يقول الباحث الفرنسي quot;كريستيان ديلاكمبان Christian Delacampanequot;في كتابه quot;الفلسفة السياسية اليومquot; إن سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 حدث مهم من ناحيتين: من جهة لأنه يضع نهاية للحرب الباردة وانقسام لأوروبا والعالم إلى كتلتين متواجهتين، كل منهما تهدد الأخرى بالقنبلة النووية؛ ومن جهة ثانية إنه كان يعني الانتصار النهائي للنموذج الديمقراطي على النموذج الشمولي.

نعم، إنه لا تزال في العالم أنظمة شمولية في دول ككوريا الشمالية، وفيتنام، وكوبا، وليبيا، وسوريا، وإيران وغيرها، سواء هي شمولية ّمدنيةquot; quot;علمانيةquot; مزيفة، أو دينية استبدادية تعتقد أنها تحتكر الحقيقة المطلقة غير الموجودة أصلا، وتعتبر كل من سواها على خطأ وضلال، وهو ما تعتنقه جميع أحزاب الإسلام السياسي ومن كل المذاهب، وحتى إن وصف بعضها بالمعتدل!

إن هناك اتفاقا بين المفكرين الديمقراطيين في عصرنا بأن أسس الديمقراطية وأركانها هي:

ا- لتسامح، 2 - حرية التعبير، التي تتفرع عنها سائر الحريات السياسية والشخصية، و3 - العلمانية، و 4 - الفصل بين السلطات. إن هذه الأركان الأربعة هي وحدة عضوية واحدة بحيث إذا اختل أحدها اختل المجموع. وللمثال، فإن العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، لا تكون علمانية وديمقراطية متكاملة فيما لو كانت لا تعترف بحقوق الأقليات القومية أو الدينية، أو تفرض الإصلاحات الاجتماعية على الجماهير بالقوة بدلا من الإقناع وانتهاج السبل السلمية الديمقراطية. إن العلمانية التركية مثال لما مر، رغم أنها كانت طفرة تاريخية في الشرق الأوسط بعد هيمنة الخلافة العثمانية ورجال الدين الخاضعين للخلافة. أما نظام صدام، فرغم أنه فصل بين الدين والدولة في عقده الأول خاصة، فقد انتهك وهاجم حقوق القومية الكردية والأقليات القومية، واتبع الأساليب القمعية، وحارب الهيئات الدينية الشيعية، مع أن العلمانية هي التي تفسح أوسع مجال للحريات الدينية.

لقد قرأنا في السنوات الأخيرة مقالات ودراسات كثيرة وقيمة عن مفهوم العلمانية، وما لحقه من تشويه، ونخص بالذكر دراسات صديقنا العفيف الأخضر؛ لذلك لا نتوقف هنا لدى إشكاليات العلمانية، بل نقتصر على إشكاليات التسامح وحرية التعبير، وهي إشكاليات قديمة ومتجددة، لاسيما مع نشاط منظمات أقصى اليمين الفاشي في دول غربية، ومع صعود الأصولية الإسلامية التي تفرخ الإرهاب، الذي صار الخطر الأكبر على الإنسانية والحضارة.

إن مناقشات قديمة ومتجددة انفجرت وتنفجر حول التسامح، منذ أن بلور لوك ومفكرون آخرون مفهوم التسامح بالمعنى الحديث. إن لوك بشر بالتسامح الديني في زمن حروب دينية طويلة ودامية بين البروتستنات والكاثوليك. لوك قدم مساهمة فكرية كبرى في تاريخ الفكر التنويري، ولكنه في الوقت نفسه استثنى الكنيسة الكاثوليكية من تسامحه. نضيف أن التسامح لا يشمل فقط التسامح الديني والمذهبي، بل التسامح الفكري عموما. الإشكالية القديمة الجديدة هي: هل ينبغي التسامح مع أعداء التسامح والديمقراطية؟ هذا سؤال قديم، ولكنه اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، وخصوصا منذ 11 سبتمبر.

إن هناك أيضا إشكالية المدى الذي تصل له حرية التعبير، وهي أساس كل الحريات، وعما إذا كانت بلا حدود؟

ثمة آراء متضاربة عن الإشكاليتين. إن هناك من يرون التسامح قيمة مطلقة بلا حدود، أو أن حرية التعبير هي أيضا مطلقة، وهناك من يضعون قواعد وشروطا.

أما بالنسبة للتسامح فهل من الحكمة ومن مصلحة الديمقراطية السماح بحرية المنابر لدعاة التطرف والعنف من أمثال القرضاوي مثلا، أو السماح بحرية العمل السياسي للتنظيمات والأحزاب اليمينية العنصرية الغربية، أو أحزاب الإسلام السياسي، التي لها برامج مناقضة على طول الخط للديمقراطية ومع التسامح الديني والفكري؟ رأينا أن لا، ولنسأل: هل من مصلحة الشعب المصري صعود الإخوان المسلمين للسلطة حتى عن طريق الانتخابات؟ إن الأحزاب الدينية تتبع تكتيك المراوغة والتقية، وانتظار الفرصة للإجهاز على كل معارضة لو صعدت للسلطة ورسختها، وتعمل لفرض نظام حكم الشريعة الاستبدادي. إن المثال التركي، الذي غالبا ما يتم الاستشهاد به، استثنائي، ليس لأن الحزب الحاكم ليست له أهدافه quot;الإسلاميةquot; رغم إعلان احترامه للعلمانية، ولكن في تركيا جيشا يحمي العلمانية ويقاوم كل محاولات ضربها مواربة أو مجابهة. إن زوجة الرئيس التركي محجبة حجابا كاملا حتى أنه لا تظهر شعرة واحدة من رأسها؛ هذا في رأينا تحد علني لعلمانية أتاتورك وتشجيع للنساء التركيات على التحجب.

إن حرية التعبير هي أيضا ليست بلا حدود إذ على الدولة وضع ضوابط وقوانين لها لكي لا تستغل لدعايات العنف والكراهية، أو للتحامل على قومية ما أو دين بعينه، أو للقذف الشخصي، أو الاعتداء على الحريات الشخصية، كما كان دور الفضول الصحفي المحموم في دراما الأميرة ديانا. أما ما عدا هذه القيود الأخلاقية والقانونية، فإن حرية التعبير مقدسة، بل هي quot;حرية الحرياتquot;، على حد تعبير الباحث الفرنسي أعلاه. إن ضمانها هو معيار أول للديمقراطية المعاصرة.

لقد صارت حرية التعبير هدفا مستمرا للمتطرفين الإسلاميين في الغرب، وفي العالمين العربي والإسلامي على السواء. إن قصة الرسوم الدانمركية، ومحاصرة باحث جامعي فرنسي كتب دراسة علمية، وقتل المخرج الهولندي، وأمثلة كثيرة أخرى في الغرب، وأمثلة محاصرة الأفلام العربية، ومراقبة شيوخ الأزهر للكتب في البلاد العربية، ومحاربة المفكرين الأحرار، وحتى تحريم فرائد من التراث الفكري العربي، كأفكار المعتزلة، وشعر المعري، وألف ليلة وليلة؛ إن هذه كلها أمثلة وأدلة على خطر التطرف الإسلامي في الغرب، كما هو خطره في العالمين العربي والإسلامي. إنه يجب احترام حرية الرأي كقيمة عليا مقدسة، ويجب الوقوف دون استغلال المتطرفين للحريات الغربية لتدميرها ولنسف الديمقراطية؛ إننا نعرف كم قدمت دول غربية، ومنها بريطانيا، من إثمان غالية لكونها تسامحت لسنوات كثيرة مع دعاة التطرف الإسلامي، وبثهم السموم في الكتب والصحف والإذاعات. إن ما فعلوه هو سوء استخدام لحرية التعبير، واستخدامها لنشر ثقافة الكراهية والعنف.

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه