لا أريد في هذا المقال أن أناقش المعارضين للاتفاقية العراقية الأمريكية، فالمفروض الاطلاع عليها قبل قبولها أو معارضتها، ولكني أود فقط تذكير من يرفض مطلقاً أي اتفاق مع الولايات المتحدة بشخصية نوري السعيد الذي كان واحداً من أبرز الساسة العراقيين اللذين وقفوا مع الشريف فيصل بعد تنصيبه ملكاً على العراق، عام 1921، وقد عدّه الكثير من العراقيين رجل البريطانيين في العراق بل اعتبره
نوري السعيد
بعضهم عدو الحركة الوطنية الأول ولذلك دعت بيانات الضباط الأحرار (بعد انتصار حركة 14 تموز 1958) الجماهير إلى القبض على (quot;عدو الشعبquot; نوري السعيد) وقد قبض عليه فعلاً وتم قتله من قبل الغوغائية بصورة بشعة يندى لها الجبين. وقد استنكر الكثيرون ذلك في حينه ولكنهم شكلوا ما يسمى بالأغلبية الصامتة حيث سيطرت الغوغائية بشعاراتها الملتهبة على الشارع العراقي واعتبرت من يرفض أفعالها الشنيعة خائناً وعميلاً، الخ. أما سبب ذكر هذا الرجل السياسي المحنك والمحب (على طريقته) للعراق وأحد البناة الأساسيين لدولة العراق الحديثة، بعد الملك فيصل الأول، فهو للتذكير بأن الجميع، سواء من كان ضده أو معه، اتفقوا على الترحم عليه بعد سنوات وعلى كل حال بعد أقل من ربع قرن من قتله بتلك الطريقة الغوغائية البشعة. وتفسير ذلك واضح وألخصه كما يلي: بعد عراق المؤسسات المستقلة في ظاهرها والخاضعة في حقيقتها للسيطرة البريطانية، أصبحنا تحت السيطرة الفردية أو الجماعية للعسكر، وبعد الانتخابات التي شابها التزوير في كثير من الأحيان، أصبحنا بلا انتخابات ولا هم يحزنون، وبعد دولة القانون الضعيفة، خضعنا لدولة التسلط الفردي ثم الفاشي ثم العبثي، وبعد الصحافة الحرة المخنوقة لم تعد هناك إلا الصحافة الرسمية، وبعد التأثير الواضح على القضاء أصبح القضاء لعبة بيد الحكام وكذا القوانين طالما أنها أصبحت مجرد قرارات يُصدرها ويُلغيها الحاكم بأمره. وفوق كل ذلك، بعد أن كان العراق كوطن قد ترعرع في جوانحنا تدريجياً ضاع الوطن وغلبت الانتماءات الجزئية العرقية والطائفية والحزبية، لذلك أقول اليوم لكل من يتحرق لمصير العراق وشعبه ويريد بناء نظام ديمقراطي جديد أن لا مناط من التسلح بالنظرة النسبية للتطور السياسي لأي بلد، إذ لا يمكن خروج العراق من نظام استهتر بكل القيم وخرب المجتمع إلى نظام مثالي وكأنه يتحقق بقدرة سماوية، بل ينبغي الحفاظ على المكاسب والعمل على تطويرها شيئاً فشيئاً.
وبالتالي فإذا كان من الطبيعي أن تثير الاتفاقية العراقية الأمريكية النقاش المستفيض بين الأطراف العراقية المختلفة فإن الواضح أن غالبية هذه الأطراف تؤمن بأهمية هذه الاتفاقية بالنسبة للعراق سواء للخروج من الفصل السابع (من ميثاق الأمم المتحدة) أو لحمايته من أطماع الدول المجاورة أو لضرورات استتباب الأمن الداخلي لفترة من الزمن لحين تقوية مكانة القوات المسلحة الوطنية وتكريس المؤسسات السياسية والاجتماعية في إطار دولة قانون حقيقية، ولحين القبول الفعلي بحكم صناديق الانتخابات لا في جو انعدام الثقة والترصد بالآخرين. ولذلك فمن المؤسف أنه رغم تقدم المفاوضين العراقيين حول الاتفاقية في اتجاه حفظ السيادة وتعزيز المصالح، نرى سيل التصريحات والتظاهرات المعادية للاتفاقية مستمرة. وأعتقد أن المزايدات السياسية تقف خلف الكثير من هذه المواقف، إذ يُسوق رفض الاتفاقية كمعيار quot;للوطنيةquot; بينما يُتهم من يقف معها بالعمالة، ثم هناك ممن يرتبط بدول الجوار التي لا تريد الخير ولا الاستقرار للعراق. أما الأسباب الأيديولوجية فتلعب دورها أيضاً، فالخطاب المتطرف، قومجياً كان أم اسلاموياً، لا يمكن أن يقبل بالاتفاقية لأنها تخالف أسس الأيديولوجية التي يقف عليها فالولايات المتحدة (امبريالية معادية أو شيطان أكبر) لا يمكن اعتبارها صديقاً للعراق، بينما تقف غالبية العراقيين في طابور الانتظار للدخول في عصر البناء الجاد في ظل الاستقرار لتحقيق العمران والازدهار بعد عقود من الحروب والدمار.
وفيما يتعلق بالخطاب الاسلاموي، يبدو غريباً للبعض أن إيران، دولة ولاية الفقيه، تقف مع الموقف الرافض بينما تقف مراجع النجف مبدئياً مع الاتفاقية حيث اشترطت (وحسب) مرورها بالمؤسسات (بتصديقها من قبل البرلمان) وأن لا تمسّ حقوق العراقيين. وقد سجل التاريخ المدون والمُتناقل عبر الأجيال شموخ هذه المراجع بشكل عام إزاء تدخل الحكومات الأجنبية وبالذات من جهة إيران (منذ الصفويين وحتى ولاية الفقيه مروراً بمحاولات الشاه البهلوي). وهذا ما لم يفهمه البعض ممن يريد حشر الشيعة (ومنهم شيعة العراق) في المربع الإيراني الحكومي فبالإضافة الى خدمة هؤلاء للحكومة الايرانية بجهالتهم (يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه) فان طرحهم هذا يتعارض مع الواقع التاريخي والوضع الحالي تماماً. وهذه المرجعية معروفة أيضاً بمواقفها الوطنية أثناء الحرب العظمى وثورة العشرين مثلاً ووقوفها مع مصالح العراقيين ووحدتهم (كمعارضتها الحرب على الأكراد وتحريمها الانتقام الجماعي من القرى القريبة من مواقع الاعتداءات الارهابية في الفترة المنصرمة) وباستقلاليتها بشكل عام عن السلطة ومصالح الأحزاب السياسية المختلفة. وقد شكلت هذه المواقف الحد الفاصل بين مرجعية النجف كقيادة دينية مُتجذرة في أرض العراق والقيادات التي تحمل طابع المرجعية الدينية المُتسيسَـة والمتمردة (على المرجعية التقليدية) والتي تبرز بين الحين والآخر، ربما كظاهرة مشروعة بسبب تعبيرها عن سخط شعبي وحالة اجتماعية معينة جديرة بالاهتمام، ولكنها تبقى مؤقتة وعابرة مقارنة بالطابع التاريخي لمدرسة النجف العريقة التي أضحت بالفعل واحدة من الرموز الوطنية الأساسية في العراق.
[email protected]