من مفكرة سفير عربي في اليابان
انتخب الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم، في الأسبوع الماضي، رابع رئيس للحكومة خلال العامين الماضين. فقد شكل السيد تارو أسو الحكومة اليابانية الجديدة بعد استقالة حكومة يسو فكودا بسبب تدني شعبيتها. كما استقال رئيس الوزراء السابق شنزو أبييه لنفس الأسباب، عقب استلامه رئاسة الحكومة من الرئيس جونيشيرو كويزومي الذي استقال وهو في قمة شعبيته. وقد حكم الحزب اللبرالي الديمقراطي اليابان معظم فترة ما بعد الحرب، ليحقق لها تطورها الاقتصادي والتكنولوجي. وقد خسر هذا الحزب في العام الماضي أكثريته المطلقة في مجلس المستشارين، والخوف من أن يخسر فرصه في انتخابات المجلس النيابي القادمة. ويحاول الرئيس الجديد الاستفادة من شعبيته للدعوة لانتخابات مبكرة في الشهر القادم. ويعتقد أكاديمي السياسة اليابانية بأن الشعب الياباني قد عاقب الحزب الحاكم في انتخابات العام الماضي، ولكنه غير مقتنع بكفاءة المعارضة، والسؤال المحير: لماذا حاول الشعب الياباني معاقبة الحزب الحاكم مع عدم قناعته بالمعارضة؟ وكيف سيستطيع هذا الحزب كسب ثقة شعبه من جديد؟
حاولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وبكل جبروتها، أن تخلق من اليابان حصنا تكنولوجيا واقتصاديا منيعا ضد الشيوعية، التي وصلت جيوشها السوفيتية للجزر الشمالية، بينما كان الجيش الصيني على بعد أميال من ساحلها الغربي. وقد استفاد الشعب الياباني بذكاء وحكمة، وبقيادة الحزب اللبرالي الديمقراطي من هذه الفرصة، لتطوير موارده البشرية بالتعليم والتدريب، وتقوية اقتصاده بالتقدم التكنولوجي الصناعي. وقد نما الاقتصاد الياباني بعد الحرب لكي يصبح ثاني أقوى اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، كما عمل على توزيع ثروته بعدالة ومساواة، ليتحول مجتمعه لمجتمع تمثل الطبقة الوسطى 90% من مواطنيه. ويتميز النظام الياباني برأسمالية ذات مسئولية اجتماعية، تجمع بين الملكية الخاصة وحرية السوق الخادمة للمجتمع، وبين تطبيق أنظمة وقوانين صارمة ضد الفساد والجشع. وقد أدى هذا النظام لتوفير الدولة الوظيفة الدائمة للمواطنين والتعليم والتدريب المجاني والرعاية الصحية الشاملة وضمان البطالة والتقاعد. وبعد أن فشلت التجربة الشيوعية، وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، دفعت الحكومة الأمريكية بكل قواها لتحرير السوق اليابانية من أنظمتها وقوانينها التقليدية، وفتح الأبواب لمنافسة سوق العولمة والخصخصة. وقد أدى ذلك لتشجيع التجارة وزيادة المجازفة في الإبداع التكنولوجي التجاري، وترافق ذلك بالنمو الاقتصادي وزيادة أسعار الممتلكات الخاصة، لتتراكم ديون تغطيتها، ولتنتهي بالتضخم وانفجار الفقاعة المالية، وإفلاس الكثير من البنوك والشركات. وقامت الحكومات اليابانية المتعاقبة بمحاولة إصلاحات مالية واقتصادية جادة منذ بداية التسعينيات. وقد حارب الرئيس الأسبق كويزومي بمرارة خصخصة البريد الياباني، المؤسسة المالية العملاقة التي اعتبرها الشعب الياباني بنكا أمينا لخزن مدخراته المقدرة بتريليونات الدولارات. حيث أضطر حل المجلس النيابي بعد رفضه الموافقة على مشروع الخصخصة، والدعوة لانتخابات جديدة للتخلص من معارضيه، ليستلم الحكومة من جديد وبفوز ساحق. وأدت هذه الإصلاحات لإنقاذ الاقتصاد الياباني، ولكنها ترافقت بتحرير السوق من الأنظمة والقوانين الهامة للوقاية من التلاعب والفساد. وأدت لخسارة بعض المواطنين وظائفهم الدائمة، كما تقلصت الطبقة الوسطى، وازدادت الهوة بين الفقر والغناء، وارتفعت تكلفة الضمان الصحي وخسر بعض المواطنين لفوائدهم التقاعدية. وقد أضعفت هذه الظواهر الاقتصادية من سمعة الحزب الحاكم، وترافقت باتهام بعض وزراءه بالتقصير والفساد، مما أدى لخسارة الحزب الحاكم لأكثريته في مجلس المستشارين في انتخابات العام الماضي.
وقد حاولت حكومة السيد فوكودا السابقة بتحسين أوضاع الخدمات الاجتماعية وتطهير الحكومة من الوزراء المقصرين، وتطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين وكوريا. وقد نشرت صحيفة اليابان تايمز في الحادي والعشرين من سبتمبر لهذا العام بعد ظواهر التقصير في الضمان الصحي وأزمة التغذية وتمكين المرأة، وناقشت محاولات الحكومة لإصلاحها. وركزت على ضرورة خطة حكومية لتغير نظام الضمان الصحي، السيئ الصيت، الخاص بمواطنين فوق الخامسة والسبعين، والذي يقدر عددهم بثلاثة عشرة مليون، ووضع خطة جديدة لرعايتهم الصحية يلغي التصنيف العمري. وتعتبر خدمات المسنين من أكبر التحديات اليابانية، حيث أرتفع نسب المواطنين الذين يتجاوزون الخامسة والستون لحوالي 21%، ومن المتوقع أن ترتفع لأكثر من 40% في عام 2050.
وقد أصبحت قضايا حقوق المرأة من التحديات البارزة في المجتمع الياباني، وبالأخص بعد محاولة السيدة يوريكو كويكه وزيرة الدفاع والبيئة السابقة للفوز بقيادة حزبها. وتمثل المرأة في مجلس المستشارين بنسبة 18، بينما لا تتجاوز هذه النسبة في المجلس النيابي عن 9%. وتقدر ترتيب اليابان الرابعة والخمسين بين دول العالم في قضايا تمكين المرأة، بينما حصلت الولايات المتحدة على المرتبة الخامسة عشر.
كما ناقش فيليب برازور عاصفة الفساد بتجارة الأرز المستورد، والتي شجعتها ربحية الخصخصة وترك يد السوق للتلاعب، وبتساهل الحكومة في تطبيق الأنظمة والقوانين. وقد اتهم الإعلام وزارة الزراعة اليابانية بالتقصير في هذه القضية مما أدى لاستقالة وزيرها المختص. كما ربطت الصحافة خيوط هذه الفضيحة بإصلاحات حكومة الرئيس كويزومي السابقة، التي حاربت لتحرير سوق الرز في عام 2003 ضمن خطة الخصخصة الإصلاحية. فقد كانت تتم جميع صفقات تجارة الرز من خلال الإدارة الحكومية، وبرخصة رسمية لتجار الرز، والتي قامت حكومة كويزومي بإلغائها، مما أدى لانخفاض الأسعار، ولكن سهلت تجاوز الأنظمة والقوانين.
فقد فرضت منظمة التجارة العالمية منذ عام 1993 على اليابان شراء سبعة وسبعين ألف طنا من الرز سنويا من الخارج. وتنتج اليابان كفايتها من الرز الياباني الفاخر، لذلك حددت الحكومة استعمالات الرز المستورد من الخارج، لمنع نزول سعر الرز الياباني. وتبيع الحكومة كمية قليله من الرز المستورد، بينما تخزن الباقي لفترات طويلة مما يؤدي لإصابتها بفطريات سامة. ويحتوي الرز المستورد على نسب عالية نسبيا من بقايا المواد المبيدة للحشرات، والتي تتجاوز النسب المسموح بها في اليابان. وقد زادت كمية الرز المستورد في المخازن في عام 2006 لحوالي المليوني طن، والذي يكلف تخزينه تسعة بليون ين سنويا. وقررت الحكومة الاستفادة من هذا الرز في صناعة الغراء ومنعت استعمالاته الغذائية. وحصلت شركة أغذية خاصة عقد شراء هذا الرز، وبسعر الطن الواحد عشرة آلاف ين، لتبيعه على الشركات الخاصة بخمسة وثلاثين إلف ين. وقامت هذه الشركات ببيع الرز بطريقة غير قانونية على مصانع الأغذية بثمانين ألف ين للطن الواحد. وقد ثارت عاصفة صحفية حينما صرح الأطباء تشخيص حالتي تسمم غذائي بسب أكل الرز المستورد والمخزن، والذي بينت التحاليل الطبية باحتوائها على الاسيفات، المادة المشابه لمبيدات الحشرات.
ويحاول رئيس الوزراء الجديد إبراز اهتمامه بإصلاح مسار تجربة الحزب الحاكم. فقد عين ضمن حكومته وزراء عارضوا سابقا خصخصة البريد، كالسيدة سيكو نودا وزيرة الدولة لشؤون المستهلكين، ووزير الخارجية السيد هيروفومي ناكاسوني. كما عين وزير الدفاع السابق السيد شيجيرو اشيبا وزيرا للزراعة للمعالجة الصارمة لتحديات سوق الأغذية. وأختار خمسة وزراء تعليم سابقين لحكومته الجديدة لتهيئة التعليم لسوق العولمة، وعين مهندس متخصص في التكنولوجية النووية، وهو السيد ايسوكي موري، وزيرا للعدل. ولمعالجة أزمة انخفاض السكان عين شابة متزوجة وأم كوزيرة للسكان وتمكين المرأة وهي السيدة يوكو أبوشي. تلاحظ عزيزي القارئ بأن التجربة اليابانية قد طبقت الرأسمالية ذو المسئولية الاجتماعية، وحينما أنجرف البعض لبريق سوق العولمة، عدلت مسارها لمعالجة تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستستفيد برلماناتنا العربية من هذه التجربة لوضع تشريعات تهيئ أسواق المنطقة للعولمة القادمة وتقي من تجاوزاتها؟
سفير مملكة البحرين في اليابان