تتوالى التطورات السياسية، والأمنية في العراق، خصوصا منذ زيارة بوش المفاجئة، وقيام 'مجالس الصحوة، وفي هذه الأيام ثمة تطورات هامة جديدة كزيارة وزيرة الخارجية الأمريكية، واهتمامها بموضوع كركوك، والبيان الثلاثي بين الحزبين الكردستانيين الرئيسيين والحزب الإسلامي العراق، وكذلك إجراء اتصالات أمريكية ndash; إيرانية جديدة عن العراق بغياب ممثلين عنه، والانسحاب البريطاني من البصرة، والغارات التركية.
لابد أولا أن نسجل من بين هذه التطورات التحسن الجزئي في الوضع الأمني، بفضل زيادة القوات الأمريكية، وتبلور الوعي بين سكان الأنبار، والمناطق والأحياء التي يشكل فيها السنة أكثرية، سواء في بغداد أو خارجها، بالدور الإجرامي القذر للقاعديين التكفيريين، الذين كانوا يجدون ملاذا في العديد من تلك المناطق. إنه وعي يسميه العراقيون ب'الصحوة'. لقد حملوا السلاح قبل فوات الأوان، لطرد القاعددين من صفوفهم، وتطهير المناطق من قواعدهم. لا بد، في الوقت نفسه، أن نعرف بأن هذا التحسن الأمني هش، حيث يستمر تسلل القاعديين عبر سوريا، ومعظمهم سعوديون، وليبيون، ومغاربة، وقد تم منذ يومين خطف حافلة قرب المقدادية ركابها من الشيعة، وبينهم أطفال ونساء، وفي اليوم نفسه انفجرت ثلاث عبوات ناسفة في بغداد، وأخرى قرب كركوك، وبعدئذ تفجيرات قرب بيجي، وبعقوبة، ومقتل وجرح العشرات، وكان أحد التفجيرات موجها ضد عناصر في مجالس 'الصحوة' ببعقوبة. أما الوضع الأمني في الموصل، فهو شديد التوتر والسخونة. إن 'الصحوة' جاءت بين عشائر الأنبار، وفي مناطق بغدادية كالأعظمية، ولكن لحد اليوم لم تبد إشارة حقيقة لبوادر صحوة بين جماهير الشيعة، في الجنوب والوسط، حيثما هم أكثرية سائدة، لعزل عناصر المليشيات التي تعبث بالأمن، وتفرض طقوس ومراسيم الطالبانيين على المواطنات والمواطنين.
إن المليشيات الطائفية الحزبية تواصل ضرب الأمن، وتمارس عمليات القتل والعدوان، في البصرة خاصة، وإن الصراعات والمصادمات الحامية بين الصدريين و'بدر' المجلس الأعلى مستمرة، وآخر مثل الصراع الحاد في بابل حول تعيين مدير شرطة جديد من المجلس الأعلى، يحتج عليه الصدريون، ويهددون بتنظيم 'مظاهرة مليونية' ضد هذا التعيين! كذلك فإن ما يتعارض مع هدف سيادة القانون وجود أسواق علنية، مفتوحة ليل نهار، وبالقرب من وزارة الداخلية، لبيع ملابس وأدوات الجيش العراقي، وتعرض على أي شخص كان، ولو كان مجرما محترفا، كل ما يتطلب للتخفي بمظهر الشرطي، أو الجندي مقابل 50 دولارا، والمؤلم أن هذه الأسواق موجودة علنا في قلب بغداد. نضيف أن من شروط نجاح أية خطة أمنية محاسبة كل من ينتهك حقوق المواطن والقانون من بين موظفي الدولة، كبارا أو صغارا، ومنذ أسابيع قليلة أعلن عن قرب محاكمة موظفين كبيرين في وزارتي الداخلية والصحة، متهمين بانتهاكات وحشية، فأحدهما كان يأمر بقتل المرضى السنة في المستشفيات، والثاني كان يقود فرق الموت والخطف في بغداد. سمعنا خبر قرب الحساب ثم تم الصمت التام، بدلا من تقديم الموظفين بسرعة للمحاكمة وإصدار العقوبات المناسبة فيكون ذلك درسا لآخرين وطمأنة للمواطنين، لكن المشكلة أن كلا من المتهمين ينتمي لحزب سياسي ديني!
إن استقرارا حقيقيا، ولو كان نسبيا، لا يمكن تحقيقه مع استمرار الطغيان الطائفي، ونظام الحصص، وعدم تنفيذ بنود الدستور الداعية لحل المليشيات الحكومية، وما دام الفساد المالي والإداري مستمرا بلا محاسبة جادة، وكذلك استمرار تهريب النفط في الجنوب، وعطل الخدمات. من كان يتصور أن الكهرباء تنقطع عن سكان العاصمة، وحاليا انقطاعها كلي، كما يخبرني أقاربي وأصدقائي في بغداد، ممن يستضيئون بالشموع! العجيب أنه حتى الفوانيس صارت نادرة لفقدان الوقود. من يتصور أن تمر حوالي خمس سنوات على سقوط صدام ومشكلة الكهرباء مستمرة، بل وتتفاقم؟! في حين يجري نهب وهدر المليارات، وتهريب النفط في البصرة على أيدي المليشيات الحزبية وبحماية الدوائر الحكومية المحلية؟!
إن من السابق لأوانه الادعاء المتكرر بأن القوات العراقية صارت مؤهلة لتسلم المسئوليات الأمنية، وذلك حتى في البصرة نفسها، فقوات الشرطة مخترقة تماما من عناصر المليشيات، والولاء الغالب في القوات العراقية هو للحزب، أو الطائفة. لقد أكدت تقارير القيادة العسكرية الأمريكية، وتقرير البيت الأبيض بأن أمام قواتنا قطع أشواط جديدة وكثيرة قبل أن تكون مؤهلة، في قدراتها وكفاءتها، وقادرة على تسلم كامل المسئولية الأمنية، ومن هنا الضرورة الماسة لاستمرا تدريبها، مع عملية تطهير جرئ، وشامل في صفوفها. كما هناك مسألة قوات 'الصحوة' التي يجب إيجاد حلول واقعية ومقبولة لمستقبلها، علما بأنه يجب أولا حل المليشيات الطائفية الحزبية ليسهل إيجاد حل معقول لقوات 'مجالس الصحوة'، ولكي لا تبقى الحكومة تكيل بمكيالين، وتمارس الانتقائية.
إن الاستقرار المطلوب لا يمكن الوصول له بوجود حكومة مركزية ضعيفة وشبه معزولة، وبقاء قنابل موقوتة، كمعضلة كركوك، والصراع حول توزيع البترول، ومشروع إقامة فيدرالية طائفية في الوسط والجنوب، وهو المشروع الذي يؤيده، مع كل أسف واستغراب، زعماء الجبهة الكردستانية.
لقد نشر الباحث العراقي التقدمي، الدكتور كاظم حبيب، منذ أيام مقالا ممتازا في مناقشة لتصريحات شديدة التفاؤل للسيد المالكي. لقد شخص المقال من جديد مواطن الخلل الكبرى في الحالة العراقية، مؤكدا ما أكدناه مرارا، من عواقب الطائفية، ونظام الحصص، وسن الدستور شبه الإسلامي؛ ومما يقوله، ونحن متفقون معه:
'عراق اليوم لا يستند إلى مبادئ الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، التي ناضل من أجلها الشعب العراقي طويلا، بل هو عراق طائفي، تتصارع فيه قوى الإسلام السياسي، الشيعية والسنية، حول من يحصل على حصة الأسد في هذه الدولة شبه الثيوقراطية، وفي الحكومة، وفي أجهزة الدولة؟ وحول من يحصل على النفوذ السياسي، والاجتماعي؟ ومن يحصل على موارد البلاد المالية؟ ليس المقصود بالمصالحة قبول الأحزاب السياسية السنية بالأحزاب السياسية الشيعية، أو في التقسيم الحصصي بينها، بل في سيادة روح المواطنة، والوطن، والمجتمع المدني.'
إن الطائفية أخطبوط يمد مخالبه إلى كل مفاصل الدولة ودوائرها، وهناك حالات يومية كثيرة للتمييز الطائفي في الوزارات بحسب الانتماء المذهبي للوزير، فيما تستمر في الوقت نفسه حملة التطهير والاضطهاد الدينيين في البصرة، المحكومة إيرانيا، ضد المسيحيين والصابئة المندائيين، دون أن نرى مسئولا كبيرا واحدا يتحدث عن ذلك.
إن القيادات الحاكمة جميعها قد برهنت على الفشل في إدارة الدولة إدارة رشيدة، وعقلانية، وديمقراطية، وبروح المواطنة أولا قبل الانتماءات الحزبية، والطائفية، والعرقية.
نعم، إن هذه القيادات هي من نتاج التخلف الشعبي، الذي رسخه حكم صدام، فالشعب العراقي قد وقع خلال عقود صدام في مهب التخلف، والانتهازية، والطائفية، ونزعات العنف، وهذه القيادات جاءت من هذا الشعب، ولكن هل هذا وحده يفسر هذا الوضع الشاذ؟ ناهيكم عن السؤال: هل هو يبرر تخبط الحكام، وصراعاتهم، وإهمال مصالح الجماهير، وغض النظر عن تهريب النفط، وعن الفاسدين، واستمرار محنة الكهرباء،ألخ.. ألخ..؟
إن قيادات هذه الأحزاب قد قضت سنوات طويلة في إيران، وسوريا، ومصر، والعديد من الدول الغربية، أي كانت بعيدة عن ويلات النظام المنهار، وكان المفترض بها أن تعيد النظر في مواقفها، وأن تتعلم الدروس من التجارب القاسية.
إن تخلف المجتمع لا يعني بالضرورة انتفاء إمكان ظهور شخصيات وقيادات متنورة، وذات قدرات قيادية، وإن عراق ما بعد الحكم العثماني وما رسخه من جهل مظلم وتخلف عام، مثال واحد على هذه الحقيقة، كما أن عهود الانحطاط الطويل في العالم العربي لم تحل دون ظهور العشرات من المفكرين، والباحثين، والأدباء الكبار، وساسة متنورين، وكذلك بدايات حركة مناصرة حقوق المرأة في مجتمع كان ينظر لها باستصغار ودونية كليتين.
إن من غير الدقة تعليق أخطاء وخطايا القيادات العراقية على مشجب عهد صدام وحده، فيما يحاول آخرون تعليقها على مشجب الأخطاء الأمريكية في العراق. إن القيادات العراقية، الحزبية والدينية، تتحمل هي المسؤولية الأولى عن التخبط والفشل السياسيين. صحيح أن عهد صدام قد أورث العراقيين أمراضا وبيلة فكريا، وسياسيا، واجتماعية؛ عهد طارد الوطنيين من مختلف الاتجاهات، وحاربهم بكل عنف ودموية؛ وصحيح كذلك دور التدخل الإقليمي، والإيراني خصوصا، في عرقلة التطور السليم في عراق ما بعد صدام. إنه تدخل مستمر، ومتعدد الرؤوس، ومع ذلك، فإن من القيادات الحاكمة من يصمت عن هذا التدخل، أو يمالئه، أو يستفيد منه، كما هو حال المليشيات، ولاسيما مليشيا الصدر، وكما عن تدفق الأموال الخليجية على أحزاب وهيئات سياسية، ودينية سنية، ومنها 'هيئة علماء المسلمين'، التي تؤكد مصادر موثوق بها بأنها تسلمت من قطر 50 مليون دولار، وإن نفس المصادر تؤكد بأن قطر والإمارات قدمتا 300 مليونا لشخصيتين أخريين، متحفظتين على المالكي وخطه السياسي.
إن التطورات الأخيرة تستدعي وقفة أخرى، ونقصد منها زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية، والغارات التركية، والاتفاق الثلاثي بين الحزبين الكردستانيين والحزب الإسلامي العراقي، وهو ما سنعود له.
أخيرا، فإن من الضروري في هذه الحلقة التوقف لدى حدث آخر وهو نداء الحكومة للاجئين بالعودة للعراق، وعودة بعضهم بالفعل. إن هذه القضية هي الأخرى من مظاهر التخبط، وما يعيشه العراقيون من مآس، ومحن.
لقد نشرت الصحف تقريرا للسيد زيد بنيامين، أرسله من دبي، يفيد بأن كلا من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة أبلغتا، بلغة دبلوماسية، عن عدم تفضيلهما لتلك العودة، وبهذا التوقيت، والأسباب المقدمة تتلخص في عواقب التطهير الطائفي للأحياء البغدادية خلال الشهور الماضية، وسيطرة غرباء على منازل وممتلكات آخرين، فإن عاد أصحابها ووجدوها محتلة فقد يتعارض ذلك مع خطة فرض القانون، ويسبب توترات جديدة قبل تحقيق الاستقرار الحقيقي. إن التقرير المذكور ينقل عن نائب منسق الشؤون الإنسانية في العراق ما يلي:
'السؤال.. العودة للوطن.. العودة إلى أين.. وكيف؟' 'إن مجموعة العائلات الوحيدة التي عادت في 28 نوفمبر الماضي، وكانت هي الوجبة الأولى من العائدين، استطاع ثلثها فقط العودة لمنازلهم، فيما اضطر الثلثان المتبقيان إلى إيجاد مناطق أخرى توافق طائفتهم بسبب سرقة منازلهم، أو للعيش بعيدا عن مناطقهم الأصلية التي شهدت تجمع طائفة أخرى.' نضيف أن من العائدين القلة من رجع للمهجر، أو ينوي ذلك.
إننا نسأل الحكومة الموقرة: كم خصصت الحكومة من أموال الشعب للمساعدة على عيش اللاجئين عيشا آمنا وكريما ماداموا مجبرين حاليا على البقاء خارج الوطن؟؟ وكم خصصت، قبل توجيه دعوتها، لتهيئة الظروف المعيشية المناسبة للعائدين؟! أم هي مجرد دعاية للإعلان بأن الوضع استقر، والأمن ساد، والديمقراطية بخير؟!

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه