من الأسلحة الحديثة ما تملكه اليوم، فالتقدم الهائل في التقنيات العسكرية والأسلحة المدمرة الذي تم في السنوات العشر الأخيرة، بعد غزو الكويت وتحريرها، وبعد أفغانستان، واستفادت منه إسرائيل بالكامل، لا يقل أهمية عن الثورة التي تمت في مجال الاتصالات. والصواريخ وطائرات الشبح و(ب52) التي تنطلق من واشنطن وتستطيع الوصول إلى أي مكان في العالم، محملة بالخراب والدمار، يجب أن يُحسب لها ألف حساب ولا يُستهان بها.
[email protected]