طالبان بعد هزيمتها، واندحارها، وتلاشيها من الواقع، تحولت ، أو حولها أساطينها الجدد إلى ما يشبه (بندقية للإيجار). الطالبانيون الجدد الذين يحاربون قوات الناتو، والقوات الأفغانية الحكومية هناك، هم في واقع الأمر (ميليشيات) تقوم وتتمركز وتنطلق معتمدة على الدعم اللوجستي للاستخبارات الباكستانية. فباكستان التي هي في حلف معلن ومعروف مع الولايات المتحدة، قلقة (بشدة) من العلاقات التي تنمو وتتحسن مع مرور الوقت بين الولايات المتحدة و الهند، العدو التاريخي اللدود لباكستان. إحياء (طالبان) مرة أخرى، وتمويل عملياتها الإرهابية، والموجهة للحكومة الأفغانية وجيوش الناتو، هي مجرد ورقة ضغط تلقي بها باكستان في حلبة الصراع، أرادت منها إيصال فكرة معينة مؤداها أن الباكستانيين قادرون على إفشال مخططات أمريكا في منطقة وسط آسيا، وخلط الأوراق، إذا ذهب الأمريكيون بعيداً في (تعاونهم) مع الهند.. بمعنى آخر، تحوّلت طالبان إلى مجرد ورقة ضغط سياسية بين المتنافسين السياسيين على النفوذ في المنطقة. الرئيس الأفغاني حامد كرزاي لمح إلى دعم الباكستانيين لطالبان (الجديدة) عندما قال : (إننا نعلم جيدا أنه يُطلب من الأولاد في المدارس الدينية التوجه إلى أفغانستان من أجل الجهاد حيث يطلب منهم حرق المدارس والمستشفيات).
المحاكم الإسلامية في الصومال، أو (طالبان) الأفريقية، التي تستقطب هذه الأيام اهتمام وسائل الإعلام، هي الأخرى حركة مدعومة من (أريتريا)، ومن الرئيس (أفورقي) تحديداً، الذي هو أحد حلفاء إسرائيل القلائل في المنطقة، غرضها محاصرة النفوذ الأثيوبي المتزايد في منطقة القرن الأفريقي، من خلال إذكاء الأصولية الإسلامية المتطرفة في وجه الهيمنة الأثيوبية، التي ترتبط مع الحكومة الصومالية الانتقالية، والتي تحاربها الآن قوات المحاكم، بعلاقات تحالفية وثيقة.
ومن المعروف أن اللعب بالأوراق الأصولية من الأساليب التقليدية لأجهزة الاستخبارات في حلبات الصراعات السياسية بين الدول. فالمجاهدون الأفغان ndash; كما هو معروف ndash; كانوا في واقع الأمر صناعة محض أمريكية، ودُمى في يد الـ CIA، كانت مهمتها (تنحصر) في مواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان أبان الحرب الباردة؛ وبعد سقوط وتفكك الإتحاد السوفييتي، تخلت أمريكا عن الجهاد الأفغاني ، وتركت المجاهدين يتصارعون على النفوذ القبلي، وعوائد زراعة المخدرات؛ واكتشف داعمو الجهاد السذج ndash; متاخرين - أن (مكرمات) الجهاد في بلاد الأفغان التي كان المجاهدون العرب يروجون لها، هي على بلاطه (خراط فاضي)، ودعايات كاذبة، وضحك على الذقون؛ وحينما أتت أحداث 11 سبتمبر، تغيّرت المعادلات، وعادت أمريكا إلى بلاد الأفغان ولكن بمفاهيم ومنطق وتحالفات جديدة هذه المرة.
صحيح أن الأفعى قد تنقلب على (الحاوي) أحياناً، مثلما فعلت (أفاعي) مجاهدي القاعدة بالحواة الأمريكيين مثلاً، غير أن ذلك لم يمنع دوائر الاستخبارات العالمية من الضعف أمام (إغراء) استخدام الورقة الأصولية في الصراعات بين الدول، حيث تعتبر هذه الورقة أسلوب (إعاقة) مثالية لمخططات الطرف الأقوى في الصراع، كما حصل في أفغانستان أبان الغزو السوفييتي، وكما حصل مع قوات المحاكم الشرعية في الصومال والدعم الأريتيري، ومثلما يحصل الآن في وجه الأمريكيين في العراق، ودعم (السوريين) ومساندتهم للمقاومة الأصولية في العراق؛ هذا رغم أن استخدام هذه الورقة - كما علمتنا التجارب- غير مأمون العواقب.

البسطاء من المسلمين، والمتشددون منهم على وجه الخصوص، واللذين ينساقون وراء الوهم والأحلام، ولا يعرفون ماذا يدور خلف الكواليس، وفي أروقة دوائر الاستخبارات العالمية، عادة ما (ينخدعون) بهذه الحركات، ويظنون أنها ستحقق آمالهم وطموحاتهم، فينجرفون وراء هذه الحركات، ويتحمسون لها، ويراهنون عليها، ويصفقون لانتصاراتها، ثم يكتشفون أن هذه الحركات التي ترفع شعار الإسلام هو (الحل) ليست سوى نمور ورقية؛ وحركات هشة كرتونية، (تفر) كوادرها عند أول مواجهة حقيقية ؛ مثلما حصل مع طالبان، و(فرار) أمير المؤمنين الملا عمر على (دراجة نارية) من وجه قوات تحالف الشمال، في مشهد كاريكاتيري يحملُ الكثير من الدلالات؛ أو هروب قوات المحاكم وقوادها وأساطينها، بمجرد أن انقطع دعم (أفورقي) لهذه القوات، نظراً إلى اختلاف الحسابات بدخول قوى (عظمى) على الخط.
كما أن المتطرفين كثيراً ما يتم توظيفهم في الصراعات الداخلية، والتنافس بين مراكز القوى داخل الدول العربية. الرئيس السادات ndash; كما هو معروف ndash; إستخدم الورقة الأصولية الدينية في مواجهة القوى الاشتراكية والناصرية بهدف ضربها وإضعافها عندما ورث السلطة في مصر؛ غير أن هذا (الثعبان) الذي أراد منه السادات تحجيم مراكز القوى المنافسة، ارتد إليه في المحصلةً وقتله!
كل ما أريد أن أقوله هنا أن (الحركات الإسلامية المتطرفة) هي في حقيقتها مجرد أحجار على رقعة (شطرنج) الصراعات الاستخباراتية بين الدول. دعم هذه الحركات ومساندتها من قبل جهات معينة يكشف بجلاء هذه الحقيقة.