quot;الصور التي ترينا العالم هي أيضا ما يعمينا عن النظر إليهquot; (ريجيس ديبرييه: حياة الصورة وموتها)

التواصل حاجة طبيعية ومطلب ثقافي بالنسبة لجميع الكائنات البشرية وذلك لأن الإنسان مدني بالطبع ولأنه يحتاج الى الآخر للتعاون معه قصد التغلب على القوى الخارجية ويسهل حياته ويحقق رغباته ولذلك تحسس منذ وجوده الأول عن الملكات التي يحقق بها هاته الحاجة وبحث عن وسائل صناعية يلبي بها هذا المطلب فجاء الكلام بعد الصرخة الطبيعية والكتابة عوضت الكلام والصورة حلت محل الكتابة والكلام باستيعابهما وتجاوزهما معا فقد أصبحت صور اليوم في مجتمع الفرجة وفي عالم الفضائيات ناطقة تتكلم وأصبحت الكتب والنصوص ترى بالعين في المرئيات وتسمع عبر الأذن من الحواسيب والأنترنت بعد أن كانت في اللحظة السحرية مجرد صنم يقاوم الموت في مراسم احتفالية تجسد تاريخ الأساطير والأديان وكانت في اللحظة الجمالية مجرد أثار فنية تجسد إحساس الإنسان بالجمال أما الصورة في هذه اللحظة الاقتصادية التي تعيشها فإنها بصرية متحركة متداولة من طرف الجميع وتمثل سلعة تباع وتشترى وتؤكد انتصار الحياة بالظفر بها من مستنقع الموت وأصبحت تجسد تاريخ تطور التقنيات وتمارس على المتلقي الإبهار والتأثير والخداع والتمويه. لقد احتلت الصورة في عصر العولمة ركنا هاما من الحياة العامة بأفراحها ومسراتها وباتت الفضاء الأكثر انفتاحا الذي يبرز مختلف الثقافات ويسلط الضوء على سماتها وعاداتها دون قيد أو شرط.
إننا اليوم لا نستطيع أن ننكر دور الصورة في وجودنا في العالم لأننا ببساطة لا نقدر على الحياة دونها وذلك لأنها في متناول جميع الناس مهما كانت انتماءاتهم ولغاتهم ومستواهم العلمي فهي ترفع عن الذين لا يجيدون القراءة والكتابة أميتهم دون أن يبذلوا أي جهد في التعلم عندما تريهم الحقائق المجردة في أشياء بسيطة ومجسمات محسوسة. الصورة توسع دائرة المعرفة لدى الناس في سرعة البرق وتخزن لديهم العديد من المعلومات بشرط أن يجيدوا التقبل ويرفعوا درجة الاستهلاك. لكن هناك من يرى أن هناك علاقة وطيدة بين الصورة والتواصل فماذا نعنى بالتواصل؟ وهل يحتاج هذا التواصل الى وسائط؟ ولماذا تعتبر الصورة أفضل الوسائط المنجزة للتواصل؟ وكيف يعتبرها البعض سبب عزلة وانفصال بدل أن تتحقق الفرجة والاتصال؟ وما العمل للحد من التأثيرات السلبية للصورة؟

1- معنى التواصل:
quot;رسالة التلفزة ليست ما تنقله من صور بل ما تفرضه من أنماط جديدة من العلاقات والادراكات quot; جان بودريار / المجتمع الاستهلاكي
سمة هذا العصر هي حدوث ثورة في دنيا الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بحيث أصبحت عواصم العالم على اتصال كامل بعضهم ببعض وصار الناس لأول مرة في جميع أنحاء العالم يسمعون ويرون ما يحدث لغيرهم في بعض اللحظات وعن طريق البث المباشر بالصوت والصورة وعن طريق أدوات لاسلكية واندثرت من السطح كل أشكال التكتم عن الحقيقة والانطواء والانغلاق وأضحى عالم السماوات المفتوحة قرية صغيرة يمكن رؤيتها عن بعد والتحكم فيها عن طريق مجموعة من الأزرار وقد حصل كل ذلك بعد التغيرات التي عصفت بالمشهد الإعلامي والانتقال من الحراك النخبوي الضيق الى الاتصال الجماهيري الواسع ونتيجة النمو الهائل في مستوى قيمة التواصل وتقدير البشر لهذه القيمة وعملهم على تفعيلها على أرض الواقع لدرء المفاسد وجلب المصالح.
ما نلاحظه أن التواصل نوعان: تواصل بديهي طبيعي مباشر ولا يتطلب تدبير أو توسط وتواصل وسائطي صعب ومعقد ويستلزم تدبير وتوفر مجموعة من الشروط والتدخلات والآليات.أما العملية التواصلية فتتكون من خمسة أطراف: مرسل باث ومتقبل متلقي ورسالة تتضمن مجموعة من المعلومات وقناة إيصال تمثل الوسيط والأثر الذي تحدثه الرسالة في المتلقي المتقبل. وطرق التواصل كثيرة وأولها الحركة والإشارة وبعدها الكلام والمشافهة وبعد ذلك لجأ الناس الى المدونة والرسالة المكتوبة ليسطع الآن نجم الصورة بعد أن نزعت طابعها المقدس وتقمصت دور العلامة في طفولتها.

2 ndash; في وساطة الصورة:
quot; ليست الفرجة مجموعة من الصور بل هي علاقة اجتماعية بين أشخاص تتوسطها الصورquot; غاي ديبور/ مجتمع الفرجة
لا نعنى بالصورة مجرد الشكل المحسوس الموجود في العالم الطبيعي ولا اللوحة المرسومة أو التمثال المنحوت فالسينما والمسرح قد حلا محل النحت والرسم ولا نعني بها كذلك الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها المصور في فيلم ويكبرها أو يصغرها على ورقة يقع الاحتفاظ بها كوثيقة يقع اعتمادها في التأريخ للعائلة فالكاميرا التلفزة قد حلت محل آلة التصوير الضوئي والراديو كصورة صوتية بل نعني بها الصورة المرئية المبثوثة عن طريق التلفزة والحاسوب والمرسلة عن طريق لفضائيات والتي تلتقط الواقع في ماديته وترسله الينا من جميع زواياه والتي وقع اعتمادها اليوم كواسطة أساسية للاتصال بين الإنسان ونفسه والعالم والآخر وكنظام رمزي وشاشة بلاغية تنقل كل ما يجد ويدور في الكون من أحداث وتحرك العقول وتحفز الهمم وتقوي لديهم درجة الفضول.
إن الصورة توفر للإنسان فرصة التفرج على المشهد والتحديق في المنظر والفرجة تسعي بالأساس الى إظهار الواقع عن طريق العين بعد أن تعذر إدراكه بواسطة وسائط أخرى.
إن أصالة الصورة تكمن في كونها تحولت الى أداة إدماج وربط وضم هائلة لكونها تقرب المسافات وتمكن الناس من ربح الوقت والجهد كما أن قدرتها على الإيصال والإعلام والإخبار والإفهام وبالتالي إزالة الغموض والالتباس وسوء التفاهم الناشئ بين الذوات والمجتمعات والثقافات لا تضاهيها أية واسطة أخرى حتى وان كانت اللغة أو الفن أو الدين. لقد تحولت الصورة في العصر ما بعد الصناعي الى مجمع كل الوسائط والآليات التي تستعمل في العملية التواصلية لأن قدرتها على التأثير هو أكثر من الخطاب وتفوق قدرة الكتاب والمقابلة المباشرة والتحري التجريبي عن قرب. كل الصحف والمجلات تحتوي مجموعة من الصور من أجل أن تباع وتصل الى الناس وتلجأ الى التعبير عن بعض الأفكار باستعمال الصور الكاريكاتورية بعد أن مل القراء النصوص المكتوبة التي ترهق العين وتتعب العقل وتتطلب التركيز وقوة البصيرة ودقة الفهم بينما الصور تطلب من المشاهدين تمرير النظر بسرعة حتى تنغرس في الخيال والذاكرة وتمر الى العقل الباطن وتتجول في السراديب السرية للذات سواء محدثة رهبة أو نشوة.

3 - الصورة مصدر انعزال:
quot;إن وسائل الاتصالات تحقق التماثل بين الناس بعزلهم عن بعضهم البعضquot;
هوركايمر وأدرنو / جدلية العقل
تقدم الصورة نفسها كأداة توحيد وتقريب بين وجهات النظر المختلفة ولكنها تنتهي الى أن تكون مصدر انعزل وأداة استبعاد عندما تركز على قطاعات وتهمل أخرى وبالتالي فان الصورة لا تستعمل فقط في نقل الأفكار والأخبار بين الأفراد ولا توظف في الحوارات الهادفة التي تفسح المجال لهؤلاء الأفراد من التعرف على بعضهم البعض والاعتراف المتبادل عبر الفهم والتفاهم من خلال احترامهم لآداب المناظرة وقيم الحرية والحقيقة والتعقل بل تدخل ضمن أساليب الديماغوجيا والبروباغاندا وتستغل من أجل التبشير الديني في الفضائيات الإيمانية وتؤثث معظم الومضات الاشهارية ضمن الفضائيات ذات صبغة تجارية خالصة والتابعة للشركات الاحتكارية الكبرى ويقع الاعتماد عليها في السبيرنيتيقا من أجل التوجيه والتأثير الإيديولوجي ضمن برامج الأحزاب السياسية وتتربع على عرش كل الأشكال القسرية والعنيفة من التواصل التي تحدث في الفضاء العمومي عندما تخاطب الجسد عن طريقة تقنية الإغراء وتهيج الأحاسيس والمشاعر عن طريق المنعكس الشرطي وقانون المثير والاستجابة البافلوفي.
إن الصورة لم تعد تؤدي رسالتها الحقيقية في الإيصال والتبليغ والربط بين مختلف أطراف العملية التواصلية بل تحولت الى سلطة قوية جدا وأصبح لها نفوذ كبير على المشاهدين لما تمارسه من سحر وتأثير لا يمكن مقاومته وبالتالي أصبحت في مجتمع المشهد صنما يعبد بشوق ولهفة مادام سلوك الناس منوم وموجه بعناية فائقة، كما أن رسالتها المعولمة تمركزت جهودها على التغيير الهيكلي في عمق العلاقات الانسانية.
الصورة عوضت اللغة والفرجة عوضت الحوار والرأي السائد أنهما عامل توحد ووسيلة اتصال ولكن الحقيقة عكس ذلك لأنهما عامل تفرق وعزل لأن الاتصالات عن طريق الصور تحقق التماثل بين الناس وذلك بعزلهم عن بعضهم البعض وتلهيتهم وتفرقهم الى جزر منهمكين على استهلاك الصور والتفرج على المرئيات في منازلهم وغير مكترثين بما يحدث في الفضاء العمومي وغير مشاركين في الشأن العام،إن الاهتمام بالصور يحرم المتفرجين المتجاورين حتى من الحديث مع بعضهم البعض ويفوت عليهم فرصة تبادل الآراء والنقاش حول قضاياهم المصيرية ويجعلهم يمسكون عن استعمال الفم واللسان ويقتصرون وظائفهم الحسية على استعمال العينين والأكل والشرب وينتهي كل شيء بانتهاء حفل تقاسم الغنيمة بشكل عادل وتحصيل كم لا بأس به من الصور الخلابة.
إن تأثيرات الصورة لا تقتصر على تغيير الأفكار والأذواق والأفعال بالنسبة لعدد معين من الأفراد بل إنها مست بنى العقول وغيرت شكل الأطر الاجتماعية التقليدية وطبيعة العلاقات بين جميع البشر وحولت الوجهة التي يقصدها العالم بأسره تحويلا جذريا.
أن الصورة اليوم موضوع تتجاذبه العديد من القوى المتصارعة ومحل استقطابات متعارضة بل إنها خلقت أزمة تواصل وجعلت الوساطة تمارس عنف رمزي على المشاركين وسلطة روحية عوضت المقدس التقليدي وتستمد الصورة قوتها من دقة الآليات المستعملة في صناعتها وقدرات التجويد والتحكم والإبهار،إنها تجسد النموذج السيبرنيطيقي في التواصل وتمارس في نفس الوقت سلطة رمزية ومادية وذلك لكونها تنتقى بدقة فائقة وتصنع في أكثر المخابر التكنولوجية تقدما وتجعل لإبراز الجوانب اللامرئية من المرئي بحيث تسمح بالحقيقة المراد إظهارها ساطعة سطوع نور الشمس.

4 ndash; في نقد الوسائطية:
quot;الوسيط يحول فعل الفكر الى عامل سياسي والسلطة السياسية الى عامل فكريquot;
ريجيس ديبرييه / علم الوسائطية
ما ينبغي الانتباه إليه أن عالم الصور المرسلة إلينا ليس نعيما دنيويا ولم يكن أبدا مجالا للمتعة وتحقيقا للسعادة والفرح بالحياة بل تحول الى مجال للاغتراب والضياع وسبب لتعاسة الإنسان لأنه عوض أن يؤدي الى الاتصال والاندماج والتلاحم يفعل العكس وينتج التخاصم والتنابذ والتباغض سواء بين الأفراد أو بين الجماعات خاصة عندما تكون العقليات التي تحرك الصور من الخلف هي عقليات الاستشراق والاستعمار والعولمة الاختراقية والهوويات المتصارعة ولذلك حري بنا أن نغربل وننتقي ونختار ونرشد الاستهلاك ونتعقل في التفرج حتى لا نحترق بالنار أو نغيب عن الأنوار ونصم أذاننا أمام الدعوات المغرضة ونفتح عيوننا على الحقيقة بحق وليس العالم الافتراضي أو الأوهام.
إن التخلص من التأثيرات السلبية للصورة لا يعني الشروع في البحث على طرق بديلة ماضوية كالتنظير للعودة الى الكتابة والمشافهة كوسائط تقليدية للتواصل فذلك ليس سوى حنينا بدائيا ونكوصا الى الوراء ولا يتوقف كذلك على تجاهل عالم الصور والابتعاد عنها واعتماد سياسة إغماض العينين وملازمة الصمت فذلك ليس سوى تضامن رمزي مع الذين يعانون من نقص في الرؤية ويجدون صعوبة في استعمال حاسة البصر بل إن التحرر من سلطة الصورة يمر حتما عبر نقد وظيفتها وتفكيك آلياتها وبناها الخفية وبيان أشكال العنف والاغتراب التي تسببها للناس والتركيز على التشويه والكذب والتحريف التي تمارسها ضد الحقيقة والواقع من أجل تحقيق رؤية للعالم في مختلف أبعاده.
لابد من التوقف عن التعامل مع الصورة كغاية في حد ذاتها والاكتفاء بالنظر إليها كوسيلة ولابد من تغيير الموقف النظري منها وعدم التركيز على الشكل والواجهات والتحديق في المضمون والمحتويات لأن العبرة ليس بالدعوى والمظهر بل بالرسالة والجوهر ثم ينبغي أن نتوقف عند التعامل معها كواسطة رمزية وليس فضاء للحياة.
إن ماهو مطلوب منا القيام به اليوم هو مقاومة السحر والشعوذة الجديدتين التي تمارسهما علينا الصورة بالتخلص من أفكر التقديس والإعجاب والانبهار التي تسكن عيوننا وبالتحلي بروح المبادرة واتخاذ مسافة نقدية والاحتراس من الانخداع والتوقف عن التصديق الأعمى لكل ما يأتي من مجتمع الفرجة وتحقيق التوازن بين جميع الملكات المعرفية والحواس بالعدل في استخدامها وعدم ترجيح ملكة على أخرى فإذا كان عصرنا هو عصر العين فلربما تكون الأذن هي مرآة عصر المستقبل!
* كاتب فلسفي

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه