التاريخ لايُصنع بقفازات نظيفة. وكثيرا ما تفرض العوامل الموضوعية منطقها القاضي بازاحة شخص ما وبطريقة ما لانه بات عائقا امام انعطاف جديد للعملية السياسية،لتطور الاحداث، مما يستدعي القيام بفعل قد يثير ردود فعل صاخبة وعواصف تبدو احينا هوجاء، وهذا ما حدث حينما اعدم اخر قيصر لروسيا نيقولاي الثاني 1918 وما اتسمت به ردود الافعال على اعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين2006. علما ان اعدام صدام كان اكثر شرعية وقانونية من اعدام قيصر روسيا، نظرا لانه جاء بقرار من محكمة ولان الجرائم التي ارتكبها معروفة للراي العام ولاتحتاج لبرهان جديد فالمتضررين على قيد الحياة.في كلا الحالتين كان فعل الاعدام ولو تم باسلوبين مختلفين(قانوني/غير قانوني)، يعود الى تظافر جملة من العوامل التي لايمكن حصرها بارادة وخيار فرد او قيادة محددة. هكذا قضى التاريخ.

لقد حتمت العملية التاريخية بعد الثورة البلشفية عام 1917 ازاحة القيصر لان وجوده اصبح خطرا على العملية السياسية التي سعى الى تطويرها البلاشفة وتعزيز سلطتهم وسط تهديدات داخلية من بينها الجيش الابيض والتدخل الاجنبي.
ان وجود القصير ومخاطره يشبه لحد ما بقاء صدام في وضعه قبل الاعدام. لانه كان رمزا لجماعات التجاءت الى اسلوب العنف الوحشي للتصدي للنظام الجديد، واضعة من بين برامجها احياء النظام المنهار واعادة الرئيس المخلوع للحكم. وكان هو شخصيا وكما ظهر من خلال جلسات محاكمته، يزعم بانه الرئيس الشرعي للعراق. وظهر وان بقاءه على قيد الحياة سيشكل عامل توتر وقلق للوضع العراقي والعربي عموما وان هناك قيادات سياسيى بدات باستخدام ورقته لتحقيق اغراضها. لاسيما وان صدام شخصية مصابة بمرض جنون العظمة ولاتقبل بلعب ادوار ثانوية او الاستكانة في الظل. وانه سيظل يخطط لاجهاض العملية السياسية وحياكة المخططات من سجنه او منفاه لو ان الاحداث تطورت على هده الشاكلة.

ومثلما كانت هواجس لدى بغداد باحتمال تسفير صدام للخارج لو جرى التباطؤ بتنفيذ قرار المحكمة، فان القيادة البلشفية حصلت على معلومات بان هناك قوى دولية، وعلى الاغلب بريطانيا تخطط لعملية لتهريب القيصر نيقولاي الثاني وعائلته الى الخارج عبر هجوم يقوم به الجيش الابيض وكان من شان وجود القيصر في الخارج ان يسحب الشرعية من النظام البلشفي، ويكون اساسا لعدم الاعتراف به دوليا.. ويذكر ان العائلة الملكية البريطانية ارتبطت بعلاقات قرابة بالعائلة القيصرية الروسية، وسعت لانقاذها من قبضة البلاشفة، بيد ان السياسة لاتعير دائما اهمية للعلاقات العائلية ولاتتعامل وفق مفاهيم الاخلاق المتعارف عليها. ولم يزر الاتحاد السوفياتي طيله قيامه احد افراد العائلة الملكية احتجاجا على اعدام القيصر. وقررت الملكة اليزابيت الثانية زيارة موسكو فقد بعد انهيار النظام الشيوعي في التسعينات وكان الرئيس فلاديمير او زعيم روسي بعد ثورة اكتوبر 1917 اول من زار بريطانية بدعوة ملكية.

وجرى اعدام صدام على خلاف اعدام اخر لقيصر لروسيا، بقرار من المحكمة رغم ما دار حولها من ملابسات. ولم يعلن صدام تخليه عن السلطة رغم انه هرب من ساحة القتال تاركا البلد والجيش الذي يخضع لقيادته للاستسلام لجيش الاحتلال، وهو الذي وعد بمقاومته حتى الرمق الاخير وتحويل بغداد الى مقبرة له!.
كان نقولاي الثاني قد اعلن عن تخليه عن السلطة بعد حوالي شهر من ثورة شباط (فبراير) البرجوازية عام 1917 (15 اذار (مارس)1917).واُحتجز القيصر وعائلته في الاشهر الاولى من ثورة شباط (فبراير) في احد القصور القيصرية في ضواحي بطرسبورغ ومن ثم نقل الى توبولسك وبعد ثورة اكتوبر الى اقليم يكتيرنبورغ في سيبيريا.

واعدمت اللجنة الجزبية لمنطقة يكترنبورغ، نيقولاي الثاني وعائلته في ليلة 17 على 18 تموز(يوليو) من دون محاكمة ولاشهود او محامين، مبررة ذلك باقتراب كتائب الجيش الابيض من المدينة لاختطافهم. ومن ثم جرى دفنهم تحت جنح الظلام في قبور(حفر) حفرت على عجل في احدى الغابات القريبة. وظلت مقابرهم مجهولة حتى انهيار النظام الشيوعي حيث جرت عملية تنقيب وعثر في المنطقة المفترضة على هياكل عظمية قيل انها تعود لعائلة القيصر ونقلوها وسط مراسيم احتفائية الى مدينة بطرسبورع وواروها التراب في قلعة بتروبافلوفسك حيث يرقد ذويهم. وظل اعدام القيصر واحدة من الصفحات الغامضة في تاريخ روسيا المعاصر والمثل الذي يضرب على ممارسات البلاشفة غير الانسانية دعك عن غير الشرعية.ولم يكشف لحد الان فيما اذا كان اعدام القيصر وعائلته عملية تعسفية قامت بها اللجنة الحزبية في اقليم يكتنبورغ، ام انها جاءت بقرار من القيادة البلشفية ومن فلاديمير لينين بالذات. وجاء اعدام القصير بصورة مسرحية حيث سيقت العائلة باجمعها وبمعية الطبيب الشخصي الذي كان يرافقها، الى قبو القصر الذي كانت تسكنه بحجة وجود خطر عليها، وما ان تجمعت القبو حتى استل رئيس اللجنة الحزبية ورقة وقرا عليهم صدور قرار الاعدام بحقهم،وقبل ان يعربوا عن احتجاجهم دخل جنود مسلحين لينفذوا حكم الاعدام.كان هناك القيصر وعقليته وابنه الاصغر المريض(خليفته) وبناته الثلاثة اضافة الى طبيهم العجوز. وحرص الفاعلون على طمس معالم العملية.

ولم تجر اية محاكمة للقيصر بيد ان البلاشفة يتهمون نيقولاي الثاني باضطهاد شعوب روسيا وقمع الحريات والتنكيل بالثوريين ونفيهم وسحق الحركة العمالية بقسوة وضربه المظاهرة السلمية في عام 1905 وايصاله البلد في حالة من الفوضى العامة.

هكذا اُعدم اخر قيصر لروسيا. وطوى التاريخ صفحته. وربما لم يستقبل سكان روسيا حينذاك نبأ اعدام القيصر بفرح ولكنهم حتما لم ياسفوا له، مثلما ياسف الكثير من العرب (غير العراقيين) على اعدام واحد من اكثر الطغاة دموية في عصرهم الحديث. ان سكان روسيا لم ياسفوا لاعدام القيصر
(رغم تحفظهم على اسلوبه) لانه رمز الظلم والاضطهاد وباعتقادهم ان نظامه سبب تفشي الفقر والتخلف في كافة مرافق الحياة وتعامل بقسوة مع أي كافة اشكال الاحتجاج، وخضع للكاهن الغامض راسبوتين الذي كان له نفوذ كبير على السلطة، والكثير من العرب لم يخفوا حزنهم! على انزال العقوبة التي يستحقها رجل مارس الجريمة بصورة علنية وليس ضد شعب العراق وحده وانما ضد العرب. بما في ذلك قيادات فلسطينية وقومية ودينية واحتلاله الكويت وتعامله الفض مع العمالة المصرية التي اختفى جز منها او اعيد في توابيت وانكر حقوق الاخرين.

لقد نقل الروس رفاة قيصرهم بعد حوالي سبعين سنة من اعدامه الى مثواه الجديد ويسعون الان لاضفاء صفة القديس عليه، ربما تكفيرا لاسلوب الاعدام او ان البلاشفة اعدموه بصورة غير قانونية او لحاجة سياسية، فهل ستظهر سلطة بالعراق بعد عدة عقود تتناسى كل جرائم النظام السابق، ام ان الحكم سيكون حكم التاريخ الابدي على صدام حسين ولن يغفر له جرائمه. التاريخ وحده سيقول الكلمة ومتطلباته هي التي تحدد الارادة السياسية.