نظم بنك الاحتياطي الفيدرالي بمدينة كنزاس الأمريكية ندوته السنوية الشهيرة في سنة 2002، التي خصصها للاحتفال بالذكري 90 لميلاد الاقتصادي البارز quot;ميلتون فريدمانquot; الذي يعود له الفضل في اكتشاف خطا السلطات النقدية الفادح عندما خفضت عرض النقد بحوالي الثلث كرد على انهيار quot;وول ستريتquot; عام 1929، مما حول الكساد إلى انهيار اقتصادي كبير. خلال الندوة توجه quot;بين بارنانكيquot; (الرئيس الحالي للاحتياطي الفيدرالي) لميلتون فريدمان بالقول quot;لقد فعلناها حقيقة، نحن ناسف لذلك، بفضلكم أصبحنا واعين بخطئنا، وكونوا على ثقة إننا لن نرتكب نفس الخطأ في المستقبلquot;. لكن الأزمة الحالية تؤكد أن الاحتياطي الفيدرالي قد فعلها مرة أخرى، إذ فشل في توقع الأزمة الحالية، و من ثم تداركها قبل فوات الأوان. فلماذا فشلت أمريكا في توقع أزمتها المالية؟
أولا، بدأت جذورالازمة الحالية من شركات الرهن العقاري ndash; لا البنوك- التي كانت تقدم قروضا للراغبين في الحصول على سكن، دون التزامهم بأي دفع مسبق, بل وصل الأمر لتقديم نسبة 105% من سعر المنزل كقرض, بالإضافة إلى أن دخل المستفيدين قد لا يساعدهم على السداد في المستقبل. و من هنا جاءت مفردة quot;ساب برايمquot;، التي تعكس تنافي هذه القروض مع ابسط قواعد الانضباط و السلامة المالية. و بما أن الرهن العقاري كان يوفر إرباحا هائلة للمؤسسات الممولة، ارتفعت هذه القروض بحوالي 25% سنويا خلال 1994-2003.
ثانيا، ساعدت المنتجات المالية الحديثة شركات التمويل العقاري على تحويل رهوناتها إلى سندات تم بيعها للمستثمرين، مما جلب بنوك الاستثمار مثل quot;ليهمان براذيرزquot; (التي أفلست مؤخرا) و quot;ميريل ليتشquot; التي اشتراها quot;بنك اوف اميريكاquot;, و quot;جولدمان ساكسquot; و quot;مورجان ستانليquot; إلى المصيدة. و فشل بنوك الاستثمار هذه في التعرف على المخاطر الحقيقية للسندات التي تشتريها ناتج عن النوعية الجديدة لهذه المنتجات. خبراء المال يستطيعون التعرف على درجة مخاطر قرض بعينه لكنهم لا يستطيعون التعرف على درجة مخاطر مجموعة من القروض المختلفة عندما يتم بيعها بالجملة. كما كان الحافز قويا للاستثمار في هذا النوع من المشتقات المالية للمشرفين على كبرى بنوك الاستثمار، إذا حصد المدير التنفيذي لبنك quot;ليهمان براذيرزquot; خلال 2007 على دخل يفوق 34 مليون دولار، بينما حصل المدير التنفيذي لجولدمان ساكس على 72 مليون دولار.
ثالثا، حتى انفجار الأزمة كانت هناك ضغوط كبيرة من الكونجرس على المؤسسات التمويلية العملاقة مثل quot;فريدي ماك و quot;فاني مايquot; للتوسع في منح القروض لما فيه مصلحة الناخب لأعضاء الكونجرس، كما كان لهذه المؤسسات تأثير على الكونجرس إذ كانت من أهم ممولي حملات أعضائه الانتخابية.
رابعا، شجعت العولمة المالية البنوك الأجنبية على الاستثمار في المشتقات التي تصدرها البنوك الأمريكية، مما يعني مشاركتها في تحمل المخاطر في حال حصول أزمة. و هذا من شانه طمأنة المؤسسات الأمريكية على أنها لن تتحمل بمفردها تبعات قراراتها الخاطئة.
خلاصة القول، لقد فشلت أمريكا في توقع أزمتها المالية لأنها كانت من نوع جديد لم يكن معهودا في السابق. و ساعد الفساد السياسي و العولمة على الفشل في وضع الضوابط الضرورية للسيطرة على المخاطر و توخي الحيطة. و من هنا كان لا بد من أزمة كبرى كالتي حدثت مؤخرا لفرض الإصلاحات الضرورية التي يتطلبها النظام المالي السليم، تماما كما كانت الأزمات الاقتصادية ضرورية كي تقوم الحكومات بالإصلاحات التي كان ينادي بضرورتها الخبراء منذ زمن طويل.
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي و خبير سابق في صندوق النقد الدولي.
[email protected]