العناية بالأديان في البلدان المتخلفة أكثر منها في البلدان المتقدمة. فعندما يجد المرء نفسه مستعبداً مقموعاً، ضعيفا خائفا، عاجزا عن سد رمقه ورمق أطفاله، وعن حمايتهم ومعالجتهم من الأمراض والأوبئة. وعاجزا عن فهم أسباب بؤسه، والقراءة والكتابة وإدراك المتغيرات. والأفق مسدود كليا للخروج من هذه الحالة المزرية، وتحسين أوضاعه المعيشية والصحية والتعليمة. وأمام المصائب والنكبات التي تحل به وتتوالى عليه، يستنجد المرء ويأمل بالمعجزات تنتشله، مستعينا بالغيبيات. محيلا أسباب بؤسه وعمق هوّته، إلى نصيبه في هذه الحياة، أو خطأ ارتكبه، وفعل فعله أسلافه، فأوقعه في هذه الحال.

كثيرا ما نسمع في الأخبار عن اختراق المجتمعات العربية والإسلامية من قِبَل بعض الجمعيات والبعثات الأجنبية التي تتخفى خلف ستار العمل في مجال الخدمات الإنسانية والاجتماعية. ومهمتها الحقيقية تنصير من تستطيع من أبناء المجتمعات الإسلامية، لتنتزعه من دينه، وتحوله من الإسلام إلى المسيحية.

وبغض النظر عن صحة أو كذب هذه الأخبار في المنطقة العربية والإسلامية، التي تحرم قوانينها تحريما قاطعا مانعا التبشير بدين غير دين محمد، وتعاقب بالموت كل مسلم يترك دينه ليلتحق بدين آخر، حتى لو كان من الأديان الكتابية السماوية (من بدل دينه فاقتلوه- حديث شريف). هذه القوانين التي تحمي من يرغب من المسيحيين وغيرهم، الخروج عن دينه، واعتناق الدين الإسلامي. على العكس من دول الغرب المسيحي الذي تكثر فيه جمعيات الأسلمة. والذي (أي الغرب) لا يحفل ولا يهتم بهذا الموضوع، ولا تمنع قوانينه، بل تحمي المرء وحقه في الاختيار، وتغيير دينه بأي اتجاه كان. الأمر الذي يعطي ميزة كبيرة لجماعات الأسلمة على جماعات التنصير، ومما يجعل هذه المنافسة ينقصها العدل والمساواة بالمزايا.

أقول بغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه الأخبار، فمما لا شك فيه وجود جمعيات من هذا القبيل، في عدد من أنحاء العالم، تسعى لنشر الدين المسيحي، وجمعيات أخرى مقابلة تسعى لنشر الدين الإسلامي. والمنافسة محتدمة، إن لم نقل محمومة بين هذه الجمعيات. ولعل هذه المنافسة تقلق الزعماء الدينيين وتشغل بالهم أكثر مما تشغل بال المواطنين والناس العاديين. وإذا كنا نتفهم قلق من يحب عمله ويجتهد في إثبات وجهة نظره، خاصة إن كانت المنافسة عادلة وشريفة، وبطرق سلمية وأخلاقية وإنسانية. فإننا لا نرى مبررا للمتشددين الذين يعترضون على هذه المنافسة ويتخوفون من نتائجها. فماذا يضيرهم إذا تبارى الفريقان؟ وليعرض كل منهما بضاعته وحججه، ويتركوا للناس حرية الاختيار فيما يرونه مناسبا لهم. إلا إذا كانت هذه الجمعيات المتنافسة على الأسلمة والتنصير ترى أن هؤلاء الناس الذين تعمل بين أوساطهم، على قدر من الجهل المتقع لا يوفر لهم القدرة على حسن الاختيار، ولا يسمح لهم بالتمييز بين ما ينفعهم، وما لا ينفعهم. ولا بد من وجود من يختار لهم. مما يعني إذا صح هذا الرأي، أن هؤلاء الناس (الجهلة) غير مسؤولين عن أخطائهم، أمام الله، لأنهم غير مدركين، وغير قادرين على التمييز. والله سبحانه وتعالى كما هو معلوم لا يحاسب من كانوا على شاكلتهم.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا كان أرباب هذه الجمعيات يدعون للخير ونبذ الشر، ويؤمنون أن الدين كله من عند الله، ولله، فما المانع إن اعتنق الناس ما شاؤا من الأديان السماوية- احتراما لسيد السماء، واختياراتهم- فكلها أديان الله، ومرجعيتهم كلهم هو الله. والرابح الأول والأخير هو الخير.
إضافة إلى ذلك فإن هذا التنافس الديني سيدفع أرباب هذه الجمعيات إلى إعادة النظر بمقولاتهم لرتق ما تمزق منها بفعل المتغيرات الزمانية والمكانية والاجتماعية والعلمية. ومراجعة مفاهيمهم مراجعة نقدية تخلصها من الشوائب والخرافات والمتناقضات. وتجعلها أكثر قربا من الناس، وأكثر اهتماماً بمشاكلهم وهمومهم واحتياجاتهم، وأكثر احتراما لحقوقهم وحريتهم وإنسانيتهم.

في المجتمعات المتقدمة يكون حب المعرفة والرغبة في الاستكشاف وتذوق الجديد والغريب، أو الرغبة في التغيير، أو حب المغامرة، وكسر المألوف، أو الملل وما يسبب من ضغوط، أو توخي المنافع الشخصية أحيانا هي الدوافع الكامنة وراء تغيير الدين والإعلان عن هذا التغيير. وغالبا ما تكون المرتكزات الفكرية للتغيير سطحية للغاية، وإلا لاستغرق الأمر من صاحبه سنوات طويلة من البحث والدراسة والتقصي.
إن أكثر المجتمعات ملائمة لنشاط هذه الجمعيات (جمعيات الأسلمة والتنصير) هي المجتمعات المتخلفة في بعض مناطق آسيا وأفريقيا، وحيث يتفشى الجهل والأمية والفقر والأمراض والخرافات. وكلما ازداد مستوى هذه الآفات، كلما ازداد عمل هذه الجمعيات سهولة ويسرا، وازدادت قدرتها على الإقناع، وكسب المريدين والأتباع.

تتهم بعض هذه الجمعيات مثيلاتها الأخرى المنافسة بأنها تتبع أساليب ملتوية وغير شريفة، وأنها كما يستخدم بعض السياسيين (المال السياسي) لشراء الذمم وكسب الأصوات، تستخدم هي (المال الديني) وإغراءات أخرى، لتضليل الفقراء، وضمهم لحظيرتها. وهذا في رأيهم يُغضب الله.
إن إله المسلمين وإله المسيحيين- وهو واحد، وإن اختلف الفهم والرؤية والتفسير- لن يغضب من امرئ أو رب عائلة يسعى- دون إلحاق الأذى بالناس- لسد رمقه وتحسين أوضاع أطفاله المعيشية والصحية والتعليمية. فماذا يفيد المسلم أو المسيحي جوعه وعريه وجهله. أليس من الخير له ولأبنائه أن يحظى بتعليم ورعاية ومسكن صحي؟ وإن كان ثمة غضب إلهي- حسب التفسير الديني لبعض الدعاة- فلن يحل بهذا المرء أكثر مما هو فيه، ولن تكون حالته المزرية أكثر مما هي عليه من ضعف وخوف وجهل وأمراض وفاقة.
[email protected]