ما يشغل بال اللبنانيين هذه الأيّام سؤال في غاية البساطة. هل يستمرّ quot;حزب اللهquot; في نهجه الهادف ألى أشعال حرب أهلية ذات أبعاد في غاية الخطورة على المنطقة كلّها، أم يتصرّف كحزب يضم لبنانيين من مصلحته المحافظة عليهم وعلى مستقبلهم بدل الرمي بهم في آتون الصراعات الداخلية ذات الطابع المذهبي؟
في حال كان الحزب حريصاً بالفعل على لبنان واللبنانين، يكفيه التأمّل مليّاً في تلك المفارقة اللبنانية التي يصعب مقارنتها بأيّ مفارقة أخرى. في أساس المفارقة، أنّ في أستطاعة رفيق الحريري، من حيث هو الآن في عليائه، بعد أقلّ من سنتين على أستشهاده، توفير دعم مالي للبنان بمبلغ سبعة مليارات وسبعمئة مليون دولار للبنان. هذا ما حصل في مؤتمر باريس-3، الذي سُمّي رسمياً مؤتمر رفيق الحريري والذي أنعقد يوم الخميس الماضي في الخامس والعشرين من كانون الثاني- يناير الجاري. لعلّ quot;حزب اللهquot; يتأمّل أيضاً في المفارقة الأخرى المتمثلة في أنّه فيما كان مؤتمر باريس منعقداً، بدأت تصل ألى العاصمة الفرنسية أنباء عن تدهور الوضع في بيروت. نجح quot;حزب اللهquot; الخميس الماضي في أثارة فتنة سنّية- شيعية في منطقة أكثرية سكانها من السنة، بل هي معقل سنّي، أقتحمتها ميليشيا الحزب. بدأت الأشتباكات تأخذ منحى مذهبياً واضحاً بما يهدد بأغلاق بيروت كلّها مجدّداً وتعطيل الحياة فيها. لم يؤد ذلك ألى أنفراط عقد مؤتمر باريس. على العكس، زادت المساعدات المخصصة للبنان. وبعدما كان متوقّعاً حصوله على نحو أربعة مليارات دولار، قفز الرقم ألى سبعة مليارات وسبعمئة مليون دولار. ماذا يعني ذلك؟ يعني بكلّ بساطة أن الأسرة الدولية التي شاركت في مؤتمر باريس-3، مؤتمر رفيق الحريري، أكّدت بما لا يدع مجالاً للشك أنّها تقف مع لبنان ومع خروجه من محنته. أكثر من ذلك، تلت الأسرة الدولية فعل أيمان بلبنان مظهرة أنها تدرك تماماً أهميّة لبنان في هذه المرحلة وتدرك أيضاً أبعاد الصراع الدائر على أرضه.
ما ساعد في أستيعاب الأسرة الدولية لمعنى ما يجري في لبنان احداث quot;الثلاثاء الأسودquot; التي وقعت قبل ثماني وأربعين ساعة من أنعقاد مؤتمر باريس في حضور مسؤولين كبار على رأسهم الرئيس جاك شراك ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. بعد نهار طويل(الثلاثاء) شهد أعمال شغب في معظم الأراضي اللبنانية، توقّف التخريب فجأة بمجرّد أن أعطت طهران تعليماتها ألى quot;حزب اللهquot; بوجوب الكفّ عن ذلك. أنّه درس بليغ يعطي فكرة عن حقيقة ما يدور على أرض لبنان quot;الساحةquot; حيث يشكّل الحزب رأس الحربة للمحور الأيراني- السوري الساعي ألى تحسين شروطه في أي مفاوضات يمكن أن يجريها أحد طرفيه مستقبلاً مع أيّ جهة عربية أو أوروبية أو مع quot;الشيطان الأكبرquot; الأميركي أو quot;الشيطان الأصغرquot; الأسرائيليquot;. فجأة ومن دون مقدّمات، توقّفت العمليات العسكرية التي كان يقوم بها quot;حزب اللهquot; في بيروت وخارجها والتي كانت تستهدف اللبنانيين بأرزاقهم وممتلكاتهم والتي هدّدت حياة الكثيرين بسبب أنتمائهم ألى طائفة معيّنة أو مذهب معيّن. كان كافياً صدور التعليمات من طهران كي لا يعود أغلاق للطرقات أبتداء من مساء الثلاثاء وكي لا تعود أعتداءات على المواطنين اللبنانيين وعلى الممتلكات العامة والخاصة...بأستثناء الأعتداء الذي لا يزال مستمرّاً حتّى الساعة على الممتلكات والحرّيات العامة في جزء من الوسط التجاري لبيروت(سوليدير) حيث مخيّم البؤس الذي يرعاه quot;حزب اللهquot; وأدواته المستأجرة على رأسها النائب ميال عون.
قبل ذلك، نزل المواطنون ألى الشارع في المناطق ذات الأكثرية المسيحية وتحدّوا الذين أرادوا فرض الأضراب بالقوة ونظّفوها من أنصار ميشال عون ومن هم على شاكلته. وتبيّن بكلّ وضوح أن اللبنانيين في المتن وكسروان وزحلة ومناطق في الشمال لفظوا تلك الظاهرة المشينة التي أسمه quot;الجنرالquot;. فعلوا ذلك، على الرغم من تواطئ جهات رسمية مع أنصار quot;الجنرالquot;، وهو تواطؤ سمح لهم، تحت جنح الظلام، بأغلاق طرق رئيسية في مناطق عدّة وبأطلاق نار على مواطنين حاولوا خلال يوم الأضراب فك الحصار المفروض عليهم بالقهر. هل يفهم ميشال عون بعد الدرس الذي تلقّاه أنه لا يستطيع أن يكون شيئاً آخر غير أداة وأن أختصاصه الوحيد هو خلق فتن بين المسيحيين وتهجيرهم.
هل تصمد الهدنة التي فرضها الأيرانيون طويلاً؟ من حق أي لبناني طرح مثل هذا السؤال خصوصاً أن النظام السوري يبدو مصرّاً على أسقاط الحكومة اللبنانية بأيّ ثمن كان نظراً ألى أنّ التخلّص من المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستنظر في قضية أغتيال رفيق الحريري تظل بالنسبة أليه أولويّة الأولويّات. لم ينتظر اللبناني العادي طويلاً. جاءه الجواب يوم الخميس عندما نزل quot;حزب اللهquot; ألى الشارع مجدّداً ليثبت أنّه سيسعى ألى تعطيل باريس-3 وأنّه لن يترك البلد يرتاح ما دام سيف المحكمة الدولية مصلتاً على النظام السوري... والخوف كلّ الخوف الآن، أن تشهد الأيّام القليلة المقبلة مزيداً من التصعيد بسبب الأصرار السوري على ذلك وقبول quot;حزب اللهquot; تنفيذ التعليمات الصادرة أليه من ريف دمشق في غياب قرار أيراني واضح بوجوب العمل على التهدئة في لبنان.
على الرغم من التحوّل التدريجي للنظام السوري ألى أداة للنظام الأيراني، وهو تحوّل سرّع فيه ألأنسحاب العسكري السوري من لبنان في نيسان- أبريل من العام 2005، يظلّ هناك تمايز بين طرفي المحور خصوصاً في موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي الذي يعتبر بمثابة موضوع حياة أو موت للنظام السوري. لذلك ليس أمام دمشق سوى الذهاب ألى أبعد في ضغوطها من أجل تغيير المعطيات في لبنان. السبيل الوحيد لتغيير المعطيات، أقلّه من وجهة نظرها التي كشفتها تصرّفاتها الأخيرة، هو التخلّص من حكومة فؤاد السنيورة الذي تألّق في باريس-3، كون الحكومة تمثل الجهة الشرعية المعترف بها من الأسرة الدولية والتي تستطيع أن تكوّن مرجعاً لبنانياً للمحكمة. من أجل أطاحة الحكومة كانت quot;غزوة بيروتquot; في أوّل كانون الأوّل- ديسمبر الماضي ونزول quot;حزب اللهquot; ألى الوسط التجاري وأحتلاله قسماً منه معطّلاً جزءاً من الحياة فيه معتدياً على أرزاق الناس. ومن أجل ذلك أيضاً جاءت quot;غزوةquot; الأضراب العام التي شملت كلّ لبنان تقريباً والتي أضطر الحزب فيها ألى أللجوء ألى الترهيب من أجل شلّ الحياة في بيروت وأغلاق المرافق العامة بما في ذلك المطار.
أظهرت أحداث الثالث والعشرين من كانون الثاني- يناير الجاري أن النظام السوري كان ينوي تنفيذ أنقلاب على الأرض عن طريق تمكين أنصار عون من السيطرة على المنطقة ذات الأكثرية المسيحية بتسهيل من قوّى أمنية من جهة على أن يسيطر quot;حزب اللهquot; على بيروت الغربية أمتداداً ألى خلدة من جهة أخرى. يترافق ذلك مع توتير للأجواء في مناطق لبنانية مختلفة عدة على غرار ما يحصل في طرابلس بين باب التبّانة وبعل محسن. كلّ شيء محلّل بالنسبة ألى النظام السوري، بما في ذلك الفتنة المسيحيّة ndash;المسيحيّة في المناطق الشرقية والفتنة الشيعية- السنّية في بيروت والسنّية- العلوية في طرابلس، ما دام المطلوب أسقاط الحكومة اللبنانية ومعها المحكمة ذات الطابع الدولي.
يفسّر الأصرار السوري على التغيير الحكومي في لبنان أموراً كثيرة، بما في ذلك عودة الأمين العام لquot;حزب اللهquot; ألى التصعيد بعد ساعات من الفشل الذريع الذي مُني به الأضراب العام. وكانت أحداث الخميس الماضي في بيروت وفي المنطقة السنّية تحديداً دليلاً على أن الحزب أخذ على عاتقه متابعة التصعيد... ألى أن تصدر أليه اوامر مباشرة من طهران بأن هامش المناورة لديه صار معدوماً وأن ثمة صفقة ما عقدت بين أيران من جهة وهذه الجهة الخليجية العربية أو تلك من جهة أخرى. مثل هذه الأوامر المباشرة لم تصدر، أقلّه حتى الآن.
ربّما يقرأ النظام السوري من كتاب الثمانينات من القرن الماضي عندما أستعاد المبادرة في لبنان تدريجاً أثر خروجه من بيروت بعد الأجتياح الأسرائيلي في العام 1982. في تلك المرحلة، توّج وضعه لبنان تحت الوصاية في أواخر العام 1990 بفضل الخدمات التي أدّها له ميشال عون الذي رفض الخروج من قصر بعبدا وتسليمه ألى الرئيس المنتخب الشهيد رينيه معوّض وأفتعل في الوقت ذاته فتنة مسيحيّة- مسيحيّة. تكمن نقطة ضعف النظام السوري في السنة 2007 في أنّه لا يدري أن المحكمة ذات الطابع الدولي آتية، حتى لو أخذ لبنان كلّه رهينة. يستطيع quot;حزب اللهquot; التصعيد ويستطيع محاولة تنفيذ محاولته الأنقلابية مجدداً أرضاء للنظام السوري... يستطيع أن يزيل الغشاوة عن أعين مزيد من اللبنانيين كانوا يعتبرونه ألى أمس القريب quot;مقاومةquot;. ولكن ألى متى يمكن أن تستمر هذه اللعبة التي أكّدت الأسرة الدولية رفضها لها عندما أختارت عن سابق تصوّر وتصميم دعم لبنان بكل هذه المليارات من خلال مؤتمر باريس-3، مؤتمر رفيق الحريري في باريس! ألى متى يمكن أن تستمرّ هذه اللعبة التي تنتمي ألى عصر آخر والتي تستند ألى التخلّص من الحكومة اللبنانية لخلق فراغ سياسي في البلد تمهيداً لوضع اليد عليه؟ من حسن الحظ، أن هناك وعياً تاماً لدى الأكثرية في لبنان لخطورة أسقاط الحكومة ولو تحت شعارات يطلقها هذا العميل السوري الصغير المتلطّي بحزب مسيحي كبير أو ذاك عن ضرورة تشكيل quot;حكومة أقطابquot;. ما الهدف من حكومة الأقطاب غير تعطيل القرار اللبناني وتلزيم البلد ألى النظامين السوري والأيراني؟ الرئيس السابق الشيخ أمين الجميّل أكثر من يعرف ذلك. ألم يكن الهدف من تشكيل quot;حكومة أقطابquot; مباشرة بعد سيطرة الميليشيات المدعومة من النظام السوري على بيروت الغربية وفرط الجيش الوطني في السادس من فبراير- شباط 1984 تعطيل القرار اللبناني الحرّ نهائياً؟