quot;الناس على دين ملوكهمquot; عبارة قديمة مأثورة، أتاحت لها مصداقيتها العبور من الماضي إلى زماننا الراهن، لتبدو الآن -أكثر من أي وقت مضى- أكثر وجاهة، بما يمتلك الملوك الآن من أدوات إعلامية جبارة بإمكانياتها المادية والتكنولوجية، ومن ثم الفاعلية والتأثير الذي صار الآن عابراً للقارات في عالم السماوات والحدود المفتوحة، بحيث لم يعد تأثير الملك مقتصراً على رعيته، وإنما يمكن له ndash;وفق شروط ومواصفات خاصة- أن يمتد إلى أطراف الأرض، والأساس في فاعلية تأثير الملوك لا يتأتى من الفرض الجبري من أعلى بقدر ما ينبع من أسفل، من سيكولوجية الإعجاب الذي تكنه الجماهير للحاكم الطاغية، رغم تضررها العملي من ممارساته، ويتولد عن الإعجاب توق كل فرد من الرعية لأن يكون طاغية في الحدود التي تسمح بها ظروفه، في عملية تقمص لشخصية الطاغية الأكبر والأعظم، فالمصريون الذين اتخذوا من كلمة quot;فرعونquot; ndash;الدالة على لقب ملوك مصر القديمة- مصطلحاً للدلالة على التجبر والطغيان، يلاحظ عليهم وبالأخص العاملين منهم في جهاز الدولة البيروقراطي، أن كلاً منهم يمارس عمله كما لو كان فرعوناً صغيراً، فيستمتع بإصدار الأوامر والنواهي، ويبالغ في وضع العراقيل أمام أداء الخدمات للجماهير التي يتعامل معها، بحيث يمكن القول أن quot;الفرعنةquot; ndash;نسبة إلى الأداء المتعالي والظالم الذي لا يكترث بالجماهير ويستمرئ تعذيبهم- هي السمة العامة لأداء صغار الموظفين في كافة دواوين الدولة، وليس فقط في الأجهزة السيادية والأمنية، بل وتمتد تلك الحالة إلى النقابات المهنية والجمعيات الخيرية وكذا النواحي الإدارية في مؤسسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فكل هذه الجهات من المفترض طبقاً لتكوينها أنها الخادمة والمدافعة عن منتسبيها، ومع ذلك نجد أن العاملين بأجهزتها الإدارية يتعاملون مع الجماهير بنفس النهج quot;المتفَرْعِِنquot;.

وإذا كان المثل الشعبي المصري يقول: quot;يا فرعون مالك مفرعن؟ قال مالقيتش حد يردني.quot;، بمعنى أن استمرار الطاغية في طغيانه يرجع إلى العجز عن مواجهته وتقويمه، فإن النظرة الأعمق للموضوع تبين أن هناك عاملاً آخر غير عجز الجماهير عن المواجهة، وهو إعجاب تلك الجماهير بقدرات الطاغية وأخلاقيات القوة التي يتصرف بها، ولا يقتصر تأثير ذلك العامل على مجرد استقرار الحاكم الطاغية على كرسيه، وإنما الأخطر هو انتشار روح وثقافة الفرعنة بين الشعب، كل يطغى على من هم دونه، أو على من تضطرهم الظروف للاحتياج إلى أمر يسيطر هو عليه، بهذا يسود الظلم والفساد كل حياة مثل هذه الأمة، لتكون النتيجة أن ظلم الطاغية لشعبه يتضاءل بجانب حجم الظلم الذي تظلم به الرعية المتفرعنة نفسها.

هذه هي الحالة الثقافية والسياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في مجتمعاتنا، والتي احتفظت بشعوب المنطقة داخل دائرة البؤس والتخلف، لا تبارحها وإنما تستكين إليها كأنما تتنعم بها، هذا إلى أن وفد علينا ما هو أكثر وبالاً من quot;الفرعنةquot;، بما تدل عليه من مفاهيم الظلم والجبروت والطغيان، والوافد الجديد يصح أن نطلق عليه quot;الصدَّاميةquot;، والتسمية فيما نرى مناسبة شكلاً وموضوعاً، فمن حيث الشكل معنى الكلمة المعجمي مشتق من الصِدام، ويعبر عن المحتوى أو مفهوم الاصطلاح، ومن الناحية الموضوعية من المناسب نسبة الأمر إلى بطل النهج المقصود، أي المهيب الركن صدام حسين التكريتي، الذي تصادف أن يكون اسمه أقرب إلى توصيف فعله ونهجه.

ما نقصده بـquot;الصدَّاميةquot; هو ما يقصده المصريون بتعبير quot;فرعنةquot; مضافاً إليه صفات جديدة وليدة التيارات الثقافية التي سادت الشرق الأوسط خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أو ما يعتبره البعض مرحلة الاستقلال الوطني لدول المنطقة فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وما ينظر إليه البعض كمرحلة ثورية راديكالية، فيما يعتبرها البعض -عن حق- فترة المد العروبي القومي، الذي استحال بعد انتكاسة حرب حزيران 1967 إلى مد ديني يرفع رايات الإسلام السياسي، التي كان التنظير لها قد بدأ مع بداية الربع الثاني من القرن العشرين على يد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين المحظورة.
كان أهم ما جمع بين حكام مختلف تلك الدول التي رفعت رايات الاستقلال -وأطلقوا على أنفسهم ألقاب الثوار والزعماء الملهمين والقادة الضرورة وما شابه- هو الدكتاتورية التي تحكم الشعوب بالحديد والنار، رغم الشعارات التي كانت تطالب المواطن أن quot;يرفع رأسه بعد أن مضى عهد الاستعبادquot;، وقد أضافوا للدكتاتورية القديمة قدم تاريخ المنطقة عنصراً جديداً يتمثل في تبني أيديولوجية تصادمية وعدائية تجاه العالم الغربي بالتحديد، تحت دعاوى القومية العربية ومناهضة الاستعمار (الذي بدونه لم يكونوا ليتعرفوا حتى على بذاتهم العسكرية الأنيقة)، ليترعرع في أحضان راديكاليتهم العلمانية ما هو أخطر، أي أيديولوجيات التكفير والعداء الديني للآخر، وهو بالأخص الغربي، الأكثر استجلاباً لعداء فكر الكراهية الديني المتعصب، ربما لأنه الأكثر حضارة وتقدماً، وبالتالي الأكثر استفزازاً لشعوب ترزح في التخلف، وتستعيض عن شعورها بالهوان بشعور زائف بالتفوق superiority complex ، ينبع في الأساس من إحساس متأصل بالدونية inferiority complex ، علاوة على كونه الآخر المسيحي/اليهودي المستهدف الأساسي بالكراهية والعداء الديني بوصفه عالم الكفر ودياره ديار الحرب.

الجدير بالذكر أن المقبور صدام حسين التكريتي -الذي صار أسطورة العرب وسيد شهداء العصر على حد قول أشاوس العروبة- لم يبتكر quot;الصدَّاميةquot; أو يختلقها من العدم، وإنما كان خلفاً صالحاً وبارعاً لأسلاف قاموا باستزراعها سياسياً وثقافياً ودينياً على المستوى العملي والنظري، فهو وريث ميشيل عفلق وحسن البنا وجمال عبد الناصر، علاوة على مجايليه من الحكام الأبطال الملهمين والقادة الضرورة، ويصاحب كل منهم جيش جرار من المؤيدين المخلصين والمنتفعين المتسلقين، من أصحاب الأقلام والحناجر الكفوءة، فكان أن انتشرت quot;الصدَّاميةquot; لتصبح كما حدث مع quot;الفرعنةquot; فكر ومنهج حياة للشعوب وليس فقط الحكام، فالأفراد العاديون كل يحاول ndash;أو يجد نفسه دون وعي منه- أن يتصرف كصدام حسين، سواء في حياته الخاصة أو المهنية، ناهيك عن ميوله وانحيازاته السياسية، التي نراها الآن في المظاهرات الشعبية في عدد من الدول العربية، تهتف quot;بالروح بالدم نفديك يا صدامquot;، رغم أنهم يعلمون يقيناً أن صدام الذي اقتنصه الأمريكان حياً من حفرة، أعاده العراقيون جثة هامدة إلى حفرة أهالوا على فوهتها التراب!!
بالطبع التعميم في الحديث عن الجماهير هنا لا يعني تجاهل التفاوتات الطبيعية بين البشر، ما بين التقبل لتلك الثقافة quot;الصدَّاميةquot; بدرجات متفاوتة، إلى الرفض لها ومناهضتها.

لا تهدف تلك السطور إلى لفت الانتباه إلى خطورة سيادة quot;الصدَّاميةquot; من حيث توجيهها لشعوبنا لتكون في حالة عداء وصدام دائم مع العالم المتحضر، فهذه ندركها جميعاً كليبراليين، وربما لا تخفى أيضاً على كثير من السائرين في ركاب quot;الصدَّاميةquot;، فها هي تضع العراق على حافة الدمار التام، وتضع لبنان وفلسطين في محرقة قد لا تخلف غير الرماد، فيما حال باقي شعوب المنطقة ليس أفضل كثيراً، اللهم إلا من قبيل أنها مازالت في طور الانتظار، إلى أن يحين دورها لتصل الخط الأحمر، تعبر بعده إلى مرحلة الصراع المدمر، ثم التحلل والاضمحلال.

الخطورة التي تروم تلك السطور دق ناقوسها هي ما يحدث عند القاعدة، نتيجة تفشي الروح والثقافة quot;الصدَّاميةquot;، التي بدأت ndash;على الأقل كما أرصد في المجتمع المصري الذي أنتمي إليه- تكون منهج حياة في تعاملات الناس اليومية، فقد أصبح من النادر أن يسفر حوار بين فردين مختلفين على أمر ما إلى تقارب أو توافق في وجهات النظر، إنما الأغلب أن يتسم الحوار بالصراخ اللاعقلاني، والافتقاد لآداب الاستماع الجدي لوجهة النظر المقابلة، ولا يعدم أن ينتهي الأمر بتبادل السباب أو حتى التشابك بالأيدي، يحدث هذا بين أفراد العائلة الواحدة داخل البيوت، كما يحدث بين الجيران وزملاء العمل، وذلك بوتيرة نزعم أنها غير اعتيادية وغير مسبوقة، بل ونزعم تفاقمها بدرجة جديرة بالانزعاج، وإن كان الأمر يحتاج لدراسات اجتماعية علمية، لتحديد الحجم الحقيقي لتلك الظاهرة، إن كان لما ذهبنا إليه عبر المعايشة اليومية قدراً من الحقيقة.

نرصد أيضاً في دوائر العمل فشلاً واضحاً في العمل الجماعي team work ، فما أن يتطلب أمر ما تعاون أكثر من طرف، حتى تجد الأمر قد تحول إلى مشاجرة شخصية بين الأطراف، وقد وجدنا أن المشاجرة تتسم بواحد أو أكثر من ألوان ثلاثة: أن يتبادل الأطراف الاتهامات بالجهل والغباء، أو يتبادلون التنصل من المسئولية وإلقائها على الطرف الآخر، أو يتبادلون الاتهام بتعدي حدود الاختصاصات والمسئوليات بما ينتقص من حقوق وكرامة الطرف المقابل، وغالباً من نلاحظ تكرار كلمة الكرامة على ألسنة الزملاء المتشاجرين رغم أن الأمر محل البحث هو أمر عملي أو علمي موضوعي، ولا علاقة له بالكرامة وما شابه من مفاهيم، وهذا بالطبع عين ما نلاحظه في الخطاب السياسي، الذي تتوارى فيه الاصطلاحات المعبرة عن المصالح بين الدول والشعوب، لحساب تصدر مصطلحات الكرامة والهوية والأصالة وما شابه!!

بالطبع ليست تلك حالة ثقافية محضة، بمعنى أنها ناتجة عن التبشير بأيديولوجيات فاشية صدامية كأيديولوجيات العروبة والتأسلم السياسي، فهناك تأثير النظم السائدة في المجتمع، بامتداداتها الرأسية والأفقية، كذا دواعي الفقر المادي وما ينتج عنه من تكالب على انتزاع لقمة العيش ولو من فم الآخر، كذا ما تفرضه أخلاقيات الزحام في مدن عربية عشوائية التكوين، هي عوامل كثيرة إذن، لكن المؤكد أن quot;الصدَّاميةquot; قد انتشرت واستفحلت، وسوف تتزايد الحالة تفاقماً ما لم نجد وسيلة لصد طوفانها، وإلى هذا الحين ينبغي علينا أن نقر ndash;وإن كنا لا نهتف بزهو مع أشاوس العروبة- بأننا quot;كلنا صدام حسينquot;
[email protected]