يمكن القول إن القرضاوي قد أعلن رسمياً الصراع المذهبي داخل الإسلام نفسه. وهذا هو التحول الثاني في الإسلام السياسيّ، فبعد أن كان يخوض صراعاً خارجياً مع الغرب فتحَ جبهة داخلية أكثر خطورة هي فتحُ ملفات الصراع المذهبي بين شطري الإسلام. ومع أنني أمقت هذا الصراع وأحتقره بقدر احتقاري من يعتاشون على موائده، لكن أجدني أنظر بعين مملوءة بالأسى إلى أولئك الضحايا الجدد الذين سيدفعون ضريبته في عموم البلاد الإسلامية.
لم يكن القرضاوي موفقاً في طرحه (المشكلة) مثلما لم يكن موفقاً في إنضاج مسوغاته أو السمو بحججه إلى مستوى المكانة التي يشغلها دينياً. لقد كتبتُ ndash; ولا أقول تنبأتُ- في وقت مبكر بأن حوار الأديان الذي رعته المملكة العربية السعودية إنما هو للأسف مشروع فاشل على كل الصعد. وسوّغتُ ذلك بأن الخطوة الأكثر إلحاحاً هي ترميم هيكل الإسلام نفسه، أو إصلاحه من الداخل قبل التوجه إلى الخارج؛ لأن المنطق يقول بأن الذين ذهبوا لتمثيل الإسلام في ذلك المؤتمر لم يصلوا بعد إلى مستوى التسامي على العقد المذهبية حتى يكون لهم نصيب من التفاعل أو تقبّل وجهة نظر الأديان الأخرى. وقد تزامن مع ذلك المؤتمر اشتعال فتاوى التكفير بحق الشيعة في المملكة. فإذا كان أكابر علماء السنة يحكمون على الشيعة بأقسى حكم وأخطره وهو: التكفير؛ أي القتل، أي سلب الحقوق، أي استباحة المال والشرف، أي النظرة الدونية، أي... فكيف يمكن أن يتحاور هؤلاء العلماء مع الديانات الأخرى المختلفة عن الدين الإسلامي في كل شيء؟. وعلى نحو مباشر تقفز إلى الذهن أدلجة الدين، وأنه في أغلبه عبارة عن هرطقات قَبَلية أو سياسية وفي أحيان كثيرة همجية؛ لأن المذابح التي حدثت باسم الدين هي أقذر المذابح التي عرفتها البشرية.
يخاطب ndash; أو يضلل - القرضاوي الرأي العام السنّي بأن الشيعة لهم قرآن غير هذا القرآن المعروف [ يمكن الاستماع إلى ذلك في الشريط الموجود الآن في إيلاف على هذا الرابط: اضغط هنا
ومع أن السنة أول من اعتقد بذلك، ومن يرغب في معرفة تفاصيل هذه المشكلة بوسعه أن يقرأ كتاب المصاحف للسجستاني، فإن القرآن الموجود في كل بيت شيعيّ، وأشدد على كلمة (كل) هو القرآن الذي يتعبّد به كل مسلم سني، بل إنه مطبوع في بلاد أهل السنة وبمطابعهم. وعلى هذا الأساس، لا يحق للقرضاوي أن يحاسب على (الرأي) لأن الإنسان بطبعه ميال إلى التأكد من كل شيء، بل إن على كل مسلم أن يتساءل ما شاء من التساؤلات بحق القرآن والإسلام والنبي وقبل ذلك بحق الله تعالى؛ لأن الإيمان هو إيمان المعرفة لا إيمان الوراثة والتوريث. وإذا كان الأنبياء أنفسهم قد مروا بمرحلة الشك التي يمكن أن أسميها: الشك المقدس، فليس مستغرباً أن يشك الإنسان البسيط. ألم يخاطب موسى ربه بقوله: رب أرني أنظر إليك...؟ ألم يكن هذا شكاً؟ وإلا كيف يصحّ لنبي صفته كليم الله أن يخاطب ربه على هذا النحو؟ ولاسيما أن هذا الرجاء (الطلب) جاء عقب تساؤل الكفار الذين قالوا له: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فكأن موسى قد مرّ بنفس الحالة التي مرّ بها المتسائلون فهو يريد أن يتأكد بالمشاهدة مثلما هم يريدون ذلك. هذه تساؤلات وتفسيرات ذهنية من حقنا جميعاً أن نطرحها إذا أردنا أن نسمو بعقولنا التي ترغب في الإيمان والمعرفة. إن قلب موسى في تلك اللحظة كان يحتاج بإلحاح إلى الرؤية البصرية لكي يتمكن منه الإيمان ويستوثق. وعلى الرغم من أن القرآن يخبرنا بأن الله كلّم موسى، لكنه يرغب هذه المرة في الرؤية البصرية. لكن ذلك هيهات لربّ لا يمكن عدّه وتوصيفه وتشخيصه وتجسيمه.
وهكذا فإن وازع الشك والنزوع إلى رؤية الدليل والحجة القاطعة هو مسعى إنساني فطري، ولاسيما أن القرآن ظل متداولا على نحو شفاهي لسنوات عديدة، والعقل يتساءل هل هذا الكتاب الذي نتعبد به هو القرآن كاملاً أو قد نسي ما نسي منه؟. فلا يمكن أن يعدّ من يعتقد بذلك كافراً؛ لأنه يؤمن بالموجود كله لكنه يعتقد بوجود مكملات ربما فقدت بسبب العلة الشفاهية أو ضعف الذاكرة الإنسانية.
وإننا لنتساءل هنا، كيف يمكن للقرضاوي أن يكون رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهو لم يؤمن بهذه الحجة أو الفرضية المنطقية في التعبّد؟. لكن هذا التساؤل ينحو بنا نحو البحث عن الجواب الأقرب إلى معرفة سبب الحملة التي مازال يشنها بغية إحداث فتنة بين الشيعة والسنة. في الشريط المذكور أعلاه، يكشف القرضاوي عن الدافع الحقيقي لهذه الحملة، وهو أن أحد الكتّاب قد انتقد كتابه ( تاريخنا المفترى عليه) وكان هذا الكاتب مصرياً من المنصورة، وعنوان كتابه: القرضاوي وكيل الله أم وكيل بني أمية؟، فلما علم القرضاوي بذلك ثارت ثائرته واشتاط غضباً وطلب من سكرتيره أن يتصل لكي يستفهم عن الكاتب [ قلتُ للأخ سكرتيري اتصل بالمنصورة واسأل لنا عن المصيبة دِيَّه (هذه)...] فعلم السكرتير أن الكاتب شيعيّ من المنصورة، فتساءل القرضاوي متعجباً بشدة ما نصه: (المنصورة! مصر! وفيها شيعيّ يصل إلى حد أن يرد على يوسف القرضاوي؟!).
لاحظوا، وأرجو أن تستمعوا إلى الشريط، أن الشيخ قد ثارت ثائرته لأن في مصر شيعيّاً واحداً، ولم تثر ثائرته على وجود الآلاف من الذين يهجرون الدين الإسلامي إلى الإلحاد، ولم يغضبه ما يتعرض له الناس في مصر من عمليات الاعتداء والفقر والقتل والنصب والاحتيال والابتزاز والتهتك والخروج على تقاليد الدين الإسلامي، لم يغضبه القمع السياسي بحق المصريين، لم تغضبه الفتنة الطائفية بين الأقباط والمسلمين، لكن الذي جرحه هو وجود شيعيّ واحد في مصر، والذي جرحه أكثر هو أنه كتب كتاباً في الرد عليه، وقد تساءل بنرجسية عالية: يصل إلى حد أن يرد على يوسف القرضاوي؟!. هكذا إذن، مشكلته تكمن في الرد عليه، وفي اعتقاده النرجسي لا يمكن تفنيد أفكاره. أية ثقافة هذه؟!. كيف يقود هذا العقل هذه الأمة؟!.
يقول القرضاوي إنه أخبر ndash; أثناء زيارته إيران- الزعماء الإيرانيين أن التبشير المذهبي في المناطق الخالصة المذهب عمل غير مقبول. ولا أدري أين المشكلة؟ ألم يؤمن الشيخ بقوله تعالى في الآية 99 من سورة يونس: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ.
الآية صريحة في أن الله منح الحرية في الإيمان أو عدمه، فلماذا لا يترك الشيخ للناس حرية الاعتقاد المذهبي؟ وهو اعتقاد أوانتقال موضعي بين الإسلام نفسه لا بين الإسلام والديانات الأخرى، وفي أيام صدام وصل التبشير الوهابي حتى إلى مدينة النجف، وشخصياً أعرف أفراداً تحولوا إلى الوهابية في هذه المدينة. وقد أخبرني شخص ليبيّ من قبيلة الجعافرة الكبيرة أن الجعافرة هم شيعة خلّص جرى إجبارهم على التحول إلى المذهب السني. ولم يكن كلام القرضاوي دقيقاً بخصوص التشيع بمصر، فهذه البلاد التي خضعت للحكم الفاطمي لسنوات طويلة، ووجود الجامع الأزهر الذي أسسه الشيعة هناك، لا يمكن القول إنها تخلوا من شيعيّ واحد كما يذهب الشيخ. وهكذا بالنسبة للمغرب وتونس والجزائر وقرطبة، إذ استطاع الأدارسة [ نسبة إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب الذي نجا من موقعة الفخ بحق العلويين وبايعه المغاربة بالخلافة] أن يكونوا قادة المسلمين ويؤسسوا مملكة واسعة معروفة في التاريخ الإسلامي. ومع أن الشيخ لم ينبس ببنت شفة حيال تحول الصحفي المصري من الإسلام إلى المسيحية، إلا أنه ينشط هذه الأيام في مقاومة ما أسماه: المدّ الشيعيّ. وهو هنا يعبّر عن وجهة نظر سياسية أكثر منها دينية، يختلط فيها الديني بالسياسي. وجهة النظر هذه، أخذت بالنمو في المدة الأخيرة نتيجةً لتغيرات سياسية عديدة في الشرق الأوسط. ومع أننا نرفض التدخل والتمدد السياسي الإيراني في المنطقة، إلا أن هجوم الشيخ على الشيعة للأسف يندرج في باب: ركْب الموجة السياسية الجديدة.