يبدو ان اليابانيين مجبولون على الانضباط، والدقة، والتفوق في كل مجال من مجالات الحياة، فأذا كان لهم قدم السبق في علم الالكترونيات، وعلى وجه التحديد في حقل اشباه الموصلات او كما تسمى بـ ( (Semiconductorsواليهم يعود الفضل في تطوير صناعة الحاسوب (الكمبيوتر) وما احدثه من قفزة نوعية في الصناعات، وبالتالي في حياة بني البشر، فأنهم مصرون على ان يكونوا انموذجا في الادارة ايضا، وذلك من خلال الشعور والتحلي بالمسؤولية وبالانضباط التامين الى حد التضحية بالنفس. ومناسبة هذا الحديث هو ما تناقلته وسائل الاعلام العالمية أخيرا عن اقدام وزير ياباني على الانتحار، حيث اقدم على شنق نفسه في مكتبه على خلفية حدوث فضيحة ادارية في وزارته، مما اضطره لمعاقبة نفسه قبل ان يعاقبه القانون، وذلك بالأنتحار ندما على ما حصل من تقصير في عمله.
صدقوني هذا الخبر صحيح، وهذا ما حصل مع وزير الزراعة الياباني الذي قرر التخلي ليس عن منصبه ووظيفته وامتيازاته فحسب، بل والتخلي عن حياته التي شعر انها لم تعد ذات قيمة بعد ما حصل من خطأ وتجاوز في وزارته. لكن ما حجم هذا التجاوز الذي يدعو شخصا يعيش بحبوحة الحياة الى الانتحار؟ ثم هل يستحق اي خطأ مهما كان حجمه ان يضحي الانسان بنفسه وينتحر بسببه؟ قد يبدو الامر بالنسبة الينا نحن العرب والمسلمين مستهجناَ، اذ من الناحية الثقافية والدينية لايوجد شئ يدعو الانسان للانتحار، ليس لانه قتل للنفس المحترمة فحسب، بل لانه لاشئ أغلى من الحياة حتى يفرط بها، وحتى الموارد التي تحثنا فيها ثقافتنا الدينية على بذل النفس فيها ،كما هو الحال مع فرض (الجهاد)، فأننا نفعل ذلك لاننا موعودن بحياة افضل، وبنعيم لايبلى، وبجنات الخلد، وبحور العين والولدان المخلدين كانهم لؤلؤ مكنون، وبأنهار من لبن وعسل وخمرة لذة للشاربين، اي اننا حتى حينما نقرر التضحية بالنفس نزولا عند الرغبة الالهية فأننا نفعل ذلك طمعاًَ بشئ افضل مما نحن فيه، اعني طمعاً بالجنة ونعيمها وهذا الامر يساعدنا كثيرا على قبول فكرة الجود بالنفس ، طبعا اعني هنا الجهاد وليس الارهاب او الانتحار بتفيخ الجسد وقتل المسلمين بانفجاره. هذا بالنسبة الينا كعرب وكمسلمين. لكن ما الذي يدعو يابانيا يعتنق البوذية على فعل هذا الامر؟.
قد يقول قائل ان اليأس هو الذي دفعه الى الانتحار، ونقول ان ذلك ممكن في حالة فرد عادي ضاقت به السبل، اما ان يحصل ذلك مع وزير وفي دولة مثل اليابان في قائمة الدول الصناعية الكبرى الغنية فهذا الاحتمال بعيد جدا. اذن مالذي دعاه للانتحار؟ افتنا ياشيخ مأجورا؟
إن من يعرف تاريخ الشعب الياباني، ومن يعرف طبيعة العقيدة البوذية التي يعتنقها هذا الشعب، يمكنه تصور ما قام به الوزير الياباني، ونحن هنا في إطار التفسير وليس التبرير. فأتباع الديانة او الطريقة البوذية يؤمنون بعقيدة (تناسخ الارواح)، وملخصها ان الروح بعد ان تفارق البدن تحل في بدن شخص آخر، اي انها سوف تبقى في عالم البشر ولكنها تنتقل من جسد الى آخر. وهذه العقيدة هي التي كانت وراء انتحار الطيارين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، وتفجيرهم انفسهم وطائراتهم بالعدو من اجل اليابان والامبراطور. وهذا الاخير كان والى ما قبل الحرب العالمية الثانية يمتلك صفة روحية اكثر منها سياسية او ادارية.
معروف عن الشعب الياباني انه شعب جدي، ويقدس الواجب. وحينما يخل فرد ما بواجبه ويخطأ خطاءً كبيراً يتضرر منه المجتمع يعمد الى معاقبة نفسه بالانتحار على أمل ان تنتقل روحه الى بدن شخص آخر لتعاود نشاطها بما يخدم المجتمع وفقا لعقيدة (تناسخ الارواح) وعملا بتعاليم بوذا والتي جاء فيها (اذهبوا وانشروا النظام في البلاد رحمة بسائر الخلق، وإيثارا لمصلحة الكثيرين على راحتكم). وبكلمة اخرى، ان الياباني البوذي يطبق بسلوكه هذا القاعدة الفقهية المشهورة عند المسلمين بقاعدة (لاضرر ولا ضرار في الاسلام). هذا هو التفسير الذي دفع وزيرا يملك من العلم، والثقافة، والتجربة الكثير، وحينما وجد نفسه وقد ارتكب جرما يستحق العقاب حتى ولو لم يكن هو المسبب له مباشرة، بادر لمعاقبة نفسه بنفسه من دون الحاجة الى لجان تحقيق ومساءلة وما الى ذلك. فضل الانتحار على العيش بعار يلاحقه طول حياته وهو عار التقصير في خدمة المجتمع، وعار عدم صيانة امانة المنصب، وعار عدم التحلي بالشعور بالمسؤولية امام الشعب والقانون، وعار الاخلال بالنظام وهذا بالنسبة لليابانيين كبيرة الكبائر، لانه خروج على ثقافتهم وحضارتهم التي اتسمت بالجدية والانضباط ، ولأنه ايضا خروج على تعاليم بوذا الذي اوصى اتباعه بالنظام وبالالتزام في وصاياه العشرة التي جاء فيها (لا تقتل، لا تسرق، كن عفيفاً، لا تكذب، لا تسكر، لا تأكل بعد الظهر، لا تغنِ ولا ترقص، وتجنّب ملابس الزينة، لا تستعمل فراشاً كبيراً، لا تقبل معادن كريمة).
ترى كم وزيرا او مسؤولا مسلما او عربيا يملك هذا المستوى من الشعور بالمسوؤلية التي أمتلكها وزير الزراعة الياباني والذي لم يحضر مسجدا ً ولم يطلق لحيته او يعفر جبينه؟ وهل يستطيع اي من وزرائنا لاسيما ذوي الجباه السود من فرط العبادة والسجود من حملة الدكتوراه في العلوم الدينية ان يعاقب نفسه حينما يخطأ؟ بالمناسبة سبق حادثة انتحار وزير الزارعة الياباني استقاله زميله وزير النقل والمواصلات على اثر سقوط طائرة يابانية. بادر الوزير الى الاستقالة حتى قبل ان يعلن عن تشكيل لجنة تحقيق، وعلل سبب استقالته بالقول أنه ليس باهلٍ لشغل هذا المنصب (ولو كنت اهلا له لما سقطت هذه الطائرة). من هذه الحادثة وتلك نستنتج ان الشعور بالمسؤولية والتحلي بها ثقافة تنتشر في المجتمعات المتحضرة والمتقدمة وهذا هو معنى تقدمها الحقيقي. اما المجتمعات المتخلفة كمجتمعاتنا ودولنا فأنها تفتقر الى مثل هذه الثقافة وتراها تجتر نصوصها ليل نهار من دون تطبيق كالحديث الشريف (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). يقينا ان وزير العمل والشؤون الاجتماعية العراقي والذي يقع ملجأ (دار الحنان) للمعوقين والايتام تحت مسؤولية وزارته يعي جيدا هذا الحديث سيما وانه من كتلة دينية خاضت الانتخابات من اجل (إنصاف) الفقراء والمساكين! فأين الانصاف في ذلك؟
ترى ماذا سيحدث لو ان فضحية (دار الحنان) حدثت في اليابان ، هل سيبات الوزير ليلته دون ان ينتحر او على الاقل يستقيل؟ لماذا ينتحر او يستقيل وزير بوذي لاتوجد في عقيدته جنة ونار عند ارتكابه لخطا ما ولايفعلها نظيره العربي او المسلم الذي يرتكب في اليوم والليلة عشرات الاخطاء والذي يتحدث كتابه المقدس عن النعيم والجحيم؟
الجواب ان الاول ينتمي الى مجتمع يمارس افراده بسكناتهم وحركاتهم مراقبة ذاتية قبل مراقبة القانون، اي يمارسون عمليا التحلي بالمسوؤلية والقيام بها براحة ضمير، اما وزراؤنا ومسؤولونا فهم ينتمون الى مجتمعات تفتقر وعلى اعلى المستويات الى ثقافة الشعور الصادق بالمسؤولية. ففي دولنا تحدث يوميا مصائب يشيب لهولها الرضيع، لكن لايرف لها جفن وزير او مسؤول وما فضيحة (دار الحنان) الا دليل على ما ندعي ، فلم يستقل الوزير ولم يصنع مثالا يحتذى به. اختم كلامي بما يحدث يوميا في العراق من مآس، وويلات، وكوارث لو حدث عشر معشار منها في اليابان لأستقالت الحكومة اليابانية استقالة جماعية، ولأقدم اعضاؤها على انتحار جماعي كما فعل زميلهم وزير الزراعة، فما بالك بكارثة ككارثة جسر الائمة، او القتل الجماعي اليومي في شوارع المدن العراقية؟ وما بالك بفضيحة سرقة طعام الايتام في المبرات ونحن من امة تراثها مكتوب فيه ( واما اليتيم فلا تقهر)؟ ومابالك بانقطاع التيار الكهربائي عشر ساعات في بلد درجة حرارة صيفه تصل الخمسين مئوية؟ وما بالك بشحة البنزين في بلد يملك ثان احتياطي نفطي في العالم؟ ومابالك بوزراء يقدمون مصالحهم الفئوية او الشخصية على المصلحة الوطنية؟ ومابالك بحكومة يتآمر أغلب اعضائها على رئيسهم لافشال مهمته؟ كل هذا يحدث يوميا من دون ان يفعلها احدهم ويستقيل، ومن دون أن تهتز لهم قصبة. وصدق القائل لقد أسمعت لو ناديت حيا!.

كاتب عراقي
[email protected]