حين تشكلت الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر، فأنها قامت على أساس حماية الدين الإسلامي وهو ذريعة تعكزت عليها في التسلط والهيمنة، و أصبحت منذ العام 1517م حين ضمت إليها المنطقة العربية من الدول القوية، غير أنها وبالرغم من. وجود قوميات وشعوب مختلفة ضمن تلك المنطقة العربية وغير العربية التي ضمتها تبعا لتوسيع نفوذها، لم تستطع إن تستوعب ذلك التمازج الإنساني، ولا عرفت خصوصية تلك الشعوب والقوميات، وتعاملت معها على أساس التعالي والتابعية، وفق مفهوم الحاكم والمحكوم، ففقدت قاعدتها الأساسية التي يمكن إن تستند عليها وتتستر ورائها باعتبارها راعية الدين الإسلامي والدولة التي حافظت عليه ضد الغرب الكافر، مع كل موجبات الدين الإنسانية التي لم تلتزم بها ووظفتها لصالح سلاطينها وولاتها.

وبدأ نجم الدولة العثمانية يخبو تدريجيا حتى باتت تدعى بالرجل المريض، وهذا المرض ليس عارضيا ولا مفاجئا وإنما كات له أسباب منطقية وملموسة، وانتهت تلك الإمبراطورية مع نهاية حقبة شديدة الوطأ بشكل غير مأسوف عليه، غير أنها ولفرط عدم تبصر حكامها لم تكن تدرك أنها نبشت أساسها وهدمت بنيانها بأيديهم، من خلال عدم أدراك حقوق تلك الشعوب والقوميات، والتي أمرت بها الشريعة الإسلامية التي تزعم أنها تحميها وتقوم دولتهم على أساسها، ولم تكن تستوعب حقوق القوميات تلك ولا خصوصياتها.

وقضى مصطفى كمال على الخلافة العثمانية، وأعلن دولة تركيا العلمانية، و ألغيت السلطنة وجرد الخليفة من السلطات السياسية كافة، و أعلن مصطفى كمال إلغائها رسميًا عام (1324هـ/1924م) وبذلك سقطت الدولة العثمانية نهائيًا، وألغيت الخلافة وانتهت معها الإمبراطورية العثمانية.
غير أن العقليات التي بقيت تتحكم في مسار العمل السياسي في تركيا لم تزل تعتقد انها مستمرة في التحكم بمقدرات الشعوب والقوميات وفق ذهنية الإمبراطورية، ولم تزل عقليات الساسة الأتراك تعتقد انهم وجدوا ليحكموا ولو بالقوة بقية القوميات.
ويبدو أن الصراع الموجود في تركيا بين الكورد وبين الساسة الأتراك دليلا أكيدا على العنجهية والعنصرية والشوفينية المتغلغلة في عقول السياسيين الأتراك، من خلال عدم الأعتراف بحق الآخر في الحياة، وعدم الأقرار بحقوق القوميات الأخرى وحقها الأنساني والقانوني في اختيار شكل الحكم، وعدم الأقرار بوجود قوميات أخرى لها خصوصياتها.

المشكلة تكمن في أن العقليات التي تقود الدولة التركية اليوم لاتقرأ التأريخ ولاتتعلم منه، فمفهوم القوة والبطش واللجوء الى السلاح وتحشيد القوات والتلويح باستعمال القوة والأعتقال والقتل تلك اساليب أثبت الزمن انها لاتجدي نفعا ولاتوصل الى نتيجة، ومسألة التصدي لحقوق الشعوب بالحديد والنار دليل اكيد على فشل العقلية التي تقود السياسة التركية.
وتلك العقليات التي تريد ألغاء القوميات الأخرى تحت شتى الذرائع والحجج، لاتلبث ان تتهاوى كما تهاوى الرجل المريض، وكما اثبت التاريخ سقوط تلك المفاهيم والقيم، وانتصار حقوق الانسان.

وإذا كانت الإمبراطورية العثمانية تأسست تحت ستار الدفاع عن الإسلام، مع أعتماد السيف والقتل كوسائل لأخضاع الشعوب والقوميات، واحتلال تلك البلدان الإسلامية وغير الاسلامية، ومن ضمنها إحتلال كوردستان كغنيمة من غنائم حربها مع الإمبراطورية الفارسية التي لم تكن تقل عن العثمانية غطرسة وعنجهية وظلما. حيث أدت هزيمة جيوش الشاه إسماعيل الصفوي إلى تلك النكسة التي قسمت كوردستان بين دول عدة، ليكون القسم الأكبر منها تحت الحكم التركي، لكنها لم تعي إن وجود تلك الشعوب تحت حكمها وسلطتها لايجعل لها سلطة دستورية أو شرعية في حقوقها وخصوصياتها، ومهما كانت ذرائع الحكومة التركية.

فشعب كوردستان والتركمان في العراق ليسوا فصائل انكشارية والسياسة الديماغوغية التي يمارسها حكام تركيا تعبر بالتأكيد عن العقليات الملتبسة والشوفينية البغيضة التي تطغي على معالم تلك العقليات في زمن باتت فيه حقوق الإنسان من معالم المدنية والتطور والتحضر الأنساني.
وإذا تطرقنا الى ما يحدث اليوم من مآسي أنسانية من خلال الحملات العسكرية الشعواء التي تشنها السلطات العسكرية ضد شعب كوردستان، وماهي الا تعبير عن القصور والجهل بحقائق التاريخ، لأن العديد من الحكام الذي كنسهم التاريخ ولعنهم الزمن مارسوا تلك الممارسات البعيدة عن الحكمة والعقل، ولم تنته تلك الشعوب والقوميات، ولاتوفر حلا أنسانيا لتلك البلدان، ويمكن إن يكون العراق مثالا حيا على ما اراد الحكام من قمع الكورد والقضاء عليهم بحملات شنتها الجيوش الجرارة والكتائب المدرعة والطيران والأسلحة المحرمة أنسانيا ودوليا، وقد انتهى هؤلاء نهاية تليق بهم في حين بقيت تلك الشعوب والقوميات بالرغم من هول التضحيات وحجم الخسارة الإنسانية التي تقدمت بها من اجل بقاء حقيقة حق الشعوب وتلك القوميات في أستقلاليتها الإنسانية وعدم تبعيتها لأحد.

وحين نطالع بين فترة وأخرى تدخل حكام تركيا من خلال تصريحات فيما يخص الشأن العراقي في قضية كركوك، والأغرب إن تتم الإشارة الى حقوق التركمان في العراق، وكأنهم المتحدثين بأسم تركمان العراق، غير إن الساسة الأتراك لم يعرفوا حقيقة التركمان في العراق.
التركمان في العراق جزء فاعل ووطني وحيوي من مفاصل وشرائح المجتمع العراقي، والتركمان من الشرائح التي قدمت لبناء العراق، وضحت في سبيل تقويم سياسة حكامه ونيل القوميات حقوقها المشروعة، والتركمان يعتزون بقوميتهم وخصوصيتهم وعراقيتهم، ولكنهم يرفضون وصاية حكام تركيا وهيمنتهم ومحاولة استلاب حقوقهم.

ولعدم معرفة حقائق التاريخ والجغرافية من قبل الساسة الأتراك يتوهمون إن التركمان في العراق يقيمون في كركوك حصرا، بينما هم ينتشرون في باقي المدن العراقية، موطن التركمان في العراق يمتد من قضاء تلعفر شمال محافظة الموصل وينحدر إلى جنوب شرقها باتجاه محافظة أربيل ويمتد جنوبا إلى ناحية التون كوبري باتجاه محافظة كركوك، باتجاه ناحية تازة خورماتو وقضاء طوز خورماتو، ثم ناحية بيات وقضاء كفري، وينحدر إلى محافظة ديالى وخاصة قضاء خانقين، وناحية زرباطية والسعدية وجلولاء ومن ثم بغداد وبقية مناطق العراق.

سعى النظام البائد منذ بواكير حكمه على التعامل مع التركمان على أساس المعادلة الطائفية المقيتة مع إعطاء التركمان بعض الحقوق الثقافية البائسة، وعاد الحكام ليتنكروا لتلك الحقوق وأفرغوها من محتواها الحقيقي، وبقي التركمان رقما صعبا على سلطة الدكتاتورية متمردا عليها، فتم التعامل معهم بأسلوب الحديد والنار عبر الترهيب والترغيب والتعريب وتغيير الهوية.

جرائم النظام البعثي في العراق بحق التركمان وانتهاكاته لحقوق الأنسان كانت تتم في ظل التعتيم الأعلامي، وقدم التركمان التضحيات الجسام في جميع مفاصل الحركة السياسية الوطنية في العراق، من اجل الخلاص من سلطة الطاغية، وسجلوا بذلك سفرا وطنيا في التضحية من اجل العراق الجديد
أن تدخل حكام تركيا ومن خلال التصريحات والأشارات، ممارسة سياسية تدلل على محاولة بائسة، لأن قضية كركوك تلك هي مسألة عراقية تخص الشأن العراقي وتحكمها نصوص قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية والدستور العراقي الذي نص على : تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها.

كما إن المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور على ان تنجز كاملة (التطبيع، الإحصاء وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها) في مدة أقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الأول سنة إلفين وسبعة. 31/12/2007. وفي كركوك عرب وكورد وكلدان وآشوريين وأرمن، وفي كركوك التي ستحكمها كل تلك الضوابط حقائق وأعادة أعتبار وترتيب حقوق لايمكن إن يفهمها حكام تركيا، وآن الآوان لهم إن يجنحوا لعين العقل لحل مشاكلهم العصية، وآن الآوان لهم ليقولوا الحقيقة لشعوبهم.

وتاتي التهديدات التركية الفجة دليلا على الأفلاس والتدخل في الشأن العراقي بشكل عام والكوردستاني منها بشكل خاص، وعبر السيد مسعود البارزاني رئيس أقليم كوردستان العراق عن رفضه وعدم اكتراثه للتصريحات والتهديدات وعدم قيمتها بقوله : ان كركوك مدينة كوردستانية ولن نخشى تهديدات تركيا وان الموقف التركي مجرد دعاية انتخابية، وليست لها اية قيمة عندنا ونعرف انها من الدعايات الانتخابية ولن نقبلها باي شكل من الإشكال. مؤكداً بان كركوك جزء من إقليم كردستان.

وشدد رئيس الإقليم على ضرورة تنفيذ المادة 140 من الدستور وإزالة اثار التعريب في كركوك وسنجار وخانقين والمناطق الكردستانية الأخرى في العراق.
يقينا أن التركمان والكورد والعرب في كركوك يرفضون سياسة الأذناب والذيول التي تهزها تركيا لأمر في نفس يعقوب بين فترة وأخرى، لأن الجميع يسعى لتطبيق نصوص الدستور والوصول الى حلول تنسجم مع حقائق التاريخ وجغرافية المنطقة، حلا أنسانيا مهما كانت نتائجه الا انه يخص اهل العراق عربا كانوا ام تركمان ام كورد وكلدان وآشوريين، لاتخيفهم التهديدات التركية ولايسمح منهم احد لها بالتدخل مطلقا.
فهل يستوعب حكام تركيا أن الإمبراطورية العثمانية انتهت ؟