حقاً رحل؟. الدموع لا تكذب ولا الأشجار المنحنية كذلك. الساحةُ ذاتها؟ العيون لا تكذب والآذان كذلك. كم وقفتُ هنا وكم مررتُ من هنا، وكم انتظرت هنا. الصورة تنتصف المبنى؟. نعم الأصابع لا تكذب ولا الشفاه كذلك. إذاً ماذا تحجبُ هذه الصورة؟. طوابقٌ للنهار فيها نصيب. لا تحجب الضوء، بل إنها سديمية هكذا.
تُرى مَن مِن الزملاء في صحيفة النهار قد حُرم رؤية مشهد بيروت من علٍ بسبب هذه الصورة الضخمة لفقيدنا؟. هل هم ذاتهم الذين كنا سوياً نتحلق لنرى بيروت حينما اختنقت شوارعها بماراثون الجري؟، هناك في الطابق العلوي الحميم الذي يشبه الرحم إلى حد بعيد، والذي يتبادل فيه صحافيو النهار الأوراق المدموغة بالعرق والحبر، خلال جهد حثيث لتظهر صحيفتهم أكثر اختلافا عن الآخرين.
وحينما ترى سيدنا الصحافي الكبير غسان تويني وتجاعيد وجهه التي نمت بسرعة مُذهلة، وشعره الذي ازداد بياضاً، ستعرف الإجابة بشكل لا يخطئ. لك الله يا بيروت، لك الله أيتها النهار السبعينية التي مُنيت بحزن جُبرانين في وقتين متباعدين: جبران المؤسس، وجبران الحفيد، وتركت ألوانها لاجئة إلى الأبيض والأسود. حتى الديك ذا العرف الأزرق الشفاف قرر ممارسة حداده اللا مُعلن في شعار النهار الشهير، واكتسى بلون قاتم.
مالذي أتذكره من جبران؟. لا شيء سوى تلك الابتسامة التلفزيونية الواثقة، وتلك الخطوط المتعرجة الزرقاء التي سكبها لي على أوراق النهار حين تفيأتُ ضفاف الصحيفة قبل شهرين مضيا. تزور بيروت دون ن تزور quot;النهارquot; فتغدو زيارتك ناقصة، فما بالك بمن يقضي فيها الليل والنهار، حتى وإن كانت تلك أياماً معدودات لا تروي ظمأ.
شباب 14 آذار يتجمعون في تلك الساحة التي لا تبعد عن البحر كثيراً. النهار مستلقية على ركبة البحر، البحر نائم على خاصرة بيروت. يال هذه الثُلاثية الوادعة. أرى صورهم وأفتش عني، عنكم، عن الغيوم، والحبر، والندى، والزغب الخفيف على خدود الأطفال. يتظاهرون ضد ماذا؟. ضد جدران quot;بعبداquot; التي غدت كاتمة للصوت، ولم يعدُ سكانها يسمعون ما يجري خارج هذه الجدران الأنيقة.
آذار الذي لا يُنسى. آذار تلك الصورة الغاضبة التي تشي بها تقطيبة الحاجبين لأكثر من مليون لبناني، وآذار الحركة، الفكرة، الأسوار المتساقطة واحداً تلو الآخر بمتاريس الغضب الشعبي، الشعب الحي الذي لا يسكت، والذي لا يقبلُ أي وصاية من أحد.
ترى لو كان لدى الوطن العربي أربعون آذاراً، فمالذي سيحدث؟

[email protected]