لم تكن نتائج الانتخابات غير متوقعة، سواء أجرى الوفد الدولي تحقيقا في جميعالمخالفات أو في بعضها فقط.ما أقصده هو أن أية إعادة للانتخابات، بمواصفاتها وظروفها الحالية، لا يمكن أن تكون نتائجها مختلفة جوهريا ما دام الولاء هو للطائفة والعرق.
إننا نعرف واقع ما يدعى بالاستقطاب الطائفي والاستقطاب العرقي. كما نعرف دور المليشيات ورجال الدين ومؤسساتهم وخطب الجوامع وتأثيرها المباشر في تسيير العقول والإرادات. أجل، كان هناك تزييف كبير وتحايل على القواعد والمعايير الديمقراطية للانتخابات الصحية، ولعل فرقاء الأمم المتحدة لا يعنون بالتغيير المفاجئ لقانون الانتخابات المعتمد في الانتخابات الأولى، ولا بحوادث الاعتداء على المرشحين والمقرات، ولا بتدخل الرموز الدينية واسع النطاق. ما يعني مراقبي الأمم المتحدة هو كيفية سريان التصويت في مراكز الاقتراع وإجراءاته وإحصاءات الصناديق. إننا نعرف أنه حتى عندما جرت الانتخابات بتنظيم من الأمم المتحدة نفسها لم تأت كل النتائج ديمقراطية حقا. في سيراليون استُخدمت الأمم المتحدة quot;غطاء لإدارة الانقسامات القبليةquot; كما وصف أمير طاهري؛ وفي تيمور الشرقية كان دورها كما قال quot;مرادفا للفساد الواسع والعروض المشبوهة والفرص الضائعةquot;. أما في البلقان فكانت الانتخابات تثبيتا quot;لتوازن هش للقوى يستثني تطورات ديمقراطية.quot;
إذا صح القول إن انتخاباتنا عكست بأمانة واقع المجتمع والأحوال السياسية والاجتماعية، فهنا،فإن أي تزييف، لا يغير من مصداقية نتائجها، ومن ثم يجب احترامها كأمر واقع وليس كعملية ديمقراطية صحية تقودنا خطوة كبرى إلى أمام، وإن كل محاولة ومسعى للتصدي بالعنف للنتائج تجب مقاومتهما بحزم من جانب كل القوى الوطنية سواء الفائزة انتخابيا وكما كان متوقعا أو التي لم تحصل على نتائج أرادتها.
هناك استثناء هام لأحكامنا: وهو أنه إذا كانت النتائج تعكس حالة المجتمع وقيم مكوناته والعقليات المهيمنة على الساحة، وأعني طغيان المعايير والولاءات المذهبية والدينية والعرقية، فثمة فراغ كبير لتمثيل كل من القوميتين التركمانية والكلدو ـ آشورية، وذلك لعوامل عديدة، وبالنسبة للكلدو ـ آشوريين لعبت انقسامات تنظيماتهم دورا كبيرا في النتيجة. وقد كنا ننتظر من الكتل الفائزة الاهتمام بهذا الفراغ الكبير والتفكير في معالجته بدلا من الانغمار في لعبة quot;الاستحقاق الانتخابيquot;.
لقد أعاد الأستاذ عبد القادر الجنابي أكثر من مرة نشر مقاطع ضافية من البحث المركز للباحث الاجتماعي الراحل عبد الجليل الطاهر حول التقوقع والقوقعية العراقيين. إن البحث المذكور ورغم قصره يمكن أن يكمل أبحاث المفكر علي الوردي في دراساته لمجتمعنا والشخصية العراقية.
قصد الطاهر بالقوقعية والتقوقع الانغلاق الأعمى على الولاءات الفرعية، خصوصا المذهبية والعشائرية، على حساب الولاء الوطني العام. ومع نهاية الحرب الدولية الثانية، وعلى وجه الخصوص بعد ثورة 14 تموز، برزت ظاهرة القوقعيات السياسية الحزبية. إن هذه الأحوال تهبط وقد تختفي مؤقتا أو تصعد وتطغي بحسب الظروف ومجمل الأوضاع العامة الداخلية أولا وكذلك الإقليمية والدولية.
لقد كان لسياسات النظام المنهار وممارساته الطائفية والعرقية وقمعه الدموي دور خطير في تأجيج القوقعيات المنغلقة ونشرها على نطاق واسع، وانفجرت النتائج بعد 9 نيسان كانفجار الدمامل كما وصف عدد من الكتاب. أما القيادات السياسية والفكرية والدينية فلم تكن بمستوى العمل الجاد لمعالجة تلك الظواهر ولأم الجراح تدريجيا، لأن تلك القيادات كانت هي الأخرى من نتاج ما حل بالعراق والمجتمع، والكثيرون من الشخصيات السياسية والثقافية التي كانت في دول الغرب لم يتعلموا كما ينبغي من التجارب الديمقراطية الأصيلة في تلك الدول. لقد وصلنا حالة تحول معها فريق غير قليل العدد من مثقفينا في الخارج فريسة لمرض الطائفية والتوقع العرقي. ترى في أي بلد يتمتع بجزء من ديمقراطية حقيقية لا طائفية نرى مثقفا قضى سنوات طويلة في الخارج ومضت على زواجه سنوات يعلن لصديق له الأسف لكونه تزوج امرأة من غير طائفته؟!! وفي أيامنا صرنا نجد عائلات شيعية أو سنية تُهجّر تحت الضغط في بعض مناطق بغداد نفسها؟!! أما الولايات المتحدة التي اقترفت أخطاء فادحة بعد سقوط صدام، فإنها فرضت مع مجلس الأمن جدولا زمنيا متعسفا جدا لبناء الديمقراطية المدنية العصرية الاتحادية في ثلاث سنوات ليس إلا في عراق خربته الحروب والقمع الوحشي والنهب والسلب ثم التدخل الإقليمي متعدد الرؤوس.
هذه هي الأوضاع التي جاءت بنتائج الانتخابات الأخيرة. إنها نتائج تعكس بصدق وبوجه عام طغيان القوقعية العراقية الذي قد يدوم سنوات طويلة أخرى. إن هذه القوقعية فرّخت لنا دستورا قضى على العديد من مكاسب الدستور المؤقت، ولاسيما عن حقوق المرأة، وسمحت بطغيان دور المليشيات، كما أنها جعلت أطرافا سياسية ممن يتصدون لتمثيل السنة يؤيدون ما يعتبرونها quot;مقاومة وطنيةquot;، وكأن من الوطنية قتل الأبرياء وذبح المخطوفين. هل نعرف بلدا اليوم ذبح فيه مجرم واحد ألفا من البشر، ألفا فقط وباعترافه؟؟!! أعتقد حتى صدام لم يقتل بيديه الاثنتين غير جزء من هذا العدد رغم أن أوامره قضت على مئات الآلاف. فعن أية مقاومة وطنية ثيرثرون.
والآن؟ إن الوضع العراقي دقيق جدا، والإرهاب يواصل نشر الموت الجماعي، والخدمات منهارة والعون الأمريكي بعشرين مليار سنفد في الصيف، وعليه فلابد من تحلي كل الوطنيين بالحد المناسب على الأقل من روح المسؤولية الوطنية بدلا من الانتفاخ الانتصاري أو رد الفعل المصدومين. فهل ممكن تشكيل حكومة quot;الوحدة الوطنيةquot; التي لا تهيمن فيها جهة واحدة على كل المفاصل الأمنية والاقتصادية والنفطية، مع احترام للاستحقاق الانتخابي في نفس الوقت؟؟ هل يمكن في ظروفنا، ومع استفحال المعايير الطائفية والعرقية، والسباق الانتخابي على أساسها بدلا من البرامج السياسية، الاتفاق على مثل هذا التوازن بين الاستحقاقين الانتخابي والوطني؟؟ هذا ما دعا إليه الرئيس الأخ طالباني، الذي أكد أنه في وضع العراق الشاذ لا يمكن لأي حزب فاز بالأكثرية أن يدير السلطة لوحده كما يجري في الديمقراطيات العريقة. وفي افتتاحية هيرالد تريبيون اليوم [ 23 يناير 2006 ] دعوة لحكومة تحالف وطني عراقي تكون أولى مهماتها تعديل الدستور بما يؤكد الدور السياسي والمالي للمركز، وبما يمنح المرأة كافة حقوقها المدنية وحل كل مشاكل وخلافات الزوجية وما يدخل فيها في إطار قوانين ومحاكم مدنية حتى لو أراد بعض الأزواج أو الآباء اللجوء لمحاكم دينية.
ترى هل سيستمع الائتلافيون للدعوتين اللتين تكمل إحداهما الأخرى؟ وهل سيعيد السيد الحكيم النظر في إصراره على رفض إدخال تعديلات أساسية على الدستور؟؟