أتابع عن كثب الحوار الدائر في الغرب حول العلاقة بين الفلسفة والدين في المجتمع ما بعد العلماني، بين الفلاسفة وعلماء اللاهوت. وهو حوار راقي وممتع ومفيد للجميع، لا يخلو أحيانا من حدة وصرامة، لكن دون صلف أو إدعاء ملكية الحق والصواب.
من أبرز الممثلين لهذا الحوار الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس شيخ الفلاسفة وضميرالغرب الحي، ورفيق دربه وبلدياته بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر (أو الكاردينال راتزنجر سابقا) أستاذ اللاهوت والفلسفة.
ويبدو أن تاريخ الفلسفة الألمانية ابتداء من quot; كانط quot; وحتي اليوم، وكأنه محاكمة تتم فيها مناقشة العلاقة الملتبسة بين الفلسفة والدين. فقد نجح كانط في رسم الحدود الواضحة بين الإيمان الأخلاقي الخاص بدين العقل، والإيمان الوضعي بالوحي، قبل أكثر من قرنين.
اليوم يطور quot;الفيلسوف والبابا معاquot; هذا التقليد الكانطي، كل بطريقته، من أجل عالم أفضل وغد أكثر تسامحا وحرية. يقول هابرماس المدافع الأكبرعن الحداثة، في وجه النزعات الظلامية والعدمية: quot;ان المدار (الأخلاقي والسياسي) الذي تفترضه الحداثة يملي تبادلا عقلانيا ما بين أصحاب التصورات والعقائد المختلفة. كما يتطلب من شركاء المدار العام، إدراج تصوراتهم ونظرياتهم هذه في (سياق نسبي)، وعلي قدم المساواة مع بعضها البعض.
الأهم من ذلك، أن علي كل صاحب نظرية أو تصور أن يحتكم إلى منظور الآخرين أيضا في تقييم نظريته أو تصوره، وهو ما يجعله جديرا باحتلال موقع مناسب في مدار التبادل العقلاني الحداثي.quot;
هذا ما ترفضه الأصولية الدينية رفضا قاطعا، فالأصولية من حيث إنها الإطار النظري لأفعال العنف المنظمة اليوم، هي ndash; بتعبير هابرماس - ردة فعل ضد الحداثة، حتى وان كانت ردة فعل حديثة، فهي وخلافا لما تقتضيه الحداثة، لا تؤمن بالنسبية، ولا يمكن أن تضحي بملكيتها للحقيقة المطلقة، فضلا عن انها غير مستعدة أن تدنس عقيدتها من خلال النظر إليها من منظور الآخرين.
وكتب هابرماس، عام 2004، في بحثه المعنون: quot;الدين في النطاق العامquot;، quot;آن التسامحquot; أساس الثقافة الديمقراطية، وهو مسار باتجاهين دائما، ولهذا لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم، فحسب، بل إن من واجب quot; العلمانيين غير المتدينين quot; أن يثمنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني.quot;.
ويضيف: quot; مهما كانت مفاهيمنا الفلسفية العلمانية قوية ومقنعة ـ كفكرة حقوق الإنسان على سبيل المثال ـ فإنها تستفيد، من حين لآخر، من اتصالها المتجدد بأصولها المقدسة. quot;.
في المقابل يخطو البابا بنديكت السادس عشر خطوات حثيثة بإتجاه تأويل أكثر عقلانية للعقيدة المسيحية الكاثوليكية لتصبح أكثر مرونة وقابلية للتكيف مع مستجدات المجتمع ما بعد العلماني، أولا بتنقية الأجواء مع أصحاب الديانات والمذاهب والملل والنحل الأخري عن طريق الحوار. وثانيا بالانفتاح السياسي ومد جسور التواصل مع المجتمعات العلمانية الديموقراطية، داخل وخارج أوروبا، ففي زيارته الأخيرة للولايات المتحدة نوه البابا بحقيقة أن أمريكا لا دين للدولة فيها، وقال: إنها دولة علمانية ترحب بكافة الأديان والعقائد التي تتواءم في نموذج تعايش إيجابي يمكن لأوروبا أن تتعلم منه الكثير.quot;
وثالثا بتصفية أسباب العداء بين رجال الدين والفلاسفة والعلماء، من جاليليو حتي داروين مرورا بجوردانو برونو وكامبانيللا والبقية تأتي.
فقد أعلن الأسقف جيانفرانكو رافاسي وزير الثقافة في الفاتيكان عن مؤتمر في روما يشارك فيه علماء ورجال دين وفلاسفة يُعقد في مارس المقبل عام 2009، بمناسبة الذكرى المئة والخمسين لصدور كتاب quot;أصل الأنواعquot; (1859) لتشارلز داروين. مؤكدا علي ان نظرية داروين لم quot; تتعرض لإدانة الكنيسة الكاثوليكية ولم يحظر كتابه قط quot;.
والواقع أن أهمية هذه النظرية وخطورتها تكمن في كونها علمت الأوروبيين كيف يفكرون في الأديان كظواهر تاريخية تناسب زمانا ومكانا ما، ولكنها إذا تجاوزت سياقها الأصلي الدائم التغير من حيث الشكل والمضمون، ستصبح quot; أساطيرها quot; في أغلب الظن غير مسايرة للزمان. وقد وصفت quot; المسز همفري وورد quot; هذه الحالة بquot; الإصلاح الديني الجديد quot; وكتبت مايلي: quot; لقد غدونا أكثر واقعية ومرونة، فلقد أرتقي الأسلوب التاريخي، واكتسبنا القدرة علي الانتقال بعقولنا إلي أزمنة أخري ثم أدركنا أن التاريخ كل واحد، وأن الدين وتاريخ الكنيسة مجرد جزء للتاريخ الكلي لأي حقبة ولا يمكن فهمه إلا بالإضافة إلي الكل quot;. ومن ثم ساهمت هذه النظرية مساهمة قوية في مواصلة الحرب بين العلم واللاهوت من جهة، وفي بزوغ أوروبا علمانية جديدة، منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ورغم أن النزاع حول داروين ونظريته قد أحتل فترات كبيرة من القرن العشرين، فإنه قد ازداد منذ نهاية الحرب الباردة عام 1989، حيث صدرت عشرات الكتب في الولايات المتحدة تحديدا، محورها نظرية التطور لداروين، أذكر منها علي سبيل المثال quot;غريزة اللغةquot;، quot;وداعا ديكارتquot;، quot;ماذا تفعل الأشياء بالكلماتquot; و quot;صراع الكائنات المنقرضةquot;.... وغيرها. وثار الجدل من جديد حول تدريس نظرية داروين، وهل هو حلال أم حرام، صواب أم خطأ؟. وأسفر هذا الجدل عن صيغة توافق عليها الجميع، هي: من حق أي طالب علم أن يعرف رأي الدين ورأي العلم معا، ولا حجر علي حرية التفكير.
حتي quot; سارة بولين quot; المرشحة نائبة للرئيس الأمريكي ماكين، لم تفوت الفرصة وأعلنت أنها من أنصار داروين، وان نظريته يجب ان يدرسها الطلبة بحرية تامة. في نفس التوقيت، ظهرت بولين علي إحدي القنوات الدينية التليفزيونية مع رجل دين شهير وهو يخرج منها روحا شريرة!. وهو ما جعل بعض المراقبين لمعركة الانتخابات الأمريكية يمتدحون ذكاءها، بل وأكد بعضهم علي أنها هي التي سربت شريط الفيديو الديني ليعرض علي الأنترنت عبر اليوتيوب، حتي تبدو متعددة الاهتمامات، ترضي قطاعات كبيرة ومختلفة من المجتمع الأمريكي.
هذا هو واقع المجتمعات الغربية اليوم التي دخلت مرحلة ما بعد العلمانية.... وحتي لا يتسرع البعض في الحكم بأن الغرب أصبح أقرب إلي الدين والتدين والتديين، ليبرر حالة الهوس الديني عندنا، فإن الأمر شديد الاختلاف والخطورة، يتطلب شجاعة إعمال العقل والأمانة في نقد الذات.
فقد صنفت الأديان في العالم إلي نوعين، أديان مرنة تحاول البقاء بالتكيف المستمر مع المتغيرات والمستجدات في مجتمع كوكبي يتعلمن بإطراد. وأخري صلبة وجامدة، معرضة للصدام والكسر والانقسام والتناثر. وحسب تعبير هابرماس فإن المستقبل في المجتمع ما بعد العلماني quot; للدين العاقل quot;. ولا يستحق من الأديان صفة quot;العاقلquot; إلا الدين الذي يتخلى بسبب تعقله الذاتي عن الفرض القسري لما يؤمن به من قناعات، وعن الإجبار القهري للضمير الذي يمارس تجاه المنتمين إليه، وبالدرجة الأولى عن استخدامهم للعنف والإرهاب.