المجتمعات الغربية التي تنعم بالديموقراطية والحريات العامة وأطلقت أسر الإنسان من التخلف نحو الحرية والإبداع والعمل لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم إلا بعد اعتناقها لقيم وأقكار ليبيرالية بدأت تتشكل منذ عهد الأنوار وتعتمد على أسس واضحة.

الأسس السياسية

جاءت فكرة الدولة وتنظيم الحكم وتبرير السلطة المطلقة مع توماس هوبز. يقول هذا الفيلسفوف الأنجليزي : quot;إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسانquot;. فالناس ستتقاتل فيما بينها لأن كل واحد يبحث عن مصلحته دون سلطة تكبح جماحه. وحتى نتجنب حالة الفوضى القاتلة هذه يجب على كل فرد من المجتمع أن يتنازل عن سلطته لصالح واحد فقط هو الملك. وفي مقابل هذا التنازل يوفر الملك الأمن والعدل. لقد بررت هذه الفلسفة السلطة المطلقة لحكام أوروبا قبل اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789.
ولكن تطور الفكر السياسي مع جان جاك روسو (السويسري الفرنسي) الذي انتقد هوبز في فكرته أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وقدم بدلا منها فكرة quot;إن الإنسان طيب بطبعه ولكن المجتمع هو الذي يفسدهquot;. ولأن هذا الإنسان طيب بطبعه فيجب إصلاح المجتمع الذي يحتضنه ودمقرطته. من ثمة حدثت الدعوة الكبيرة للحرية والديموقراطية وتغليب حرية الفرد على سلطة الدولة.
وتبلورت مع مونتسكيو (الفرنسي) فكرة فصل السلطات الثلاثة التي اُعتبرت ثورة عميقة في الفكر السياسي. حيث دعا إلى فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بعضها عن بعض وقال قولته الشهيرة quot;يجب على سلطة أن تحد من السلطةquot;. quot;Il faut que le pouvoir arrecirc;te le pouvoirquot;.

تبلورت إذن أفكار أولوية الفرد وأهميته بالمقارنة مع الدولة، وكذلك فصل السلطات الثلاث الذي سيضمن توازنا سياسيا بين الفرقاء وتأسيس رقابة صارمة تحمى من أي عملية استغلال سلطة دون وجه حق.
وانقسم الفاعلون السياسيون بشكل عام إلى فريقين أساسيين: فريق اليمين ويمثل المصالح الرأسمالية البورجوازية والداعي دوما إلى الحرية الاقتصادية والدفاع عن الهوية الوطنية للبلد من جهة وفريق ثان من جهة أخرى هو فريق اليسار الداعي إلى العدالة الاجتماعية والحد من جنوح الرأسمالية وترسيخ نزعة إنسانية في الإنسان بدل النزعة القومية. وبين الفريقين برز مفهوم المجتمع المدني الذي أصبح قويا ينافس الأحزاب وفي بعض الأحيان يتفوق عليها. واضطلع المجتمع المدني بمهمة الوساطة بين الدولة والمجتمع أي القاعدة المتشكلة من المواطنين.
وتم إنشاء الآلية الديموقراطية في الحكم وأصبح صندوق الاقتراع هو الحكم بين المتنازعين سياسيا. ولم تعد القوانين إلاهية ربانية وإنما أصبحت قوانين تاريخية من وضع البشر. ولم يعد القانون مقدس في ذاته، لأنه متغير بالتعديل والتطوير وحتى التغيير، ولكنه مقدس بتطبيقه على الجميع دون استثناء.

وحدث ما نسميه بالعلمانية أي فصل الدولة ليس عن الدين، لأنه لم يوجد دين واحد موحد عبر التاريخ، ولكن فصلها عن المذاهب والطوائف. فالدولة يجب أن تكون محايدة مذهبيا وطائفيا وعليها أن تفصل بين مختلف المجالات. فالدولة العلمانية إذن لا يمكن أن تكون مذهبية أو طائفية ومن مهامها هي إدارة التعايش السلمي بين مختلف فرقاء المجتمع لأنه تم الاعتراف بالخلاف ولم يعد مصدرا للتقاتل بل أصبح مصدرا للإثراء والتنوع. ذلك أنه عمليا لا وجود لدولة دينية في مقابل دولة علمانية. حتى تاريخيا وُجدت دائما دول طائفية، إثنية ومذهبية، وقد وجدت دائما من يرفضها داخل المجتمع نفسه. فالدولة البروتستنتية يرفضها الكاثوليك والأرثوذكس والأقليات اليهودية ونفس الشيئ يحدث لأي دولة تنحاز فقط لطائفة معينة ضد طوائف أخرى. كان الحل التاريخي الناجح هو علمانية الدولة بمعنى حيادها وفصلها عن المذاهب والطوائف لتصبح حكما بين الأطراف بدل طرف بعينه.

الأسس الاقتصادية الاجتماعية

حدثت قطيعة كبرى بين النظام الاقتصادي القديم المرتكز على الإقطاع والدائر في فلك ملكية الأرض وكيفية الانتاج والنظام الرأسالي الجديد. ودعا آدام سميث إلى تحرير الفعل الاقتصادي من هيمنة الإقطاع وذكر قولته الشهيرة quot;دعه يعمل، اتركه يمرquot;. وانتقل الاقتصاد الغربي بشكل عام إلى نمط الإنتاج الرأسمالي الذي أحدث ثورة صناعية فتكنولوجية هائلة غيرت من ملامح العالم وأحدثت فيه تغيرات هيكلية عميقة. واستقرت هذه الرقعة من الأرض على اختيار نمط رأسمالي مهذب أي غير متوحش حيث تقوم الضرائب الكثيرة المأخوذة من الأغنياء بدور نزع فتيل التوتر الاجتماعي عن طريق إعادة توزيعها على الفقراء أو المعدمين وقيام الدولة بخدمات كبيرة جدا في الحقل الاجتماعي. انتهى مفهوم quot;الصدقةquot;، أو ما نسميه quot;بالشحاتةquot; ليحل محله مفهوم الدولة الراعية lrsquo;Etat providence وهو مفهوم جاء به موحد ألمانيا الحديثة بسمارك. ومعناه أن الدولة تتكفل اجتماعيا بكل مواطن، أي لن يوجد من ينام دون سقف يأويه ودون غذاء وتطبيب يحتاجه. فالدولة هي التي تتكفل بحياة الفرد في حالة إفلاسه أو بطالته... من مسكن وملبس وغذاء وصحة... وتزداد مزايا الطبقات الفقيرة كلما وصل اليسار إلى الحكم عن طريق الانتخابات الديموقراطية.
الأسس العلمية

حدثت ثورة علمية شاملة في أوروبا الغربية وجاءت على أنقاض الكنيسة التي لم ترحب بالتقدم العلمي واستقلال العلوم وتخصصها. ولعل أهم رمز تاريخي في إعاقتها للتقدم هو شنق عالم الفلك الإيطالي غاليلي بسبب إعلانه أن الأرض كروية الشكل. رفض رجال الدين هذا الاكتشاف وحكموا عليه بالإعدام. فقد كان القص أو الأب المسيحي يروج أنه quot;عالمquot; في كل الميادين. فهو عالم اللاهوت، وهو المؤرخ والطبيب والمهندس والكميائي والفيزيائي واللغوي وعالم الاجتماع والسياسة... كان يقدم نفسه كمحتكر للمعرفة وموسوعة تجيب على كل شيء فلا تجده يقول أبدا quot;لا أعرفquot; أو هذا quot;ليس باختصاصيquot; وإنما كان يفرض بالقوة مفاهيمه ويتهم بالهرطقة كل من يخرج عنها أو يقدم طرحا بديلا. كان يرفض الاختصاص ويرفض العلم الجديد الوافد مع الثورة الرأسمالية. فحدث تحالف بين العلم الجديد والرأسمالية المتوسعة من جهة وتحالف مقابل بين الكنيسة ونبلاء الإقطاع من جهة أخرى. ومثلت الثورة الفرنسية منعرجا حاسما فاز فيه تحالف العلم الوضعي مع الرأسمالية ليزيح بسرعة عوائق التقدم الإقطاعية الكنسية. لخص ذلك الفيلسوف الفرنسي الوضعي أوغست كونت في تقسيمه لتاريخ البشرية إلى ثلاثة مراحل:
-المرحلة الميتافيزيقية،
-المرحلة اللاهوتية،
-المرحلة الوضعية. (La phase positiviste )


فشل رجل الدين أمام التطور العلمي

نحن نعيش إذن في quot;المرحلة الوضعيةquot; التي أصبح فيها الإنسان حرا ومسؤولا في نفس الوقت. وهي المرحلة التي فتحت للتقدم العلمي كل الأبواب واتسمت باستقلال العلوم وتخصصها. فتم التفريق بين العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية والاجتماعية ثم في داخل كل فئة تم إحداث تخصصات كثيرة وفي بعض الأحيان نجد التخصص داخل التخصص وتحولت العلوم من إنتاج فردي إلى إنتاج جماعي يعتمد على نجاعة المؤسسة وليس على عبقرية الفرد. وفي هذه المرحلة تم إزاحة رجل الدين نهائيا من المجال العلمي وهو نفسه لم يعد يستطيع الادعاء بالعلم. لأن الثورات العلمية تجاوزته بقرون من الزمن. والتزمت الثورة العلمية بالمنهج العلمي المعتمد على مفهوم الإبستمولوجيا (انظر فلسفة كلود برنارد) أي النقد الداخلي للعلم وتفهم العوائق الإبستمولوجية لأية موضوع علمي والأهم هو الاستعداد لإحداث قطيعة إبستمولوجية داحل التراكم العلمي في كل موضوع بحث. لقد أحدث إنشتاين هذه القطيعة الإبستمولوجية باكتشافه قانون النسبية. أي الاعتراف بخطإ تاريخي وتصحيحه كلية من الداخل وبمرونة علمية. فلم يعد هناك عناد ودوغمائية مثل تلك التي تميز التفكير الديني السابق. وانتهى المطلق السرمدي ليحل محله النسبي كقاعدة علمية أساسية.
وحدث فصل الدين ليس فقط عن الدولة ولكن عن كافة العلوم الأخرى أيضا. تحرر الطب، التاريخ، الكمياء، الفيزياء... وكافة العلوم من هيمنة رجال الدين وتم الفصل بين هذه المجالات.

الأسس الأخلاقية

حدثت أيضا قطيعة عميقة على المستوى الفلسفي وفي مجال الأخلاق مع الكنيسة. كان الفعل الخلقي يعتمد على ثنائية الثواب والعقاب وكانت الكنيسة تحتكر هذا المفهوم. فالإنسان يجب أن يفعل خيرا وأن لا يفعل الشر حتى يمكنه الفوز بالفدروس وتجنب الجحيم. ووصل الأمر بالكنيسة إلى أن أصبحت تبيع صكوك الغفران أي يشتري الإنسان منها صكا حتى يتجنب الجحيم ويفوز بالفردوس.
أحدث الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قطيعة إبستمولوجية في معنى الأخلاق. حيث يقول إن الفعل الخلقي يكون خلقيا حينما ينبع من إنسانية الإنسان وليس كرد فعل. أي أن الإنسان الذي يفعل خيرا لأنه يطمع في الفردوس أو يخاف من الجحيم لم يعد فعله فعلا خلقيا وإنما فعل منفعة لأنه يخضع لعوامل الطمع والخوف. وحتى يكون الفعل أخلاقيا لا بد أن يكون مصدره الإنسان نفسه. فالواجب القول: إنني أفعل خيرا لأنني إنسان وليس لأي شيئ آخر. وأضاف كانط مفهوم الإيثار ومعناه : يجب على الإنسان حينما يتصرف تجاه شخص آخر ويود معرفة ما إذا كان فعله خلقيا عليه أن يضع نفسه في مكانه ليعرف مدى التأثير عليه.
انتشرت الأخلاق الكانطية واتربطت بالنزعة الإنسانية لتعوض الأخلاق المسيحية الكنسية. وهو ما يفسر الحس الخلقي الرفيع المنتشر في المجتمعات الغربية دون أن تكون ركائزه بالضرورة الأخلاق المسيحية اللاهوتية.