من مفكرة سفير عربي في اليابان

يتساءل البعض عن مدى خطورة انتشار أزمة الوول ستريت الحالية، وهل هي مرض أمريكي محلي يمكن علاجه بقرار من الكونجرس وحقنة هائلة من الدولارات؟ أم هو عرض لمرض عالمي، يحتاج لعلاج دولي طارئ كبير، لتبدأ بعدها دراسة الأسباب، ومعرفة أحداثها المتلاحقة، للتعامل مع كل جزء منها بدراية وحكمة، ووضع خطة شاملة للوقاية المستقبلية من تكرارها؟ لنتدارس عزيزي القارئ تعليقا لسمو الشيخ خليفة بن سلمان الخليفة، رئيس وزراء مملكة البحرين، بصحيفة أخبار الخليج، في الخامس من هذا الشهر يقول فيه: quot;إن القلق يساورنا من أن يلقي وضع الاقتصاد العالمي المضطرب بظلاله على أهداف الألفية الإنمائية، حيث أن تحقيق مثل هذه الأهداف سوف يواجه بصعوبات، بسبب الاختلال المالي في الأسواق الدولية وتباطؤ الاقتصاد العالمي... وعالمنا اليوم أمام تحديات كبيرة تنطوي على مخاطر عديدة تتعلق بالاستقرار المالي، مما سيؤثر على النمو المستدام للعلاقة الوثيقة بين استقرار الأسواق المالية ومستويات المعيشة... وأن هذه الإختلالات المالية، التي اتخذت أبعادا عالمية، وستظل لفترة مقبلة، كشفت عن أوجه ضعف خطيرة في الهيكل المالي الدولي، مما يتطلب إعادة توحيد السياسات المالية، وإصلاح هذا الهيكل لتأثيره وارتباطه بالتنمية على وجهه الخصوص.quot;(إنتهى) فقد شخص سموه تحديات هذه الأزمة وتأثيرها على أهداف الألفية الإنمائية، وما سترافقها من صعوبات. وتوقع سموه تباطؤ الاقتصاد العالمي، وتأثير ذلك على الاستقرار المالي الدولي. كما أكد سموه بأن هذه الأزمة ليست أزمة آنية بل ستظل لفترة مقبلة، وهي عرض كشف وراءه مرض في الهيكل المالي الدولي، وأقترح خطوات علاجية تتطلب إعادة توحيد السياسات المالية، وإصلاح الهيكل الأساسي للنظام المالي العالمي. والسؤال: ما هي أوجه الضعف الخطرة في الهيكل المالي الدولي؟ وكيف يمكن علاجها ومنع تكرارها؟
لقد ناقش اريك هوفيد أزمة الوول ستريت في مقال نشر بصحيفة اليابان تايمز في التاسع والعشرين منايلول من هذا العام وبعنوان، لماذا حركت واشنطن اليد المخفية؟ وقد حدد أسباب هذه الأزمة في العلاقة السامة بين المؤسسات المالية في وول ستريت ورجال السياسة في واشنطن. ولفهم هذه العلاقة نحتاج للرجوع لعام 1999، قبل بدأ التحضير التكنولوجي quot;واي تو كيهquot; للألفية الثالثة. حيث نشطت شركات الانترنت، وزادت أسعار أسهمها بشكل خيالي، وضخ البنك المركزي الفيدرالي أموال طائلة في السوق للوقاية من ذوبان أسعار أسهم الشركات التكنولوجية. وقد استغلت المؤسسات المالية هذه الفرصة، فحولت خمسمائة شركة لشركات عامة للمساهمين، لتجمع منها سبعة وسبعين مليار دولار، ولتربح نسبة 6% كرسوم لأتعابها. ولم تكتفي بذلك، بل استغلت الفرصة لضمان حقها في شراء الأسهم، وبأسعار بخسة قبل عرضها في السوق، ولتبيعها بعد ذلك في مضاربات السوق بإرباح خيالية. وتناست في خضم هذه الأرباح القوانين الخاصة بتحويل الشركات الخاصة لشركات مساهمه عامه، والتي من شروطها أن يكون عمر الشركة أكثر من خمس سنوات، قبل تحولها لشركة عامة مساهمة، وتكون ذا ربحية خلال ثلاث سنوات سابقة ورأسمال يحدده القانون. وقد أدى كل ذلك لتضخم فقاعة أسعار أسهم الشركات التكنولوجية، لتنفجر فجأة وتفلس، ولتصل خسارة سوق الانترنت لما يقارب الألف مليار دولار. وأستمر البنك الفيدرالي في ضخ الأموال في السوق، كما خفض الفائدة بنسبة 1%، فتحركت السوق من جديد، وارتفعت أسعار العقار خلال الفترة من عام 2002 وحتى عام 2006 بنسبة 16% سنويا. وأصبح من المستحيل على المواطن الأمريكي أن يشتري عقارا بالقرض المعهود، المحدد لمدة ثلاثين سنة، وبفائدة ثابتة، وبأن يدفع 20% من السعر مقدما. واستغل جشع الوول ستريت الفرصة لخلق فقاعة جديدة بالقروض الإسكانية. فأعطت المؤسسات المالية، وبتوجيهات من السلطة، قروض معقدة ومرتفعة الفائدة، للعديد من المواطنين ألمحدودي الدخل، لشراء عقار وبأسعار خيالية. وجمعت البنوك هذه القروض، وباعتها في رزم استثمارية على مختلف المؤسسات المالية الأمريكية والعالمية. وقد ربحت هذه المؤسسات الاستثمارية مئات من المليارات في الرسوم، وفوائد القروض. ولم يتساءل الول ستريت عن ما يجري، بل انشغل الجميع بجني الإرباح، لينتهي الوضع لخسارة العالم، خلال العامين الماضيين، لتريليونات من الدولارات، ولتؤدي لأشد أزمة منذ كساد عام 1929. وقد وافق الكونجرس على صرف السبع مائة مليار دولار، والمشكلة بأنه لا يمكن توقع نتائج هذه الخطوة التي ستزيد الديون الأمريكية الخارجية لأكثر من العشرة تريليون دولار، وستترافق بانخفاض سعر صرف الدولار.
ولنتفهم التطورات المستقبلية لأزمة الوول ستريت، لنتفحص معا عزيزي القارئ، تجربة معاناة اليابان، في بداية التسعينيات، بعد انفجار فقاعة الأسهم والعقارات، والتي أدت لخسارة مالية كبيرة، وإفلاس العديد من البنوك والشركات، وغلق المئات من المصانع، لترتفع نسب البطالة بشكل حاد، وليحتاج الاقتصاد الياباني خمسة عشر عاما لترد عافيته، وليكلف البلاد ثلاثة ألاف مليار دولار. فقد بدأت أسباب الأزمة المالية اليابانية في الثمانيات، وذلك بأضعاف القوانين الملزمة بتنظيم عمل المؤسسات المالية، وإرخاء مسئوليات الرقابة الحكومية، بحجة تحرير سوق التجارة من القيود. وقد قارن كنيشي اومي هذه الأزمة مع أزمة الوول ستريت في صحيفة اليابان تايمز في الثاني من اوكتوبر لهذا العام في مقالا بعنوان، كيف يمكن أن تكون خطة الإنقاذ المالية الأمريكية ناجحة. وقد حدد ثلاثة أساسيات للتعامل مع الأزمة من خلال دراسة التجربة اليابانية وهي البحث عن العلاج الشامل للفشل وليس حل حالات فردية، ومعرفة تتابع الإحداث لمعالجة المشاكل في وقتها، وبناء نظام عالمي للوقاية منها مستقبلا. وأقترح بأن أول ما تحتاجه الولايات المتحدة خطة طوارئ بمساعدة دولية، وذلك بتوفير خمسة تريليون دولار، لتوفير المال اللازم لتستطيع المؤسسات المضطربة تعديل أوضاعها بدون التخوف من الفشل المحطم والسيكولوجية المخيفة لسوق الأسهم. وبشرط ألا تطبع الولايات المتحدة أوراق نقود جديدة، والتي طبعت الكثير منها سابقا، والتي أدت لانخفاض سعر الدولار، وترافقت بسيكولوجية الخوف. والشرط الثاني هو أن تكون أموال الطوارئ كبيرة بحيث ألا يخاف أحد من انتهاء ينبوعها المستمر. وقد يكون الوقت مناسبا لتحريك صندوق النقد الدولي. وقد يحتاج لجمع مبلغ إضافي آخر يقارب العشرة تريليون دولار، لتغذية الينبوع النقدي المستمر. ولتغطى بمشاركة دولية تدفع الصين منها تريليون ونصف دولار واليابان تريليون، وتيوان مع روسيا نصف تريليون، ودول الخليج تريليونين، والاتحاد الأوربي تريليونين، كما تدفع الولايات المتحدة تريليونين، ليصبح الجميع عشرة تريليون دولار. ولن تخسر هذه الدول أموالها بل ستحمي أسواقها من خسارة محطمة، وقد تربح عليها نسبة فائدة تقارب 3% خلال ثلاثة لخمسة سنوات، بعد أن تصبح أوضاع البنوك المالية مستقرة، فترجع هذه الأموال لأصحابها مع الأرباح. ولتنفيذ ذلك تحتاج الإدارة الأمريكية لفلسفة جديدة لدبلوماسيتها بعيدة عن الحرب على الإرهاب، بل بالتعاون بتواضع مع دول العالم.
ومن خلال دراسة التجربة اليابانية، يمكن التوقع بأن تمر هذه الأزمة بثلاثة مراحل. تتميز المرحلة الأولى بجفاف الأموال وبعدم توفر القروض، وقد صرفت الحكومة الأمريكية حتى الآن ما يعادل 1.4 تريليون دولار. وتتعلق المرحلة الثانية بالتعامل مع الأصول السيئة، حيث أن الديون تزيد على الأموال المتوفرة، والمؤسسات المالية لا تستطيع توفير الأموال بسبب أسهمها المنخفضة، فتحتاج الحكومة أن تحقن في السوق دفعة جديدة من المال لتحيى البنوك لتعمل من جديد. وتستطيع الحكومة في هذه المرحلة أن تمتلك البنوك المحتاجة مؤقتا، حيث تبدأ خطورة هذه المرحلة بإفلاس البنوك الصغيرة، لتتبعها البنوك المتوسطة والكبيرة، حتى لا يبقى إلا القلة من البنوك العملاقة. وتتصف المرحلة الثالثة بإفلاس معظم الشركات الصناعية والتجارية، حيث لا تستطيع البنوك إقراضها بسهولة لإدارة أعمالها بسبب المراقبة الحكومية. وقد خسرت اليابان مئات من الشركات في هذه المرحلة. والسؤال: هل سنستفيد من تجربة انفجار الفقاعة اليابانية، للتعامل مع الأزمة المالية الجديدة والوقاية من تبعاتها الخطيرة؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان