دخل المسيح يوما إلى القدس على ظهر حمار يحمل غصن الزيتون ثم توجه إلى بائعي الحمام والصيارفة والمتعاملين بالربا في قلب حرم المعبد فقلب موائد القمار وطاولات المرابين وبياعي الحمام وقال الويل لكم لقد حولتم بيت الله إلى بيت دعارة ومغارة لصوص..
والعالم اليوم أصبح مكانا للدنس والنجاسات وأكل مال السحت بكل وجه.. وبوق النفير الذي أعلنه الخايب بوش، لحشو خرق سفينة أمريكا الغارقة بـ 700 مليار دولار، هي مثل دهن مرهم الفولتارين على سرطان القتامين الجلدي ليشفى؟ وأي طبيب أو جراح إذا سمع مثل هذه الوصفة، يعرف أن وصفة من هذا النوع هي شعوذة وتدليس وتضييع وقت وتغافل عن سرطان شرس، لا تفيد فيه إلا الجراحة وفي مرحلة ما قبل الانتشار، وهو ما يريد فعله البوشيون، وأتباعهم أجمعين من الكذابين، مع سرطان منتشر يعالج بالبخور والمراهم، في مجلس حكماء الكونجرس لالتهام العالم مثل فطيرة محشوة بالزبيب..
ولمعرفة مغارة اللصوص هذه علينا تتبعها في مظانها في أسواق المال فالسيد (ييرا هاريس Yra Harris) يضارب في أهم بورصة في العالم في شيكاغو، حيث (القلب الاقتصادي) بتعبير (جاك أتالييه) الفرنسي، ومنذ 28 سنة عاصر قوة المارك واختفاؤه، كما رأى اليورو يولد من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة، كما رافق رحلة تطور الدولار، وكيف خسفت به الأرض، مثل المريض المعتل بروماتيزم المفاصل الخبيث، ففي 1 يناير عام 1970 كان سعر صرف الدولار مقابل المارك الألماني 3.69، ولكنه في 26 يوليو عام 1973م أصبح يعادل 2.29 من المارك، بخسارة 38% من قوته، وفي 19 أبريل 1995م أصبح في أسفل سافلين فعادل 1.35 مارك، وهو أمر لا يكاد يصدقه الإنسان؟
وحاليا يباع الدولار الأمريكي مقابل الكندي واحد لواحد وكان واحد لـ 1,60 ويباع اليورو بحوالي 1.5 دولار وكان 93 سنت؟ فالدولار في رحلة 35 سنة لم يبق من قوته سوى 43%؟، ومن أدخره ليربح كان من المفلسين.
وهو على ما يبدو قد شاخ واعتل، وأمريكا أصيبت بداء الأمم، وبتعبير المؤرخ الأمريكي (باول كيندي) في كتابه (سقوط القوى العظمى) وهو يصف مرض تشيخ الإمبراطوريات (فرط التوسع).
وما يحدث لأمريكا يأتي من باب الاقتصاد حين انهارت أسواق المال في سبتمبر 2008م كعهدها دوما في الخريف في سبتمبر كما حدث مع نكبات سابقات..
وهو على كل حال مبدأ كوني حسب القانون الثاني في الديناميكا الحرارية، أن البناء يتآكل، والبدن يشيخ، والحزب القائد يموت، والدول تدول، والحضارات تنهار. وكل من عليها فان.
ولو سيطر الذعر على المودعين في الأسواق المالية أمام ظاهرة تآكل الدولار؛ فنفضوا أيديهم منه، لتحولت أمريكا إلى جمهورية موز، تطلب الصدقة من الناس؟
وهذا حال الدول فلا يدوم على حال لها شان.
ويقول (ييرا هاريس Yra Harris) الذي يعمل في غرفة مقفلة تلمع فيها شاشة الكمبيوتر: إنني أحاول توظيف رؤيتي للبعد إلى أرباح قصيرة الأجل، وقبل ساعات من طلوع شمس أول جمعة من كل شهر يقعد على بيانات الحكومة الأمريكية حول البطالة، كما يطلع على مجريات السياسية الدولية وتأثيرها على سوق العملات، وبعد الساعة 7.25 دقيقة صباحاً تبدأ مؤشرات الدولار فإما قفز الدولار أو سقط مكباً على وجهه؟
ويقول حارث الذي يرتدي أحياناً معطفه وينزل إلى ساحة المجانين حيث الزعيق ولغة الصم البكم بالأصابع ليستشعر مزاج السوق لا أكثر؟
إن ما يحدث في الصالات لا علاقة بالعلم والحقائق المادية أو السوق الاقتصادية، بل الهوى الإنساني في مزيج مضلل، من المزاج والتوقعات وربما قراءة الطالع والتنجيم؟
وهو يعترف أن هناك بالطبع حقائق تؤثر في مجرى الأحداث مثل معدل النمو ومستوى البطالة وسعر الفائدة، ولكن الحاسم ليس كل هذا، ولو كان الأمر كذلك لهان الأمر، ولأمكن تلقيم الكمبيوتر هذه الحقائق، وجعله يستخلص النتائج بشكل عقلاني، ولكن آخر شيء في السوق علاقته بشيء هو العقل؟ والجو أقرب للجنون؟
وهو يذكر بمقولة الوردي حول سخف العقل، وأن العقل للإنسان هو آلة للبقاء مثل الناب للأفعى والقرن للجاموس، أكثر منه للبحث عن الحقيقة والعدالة والمنطق؟
وهكذا فلا أحد يعلم مستقر ومستودع الدولار بل ومصير أمريكا خلال الأشهر القادمة؟
هل سيقوى أم يضعف؟ هل سيشرق نوره على العالمين أم يكسف ويخسف؟ هل سيعادل اليورو دولار واحد؟ أم يقفز من جديد إلى 1.4 كما توقع البنكيون؟
إن كل مراهنة على المجهول هي رجماً بالغيب؟
وعندما هوى الدولار مثل حجر ثقيل من شاهق، فلأن كل التوقعات كانت تتحدث عن القصور الأمريكي المزدوج، وأن أمريكا في ورطة اقتصادية، وهو أمر لمح له عالم اجتماع بأن غزو العراق لم يكن من أجل الديموقراطية، بل من أجل المحافظة على بيع البترول بالدولار، والدولار حاليا يقفز أمام اليورو بدون مؤشرات قوة ذاتية، فكيف نفهم الأمر؟
إن كارثة الرهن العقاري في خريف 2008م قبلها غرق أمريكا في عجز داخلي بمقدار 427 مليار دولار، وخارجي بمقدار أكبر هو 648 مليار، والعجز في زيادة، ورفاهية الأمريكيون يمولها فقراء العالم الثالث لا يفترون، خوفا من انهيار الدولار ومعه بناء العالم الاقتصادي المركب خطأ فوق خطأ.
وعملة أمريكا الخضراء اليوم ليست في يدها، وأعظم المدخرات من الدولار هو خارج أمريكا مثل اليابان والصين وتايوان، والهند وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وهونج كونج ترفع الرقم في النهاية إلى 2200 مليار دولار..
والأقرب للتوقعات هو مصير الدولار الأسود الذي منه سيأتي مقتل أمريكا المستقبلي ما لم تتوب عن ثلاث: الحروب والبذخ وحمى الاستهلاك، فتعيش بإمكانياتها، ولكن القرآن يعلمنا أن القرى تهلك حينما يصبح أمراؤها مترفوها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لمهلكهم موعدا.
والاتفاق الحالي من الخبراء إن الدولار في رحلته الموجعة سوف يتابع طريقه إلى القاع، وسوف يخسر ثلث قوته خلال السنوات الثلاث أو الخمس القادمة؟ وكثير من الدول تملأ احتياطيها باليورو ولكن على غفلة من العيون وبحذر وببطء، خوف انهيار نظام النقد العالمي، وهناك من يقترح العودة لنظام (بريتون ويدز) في ربط العملات بالذهب، وهناك من يرى سلة عملات من ثلاث اليورو والين والدولار، أو بدل الين سلة عملات شرق أقصوية، وهناك من يراهن على العملة الصينية (Yuan) التي سوف ترتفع لا ريب فيها؛ فالصين ستكون خلال عشرين سنة أكبر قوة اقتصادية في العالم.
إن الحاجة اليوم ملحة إلى نوعين من الجراحة الجذرية على السياسة والاقتصاد، في مجلس الأمن والنظام النقدي، وكل واحدة لا يوجد لها جراحون وأدوات وقاعة عمليات وعناية مركزة.
والمال يحكم العالم، ومن يقرر قيمة المال يملك القوة، والمال والقوة اليوم في يد عصابة من المضاربين، والعولمة اليوم هي نادي للقمار. وفي القرآن ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه؟ حين يجتمع السلطان والمال في خدمة الشيطان.
وحينما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ولد العالم مشوها بولادة مجلس للأمن تشرف عليه عصابة من الأقوياء لا يتجاوز مجموع سكان أربعة دول منهم دولة واحدة مثل الهند، فأعيقت ولادة العدل بقرار الفيتو في العالم وما زال. وفي 15 أوجست 1971 لم يبق أمام الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون Richard Nixon) إلا أن يعلن الحداد على اتفاقية (بريتون وودز Britton Woods) بفك الدولار عن الذهب، بعد أن غرق العالم بالعملة الخضراء، وتحولت غابات فيتنام إلى شواظ من نار ونحاس. ومات من الفيتناميين ثلاثة ملايين و400 ألف، ومن الأمريكيين 58 ألفا، ولم يكن فك الدولار عن الذهب إلا بسبب حرب فيتنام التي تطلبت النفقات، فما كان من أمريكا إلا أن طبعت المزيد من الورق الأخضر، ونثرته فوق رؤوس العملاء، وفي شرايين مصانع السلاح بدون غطاء من ذهب. ولم يكن ليحصل سوى ما حصل.
ومنذ ذلك الوقت فإن العالم كازينو قمار، ويشكل تقلب العملات الخطر الأعظم اليوم لرأسمالية العولمة، ويمكن للانهيار أن يأخذ تأثير الدومينو فينتقل كحريق من بلد لبلد، كما حدث في أزمة الشرق الأقصى عام 1997م ما يشبه (تسونامي) اقتصادي، وفي الحالة القصوى إلى أزمة تشبه عام 1928م، لأن منحنيات التبادل النقدي تخضع لمضاربات من سمك قرش عالمي بشكل لم يسبق له مثيل، وما يحكم سوق المال ليس القوانين الموضوعية بل الأمزجة المتقلبة، وحينما يصعد الدولار أو تخسف به الأرض فليس لحقائق واقعية بل لأمور نفسية لا تفسر، ومن يلعب في السوق هم المضاربون، والحاجة إلى وعي اقتصادي هامة في كل عائلة لأنه يطال جيب كل واحد.
وما يقرر الأسعار ليس الوقائع الاقتصادية بل المزاج والتوقعات من المضاربين، ولا يوجد في الوقت الراهن أي نظام نقدي فعال، والعملة الرئيسية في العالم هي الدولار، والدولار مصاب بعلة مزمنة لا شفاء منها، والدولار هو العملة القائدة ومركز الاحتياط في العالم، والدولار مجنون، وإذا كان رب البيت بالطبل ضاربا فشيمة أهل البيت الرقص؟
وحينما شنت مجموعة (hedgefonds) الغارة على الجنيه الإسترليني استطاع جورج سوروس (George Soros) الهنغاري أن يمد يده إلى جيب كل بريطاني فيسلبه سنت واحد ويضع في جيبه مليار جنيه في ليلة واحدة. فهذه هي مغارة اللصوص التي نعيش فيها كما وصف المسيح معبد اليهود؟
لقد أعلن (إيمانويل تود) الكاتب الفرنسي في كتابين عن نهاية الاتحاد السوفيتي، والأخير عن (نعوة) أمريكا؟ فأما مصير الروس فقد انجلى بأشد من قذارة ذاب عنها ثلج الشتاء.
وأما أمريكا فمصيرها أوخم، والمسألة مسالة وقت، وإذا استيقظنا يوما فسمعنا أن سعر صرف الدولار صار مثل البات التايلاندي فيجب أن لا نعجب...كان ذلك في الكتاب مسطورا..
يقول القرآن عن مصير المترفين أنه إذا أراد هلاك قرية أمّر مترفيها وجعل لهم العلو ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا..
وهذا هو حال العالم وأمريكا اليوم..