في الوقت الذي انتفضت شعوب وقوميات المنطقة، صغيرها وكبيرها، هجينها وأصيلها، حتى تلك التي لا يعرف الله من أية كهوف أو صحارى خرجت، هبت جميعها تستقتل دفاعاً عن وجودها وكينونتها الثقافية وشخصيتها القومية مطالبة بحقوقها الديمقراطية، نرى البعض من (السريان) يحمل معولاً يهدم به ما تبقى لهذا الشعب العريق من كيان ثقافي ووجود قومي، عبر طمس تاريخه ومحو هويته، بنسبه زوراً الى قوميات وشعوب أخرى تخلفت وتأخرت عن الشعب السرياني(الآشوري) قرون كثيرة في دخولها التاريخ، وبالتالي يحقق هؤلاء (الهدامون الجبناء) من السريان ما عجز الآخرون (الأعداء) عن تحقيقه. ومن المؤسف جداً أن يكون البطريرك (زكا الأول عواص)، الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم، ومعه العديد من (طبقة الإكليروس) السرياني، من ابرز هؤلاء البعض من السريان المخربين لـ(البيت السرياني).يدقون إسفيناً تلو الآخر في جسد الشعب الآشوري(سريان/ كلدان) الجريح بنسبه وإرجاع انتمائه وأصوله القومية الى (العرب)، وكأن غدر التاريخ وتنكيل الأعداء بهذا (الشعب الشهيد)لا يكفيه، حتى يسارع من نصبهم (القدر الأعمى) رؤساء روحيين ليكونوا ناطقين وشاهدي زور باسمه وعليه في محو خصوصيته التاريخية وهويته القومية ودفن حضارته التي تمتد جذورها عشرات القرون في هذه الأرض. في حين كان يفترض بهم أن يكونوا أكثر الناس مدافعين عن هذا البيت بكل ما فيه من كنوز ثقافية سريانية وتحف حضارية آشورية وكلدانية وآرامية.

وليس من المبالغة القول: أن ما صرح به (البطريرك زكا) لمجلة(بقعة ضوء) السورية، في العدد /31/ السنة الثانية 200 وذلك خلال زيارته لأبرشية حلب السريانية، بين 27/ أيلول ـ 2/تشرين الأول/2006، - وقبله المطران متى روهم، مطران الجزيرة السورية لصحف أخرى- هو مسمار جديد دقه البطريرك في نعش السريانية وحضارتها، لا بل في نعش (قضية الآشوريين السوريين). بلا ريب، كلام البطريرك هذا لم يعد يصرف ولا قيمة له ولا أحد يعتبره خارج حدود سوريا، خاصة في العراق بعد زوال الحكم البعثي العربي فيه الذي كان يجبر الآشوريين من سريان وكلدان على نسبهم للعروبة، لكن بكل تأكيد كلام زكا سيكون له مفاعيله السياسية على الساحة السورية، فهو يقوض قضية الآشوريين السوريين، باعتبار دولة البعث في سوريا لم تعترف بعد بالآشوريين ضمنهم (السريان) كقومية متميزة وهي تعتبرهم عرب مسيحيين وكلام البطريرك يخدم ويدعم سياسة تعريب الآشوريين والمسيحيين عامة في سوريا، خاصة وأن البطريرك (زكا) لا يعني بكلامه (السريان هم عرب)، فقط طائفة السريان الأرثوذكس وحدها، وإنما جميع الطوائف المسيحية الأخرى في سوريا والمنطقة لا بل وكل من تحدث ويتحدث بالسريانية، وهذا ما أعلنه في كلمة له القاها في افتتاح مؤتمر (التراث السرياني) التاسع الذي أقيم في مكتبة الأسد بدمشق نيسان 2004، قال فيها((...نحن السريان لسنا فقط السريان الأرثوذكس، وإنما جميع الطوائف السريانية (كلدان، آشوريين، سريان كاثوليك، روم ملكيين، موارنة، وكل من يتحدث بالسريانية)، نشكل عائلة سريانية واحدة، جذورنا وأصولنا واحدة.. والعرب ليسوا بعيدين عنا، فكثير منهم يتحدث السريانية لغة سورية القديمة سورية (السريان)، التي أخذت اسمها من السريان وأخذنا اسمنا منها... سورية لا بتلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، بل على كامل امتداد الثقافة السريانية، في التاريخ والجغرافية، في بلاد الرافدين وبلاد الشام..، واسم العرب ذاته جاء من الآرامية السريانية..)). وهنا تبدو المفارقة والتناقض في كلام البطريرك.يقول القوميون العرب: أن كل من تكلم العربية وسكن على أرض عربية فهو بعربي، في حين أن البطريرك زكا يعتبر: كل من تحدث السريانية وسكن أرض سوريا(السريان) هو عربي.لماذا كل هذا التناقض والتخبيص والعبث بحقائق التاريخ من قبل البطريرك؟ ما حاجته ولزومه أن يحشر نفسه بما لا يعنيه وبما هو ليس من اختصاصه!.يبدو أنه(البطريرك) أسير هاجس وعقدة إرضاء العروبيين والبعثيين والمسلمين والسلطات السورية، لذلك تأتي أجوبته جاهزة ومعلبة خارجة عن الموضوع من غير أن يفكر وقبل أن يسمع السؤال أو القضية المطروحه عليه. وهنا نعيد سؤال مجلة(بقعة ضوء) وجواب البطريرك زكا على القارئ الكريم ليكتشف بنفسه كم كان البطريرك بعيداً وبليداً في جوابه، وكيف أقحم التاريخ في القضية المطروحة عليه حول (الحوار والرأي الآخر)، بدون سبب أو مبرر.

س: قداسة البطريرك بصفتكم الروحية كزعيم روحي لأقدم كنيسة مسيحية في العالم، ما رأيكم بما يطرح حول مفهوم الرأي الآخر للحوار ؟- جواب البطريرك: ) (أنا لا أؤمن أن الأديان تتصارع، الدين الصحيح هو من يتوافق مع باقي الأديان، وخاصة بين الدينين الأكثر انتشاراً واعتقاداً( الإسلام والمسيحية). لا صراع أبداً، نحن في الشرق عامة، وفي سورية خاصة، في حالة تعاون وتمازج معرفي في كل المجالات في أيام السلم وأيام الحرب ولا نتصارع أبداً. الصراع هو بين أولئك الذين يريدون أن يستعمروا العالم، هذا صراع شرير ومرفوض، وبين الذين يُريدون أن يتخلصوا من الاستعمار وهيمنته، ليتحرروا مما يدعّون أنهم أقوياء في العالم، ويريدون نشر الحرية على الأرض. هذا هو الصراع، الصراع بين الديانتين الساميتين السماويتين الإسلام والمسيحية ؟ لا يوجد صراع أبداً.نحن أخوة وسنبقى أخوة، تاريخ المنطقة يثبت أننا عرب قبل المسيحية والإسلام (بنو تغلب) نصفنا مسيحيون، ونصفنا مسلمون، هذا هو تاريخ وواقع المنطقة، من أين صدامنا... نحن أخوة في الدم. في سورية الوحدة الوطنية هي الرد على هؤلاء الذين يرسلون إلينا هذه الاصطلاحات غير المطروحة ولا المعروفة في مجتمعاتنا. )). استقراءاً أقول: لو لا وجود هامش للحريات الدينية في سوريا لطالب البطريرك زكا من السريان اعتناق (الإسلام) حرصاً منه على إرضاء العرب المسلمين واحتراماً لمشاعرهم.

الخطير في الموضوع أن القضية بالنسبة للبطريرك زكا لم تعد مسالة الانتماء الثقافي للعروبة، كما يذهب بعض السريان والمسيحيين المستعربين، وإنما تجاوزها الى الانغماس في (العروبة السياسية) بدعوته الى إحياء المشروع الإمبراطوري القومي العربي الوحدوي القائم على إقصاء وإلغاء كل ما هو غير عربي.فقد سبق للبطريرك في مقال له نشرته جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 12-حزيران 2005، قال: (( نحن شعب عربي واحد، دم العروبة يجري في عروقنا، فلنوطد الوحدة الوطنية في الوطن العربي كله، لنرفع راية العروبة عالياً...)).لا شك، هناك قبائل عربية دخلت المسيحية على المذهب (السرياني الأرثوذكسي). لكن الاعتراف بهذه الحقيقة شيء وأن يلغى أو يطمس الوجود التاريخي والحضاري المتميز للآشوريين(السريان)الذي يمتد قرون طويلة في هذه الأرض قبل أن يغزوها العرب المسلمين، كما يفعل البطريرك زكا شيئاً آخر.لن أدخل معه في سجال حول التمايز التاريخي والثقافي والقومي بين الآشوريين(سريان/كلدان) والعرب، وذكر العديد من المصادر والمراجع التي تؤكد وتدعم هذه الحقيقة التاريخية، فهذا بات من التكرار الممل. من المؤكد أن البطريرك زكا ما كان له أن يتجرأ ويتمادى في تسفيه وتزوير التاريخ السرياني (الآشوري) لو كان هناك قوى قومية وسياسية آشورية /سريانية حقيقة لها وزنها وثقلها الشعبي والجماهيري على الساحة، قادرة على تكوين رأي عام ضاغط، يؤثر على البطريرك ويدفعه إما للاعتذار للسريان وسحب كل تصريحاته السابقة والاعتراف بحقيقة (القومية الآشورية) كقومية متميزة ومستقلة عن القومية العربية، أو إجباره على التنحي والاستقالة عن كرسي البطريركية لأنه عندها لم يعد أهلاً لها بعد أن خان الأمانة.فالبطريرك زكا يدرك الحجم الحقيقي للتنظيمات السريانية والآشورية وهشاشة عقيدتها القومية والسياسية في سوريا وخارجها، في مقدمتها (المنظمة الآثورية الديمقراطية)، أقدم هذه التنظيمات، التي بقيت تتحرك لعقود طويلة تحت (خيمة البعث) الحاكم حيناً، وتحت (قبة الكنيسة) حيناً آخر.

وخاصة وقد انكشفت واحترقت جميع أوراق المنظمة الآثورية أمام (البطريرك زكا) عندما ذهبت قيادتها اليه راجية منه التدخل لدى السلطات السورية للإفراج عن أعضاء آثوريين تم توقيفهم عام 1987 وقد حقق البطريرك رغبتهم وأفرج عنهم بضمانه منه وتابوا سياسياً على يديه.لهذا تسكت وتصمت المنظمة الآثورية على الخطر الذي بات يشكله البطريرك زكا على هوية وخصوصية الشعب الآشوري(السرياني) ووجوده القومي، بالرغم من أن (المنظمة) من أجل حماية وتطوير هذا الوجود تأسست وقامت قبل نصف قرن من الزمن. وما يؤكد تواطؤ وتخاذل المنظمة الآثورية في هذه القضية الخطيرة والحساسة هو قيام فرعها في أوربا باستقبال البطريرك زكا استقبال العظماء إثناء زيارته الى (بلجيكا) قبل نحو عام.في حين كان من المفترض والمطلوب أن تخرج فروع المنظمة في كل أوربا بمظاهرة ولو بشكل رمزي أمام البطريرك احتجاجاً على تصريحاته ومطالبته بالاعتذار عنها.خاصة وإن(تصريحات البابا) تأتي في سياق حملة التشويش والتضليل التي تتعرض لها (الحركة السياسية الآشورية) من قبل السلطة في سوريا بعد أن بدأت تنفتح على الحركة الوطنية وتتفاعل معها في مشروع التغيير الديمقراطي، وفي وقت تشهد الساحة العراقية وخارجها مساعي مكثفة وحثيثة، تقوم بها مختلف الفعاليات السياسية والثقافية، (السريانية، الكلدانية، الآشورية)، لأجل توحيد (التسمية القومية) وتثبيتها في دستور الدولة العراقية وتعزيز وجودها كقومية عراقية أساسية وأصيلة.وما يزيد من الشكوك والشبهات حول خلفيات ودوافع تصريحات البطريرك، وجود معلومات سربتها بعض المصادر المطلعة تفيد بأنه( البطريرك زكا) بعث برسالة الى القيادة العراقية صيف عام 2005 يطالبها بعدم تدوين اسم (السريان) كمكون قومي متميز في الدستور العراقي الجديد زاعماً (زكا) بأن السريان هم مسيحيين عرب. من المرجح أن تثيراً تصريحات البطريرك زكا عاصفة من ردود الأفعال السلبية والقوية في مختلف الأوساط الآشورية، خاصة السريانية منها، وبشكل أكثر في أوساط سريان تركيا والجاليات السريانية في أوربا وأمريكا ومعظم دول المهجر الرافضين للعروبة جملة وتفصيلاً، ولا يستبعد أن يطالب البعض من السريان بنقل مقر (كرسي البطريركية) من دمشق(سوريا) إلى إحدى الدول الأوربية لتخليص بطريرك السريان من الضغوط السياسية التي تمارس عليه، بشكل أو بآخر، من قبل السلطات السورية. وبالطبع من شأن هكذا خطوة أن تحدث انشقاق جديد في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية.وكخطوة احتجاجية أولى يفترض أن تدعوا (التنظيمات السريانية) في جميع أنحاء العالم أنصارها
الى تعليق عضويتهم في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وسحب اعترافهم بالبطريرك زكا الى حين يسحب كلامه ويقدم اعتذاراً صريحاً وعلنياً للسريان عن جميع تصريحاته ومغالطاته وخطاياه
السابقة بحق تاريخهم وهويتهم الحضارية.

كاتب سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]