(2/2)
منذ شهور وموضوع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة تشكل الموضوع الأول في الساحة العراقية، وقد جرت حولها عشرات التصريحات الرسمية، ونشرت عشرات المقالات والتعليقات، عراقية وعربية وغربية.
لقد استمرت المفاوضات التي قادها السيد المالكي شخصيا طوال شهور، حتى نشر منذ أيام نص نهائي لما تم التوصل إليه بين الطرفين، ولكن سرعان ما عاد الإتلاف للتراجع مطالبا بتعديلات جديدة، وحدث الموقف الجديد مباشرة بعد مع مظاهرات مقتدى الصدر ضد الاتفاقية منذ أيام، والتي جرت بأوامر إيرانية.
1 ndash; مبررات عقد الاتفاقية:
قال السيد المالكي في 14 أكتوبر الجاري إن من شأن التوقيع على الاتفاقية إطلاق الأموال العراقية، وإخراج العراق من البند السابع، الذي يجعل العراق تحت إشراف الأمم المتحدة، وما يعنيه ذلك من ثلم للسيادة الوطنية الكاملة.
المبررات عندنا هي أكثر من ذلك، وأخطر مما قاله السيد رئيس الوزراء. إن العراق لا يزال في وضع أمني مضطرب جدا، والتدخل الإيراني يزداد استفحالا، ولا تزال للقاعدة بؤر داخل العراق برغم ما تلقته من ضربات كبيرة على أيدي القوات الأمريكية والعراقية. أما التوازنات السياسية الداخلية فمضطربة هي الأخرى، والصراعات بين المليشيات وأحزابها على النفوذ مستمرة، والحكومة المركزية لا تتمتع بما يجب أن تتمتع به من صلاحيات بسبب انتفاخ صلاحيات المحافظات وفقا للدستور الأعرج والشاذ، الذي ينص على النظام الفيدرالي، ولكن الواقع هو نظام فيدرالي من طراز جديد لا يمت بصلة للفيدراليات الديمقراطية القائمة، من حصر الموارد الطبيعية في يد الحكومة المركزية، وحصر عقد الاتفاقيات مع الدول الأخرى من صلاحيتها وحدها، وحيث تكون السياسة الخارجية والدفاع، من صلاحيات المركز وحده، كما يجري سواء في الهند، أو سويسرا، أو ألمانيا، أو الولايات المتحدة، وغيرها. أما القوات العراقية فلا تزال غير جاهزة فعلا لتولي المسئوليات الأمنية لوحدها، وهي مخترقة تماما من عناصر المليشيات الحزبية وتأخذ أوامرها من أحزابها، ولا يمتلك العراق جيشا قويا لحماية حدوده، فضلا عن طبيعة الحكومة القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية، التي تحد من دور فاعل للحكومة المركزية.
لقد هلل الشارع العراقي لسقوط صدام، وتعاملت معظم القوى الوطنية مع الوضع الجديد بمرونة، ولكن بعضها كان يضمر غير ما يعلن. الأحزاب الحاكمة لم يكن لها ان تستلم السلطة لولا حرب الولايات المتحدة على النظام السابق، ومن المؤسف أن الأمريكان وقعوا في سلسلة من الأخطاء الجسيمة بعد صدام، مما له دور ما في الوضع السياسي الراهن. الأمريكان لم يأتوا العراق حبا بعيون العراقيين، ولكن دفاعا عن مصالح أمنهم القومية، وهنا التقت المصلحتان، العراقية والأمريكية، فكان التعامل المرن مع الحالة مطلوبا كما تقتضي سياسة الأمر الواقع [Realpolitik]، وهي تعني اتخاذ الموقف الممكن المناسب في الظرف الملموس المعين. لا يوجد وطني عراقي يريد بقاء أي جندي أجنبي على أراضيه، والأمريكان من جانبهم يعلمون أنهم لا يستطيعون إبقاء قواتهم في العراق إلى الأبد، فلا إستراتيجيتهم العسكرية تقضي بذلك، ولا الوضع الأمريكي الداخلي.
يقول أمير طاهري في مقال له منذ أسابيع في هذا الصدد:
1 - إن الفكر الدفاعي الأمريكي منذ سنوات quot; قد تحرك بعيدا عن التحالفات طويلة الأمد نحو quot; تحالف الدول الراغبةquot;، وهو عبارة عن ترتيبات يجري اتخاذها مع الدول الأجنبية في مواقف معينة وعلى أساس التعامل مع كل حالة على حدة، وفي الوقت الحاضر، ترتبط واشنطن بتحالفات رسمية مع 26 دولة، علاوة على ترتيبات خاصة مع ما يزيد على 120 دولة، ومن إجمالي دول الأمم المتحدة، البالغ عددها 193، هناك 131 دولة منها، هي إما حليفة رسمية لواشنطن، أو مرتبطة معها باتفاق عسكري.
2 ndash; في عام2004 كان عدد القواعد الأمريكية من جميع الأنماط في العراق حوالي 200 قاعدة، وبعد عام نزل إلى 105، وتلى ذلك تسليم أكثر من 28 قاعدة للقوات العراقية، ومعظمها من قصور صدام.
بناء على ما مر، ونظرا لكثرة الأخطار على العراق الداخلية والخارجية، ونظرا لأن الولايات المتحدة صارت صديقة لا عدوة، رغم أن هذه الحقيقة تغيظ الكثيرين من أعداء استقرار العراق، علما بأن الصداقات، والخصومات بين الدول تبدل المواقع بحسب تغير الأوضاع؛ نقول بناء على ما مر فنحن ممن يعتقدون بالحاجة الماسة لوجود عسكري أمريكي للفترة القادمة، والوضع الميداني، ومدى انحسار، أو تصاعد الأخطار، يجب أن يقرر كم من السنوات يجب أن يظل هذا الوجود، ولكن بشروط، وبلا أي انتهاك للسيادة العراقية.
إن الوجود العسكري الأمريكي ضمان قوي لحماية وحدة الأراضي العراقية، ووقف التدخل الإيراني عند حده، وهي قوة ضرب قواعد القاعدة، وفلول صدام. إنه الضمان مرحليا لعدم تفكك العراق إلى دويلات طوائف تتصارع بالسلاح، والصراعات الحادة جارية اليوم فعلا، فكيف ستكون الحال بعد الانسحاب الأمريكي؟!.
لقد كتبنا بتاريخ 20 حزيران المنصرم:
quot; على القيادات الحاكمة أن تدرك بدرجة أكبر مدى التحديات التي تواجهنا اليوم، ولأمد غير قصير، وأن تتصرف بوعي، وجرأة سياسية على هذا الأساس، غير مبالية بصراخ إيران، وضغوطها وابتزازها، ولا بالمزايدين من كل الأشكال، عربية كانت، أو عراقية!quot;
هذا ما كتبناه قبل أسابيع من نشر المسودة النهائية للاتفاق، والتي جاءت بالحد الأدنى مما يتطلبه الوضع، كما يضمن تماما السيادة العراقية، علما بأن القرار النهائي هو في نهاية المطاف في أيدي الحكومة العراقية، وبرلمانها الفريد العتيد، مدمن الحج المبرور!!
المزايدون، والمعادون لاستقرار العراق، ينسون أن الشعب العراقي لم يدع قوات أجنبية لبلاده، بل إن نظام صدام هو المسئول الحقيقي عن دخول القوات الأجنبية، كما أن التدخل الإقليمي، والإيراني بالذات، وجرائم أدواتها المحلية، لاسيما جيش المهدي الإرهابي، وكذلك القاعدة، وعمل هذه الأوساط كلها باستمرار على تدمير الأمن العراقي؛ كل هذا، هو الذي جعل الحاجة ماسة للقوات الأمريكية لتبقى لحد اليوم، كضمان لصيانة أمن المواطنين، وهذا ما أوضحه عدد من كتابنا، وخصوصا مقال الأستاذ عدنان حسين بتاريخ 12 أكتوبر الجاري.
نعم، نشرت المسودة النهائية مؤخرا، غير أن ما يظهر هو أن الاتفاقية لن توقع؛ وكيف توقَع وقادة الحرس الثوري الإيراني أعلنوا بأن التوقيع عليها هو quot;عار تاريخيquot; على العراق؟!
2 ndash; المواقف المتباينة من الاتفاقية:
يمكن تصنيف المواقف من الاتفاقية كالتالي حسب ما نراه:
أ ndash; القوى المعادية أصلا لمثل هذه الاتفاقية، وفي المقدمة إيران، وأدواتها في العراق، وحليفها السوري، وفلول البعث، والقوميون المهووسون، الذين لا يزالون يحنون لعهد صدام، كهيئة علماء الدين، وأمثال السيد المطلك، يضاف لهم فريق من الوطنيين المتطرفين عقائديا، وسياسيا، والذين يتصرفون بعقلية أيام الحرب الباردة.
إيران هي قائدة حملة quot;الرفضquot;، وبعد تصريحات سابقة، يعود أحمدي نجاد، ووزير الخارجية الإيراني، ورئيس مجلس الشورى، من الهجوم الشديد على الاتفاقية، وتحذير الموقعين عليها بأن quot;التاريخ لن يغفر لهم.quot; جرى هذا أمام السيد إبراهيم الجعفري خلال لقاءاته مع هؤلاء المسئولين، وقد ذهب إليهم ناطقا بلسان أعداء الاتفاقية، ومتباهيا بمظاهرة مقتدى الصدر. هل غرض الجفري يا ترى هو العمل للعودة لمنصب رئيس وزراء بمباركة وجهد إيرانيين؟؟
على الجعفري، وكل الآخرين من الموالين لإيران، أن القوات الأمريكية هي التي أسقطت صدام، كما أن الولايات المتحدة، وهذا ما يذكرنا به عبد الرحمن الراشد، هي التي سمحت للأحزاب الشيعية بالحكم، وقضت على سياسات صدام الطائفية.
ب ndash; تيار عريض غير متجانس من أحزاب، وتنظيمات، وبرلمانيين، وشخصيات سياسية، يتصف بالتذبذب السياسي، فهي باطنيا تؤمن بضرورة الاتفاقية مرحليا، ولكنها تقدم رجلا بعد أخرى، خوفا من اتهامات بلطجية إيران، والمزايدين من الذين يحنون للنظام المنهار.
ج ndash; أنصار الاتفاقية المتحمسون، وفي المقدمة القيادات الكردستانية، والساسة الذين يستوعبون مقتضيات الوضع، وموازين القوى، وما يجب عمله لحماية أمن العراق، والعراقيين، وما أحرز من مكاسب منذ خمس سنوات، وهنا لابد من وقفة جديدة عند مواقف القيادات الكردستانية، فمع أن موضوع الاتفاقية موضوع مصيري للعراق، ولكردستان بالذات، وكان على هذه القيادات العمل النشيط لترجيح كفة المؤيدين، فإنها انهمكت بالصراعات حول كركوك، وخانقين، والدخول في خلافات مع الحكومة المركزية حول عقود النفط. على هذه القيادات أن تزداد وعيا بأن أي انسحاب أمريكي مبكر سيلحق أفدح الأخطار، وأسوأ العواقب بالعراق، وبالأخص بمكاسب إقليم كردستان.
أما السيد المالكي فله وضع خاص، فهو قد أعلن ضرورة الاتفاقية، ولكنه ظل ينتقل من موقف لآخر منذ زيارته لطهران، وصار يرفع باستمرار سقف المطالب العراقية. إنه خاضع لعشرات الضغوط، ولكنه كان عليه أن يصارح الشعب بوضوح وجرأة، مبينا علنا مبررات عقد الاتفاقية، وكيف يواجه العراقيل، ومن أية جهات.
لقد كتبنا مرارا بأن تكتيك المفاوض العراقي يهدف إلى تأجيل التوقيع لما بعد الانتخابات الأمريكية، وحتى بعد ذلك، فسوف تواصل إيران ضغوطها المتعددة الأشكال على الحكومة وأحزاب الائتلاف، التي لا يمكن لبعضها مخالفة الموقف الإيراني، في حين أن الصدر ومجموعته هم أدوات إيرانية مسخرة.
لقد حذر مسئول أمريكي في العراق حكومته من أن استمرار تصعيد المطالب العراقية لحد التعجيز قد يؤدي لحصر القوات الأمريكية في قواعدها وشلها، حتى أنه لا يمكن لها المشاركة في أية عملية قتالية، إذن، فلماذا تبقى يا ترى؟!
أخيرا نعرف أن موضوع الاتفاقية حساس جدا، ومتشعب الجوانب، ومليء بالهواجس، والحساسيات، ولكن السياسي العراقي الموضوعي، والمثقف العراقي الواعي لمصلحة شعبه، يجب أن يعلنوا آراءهم بصراحة، ووضوح، غير مبالين بصراخ المزايدين، وضجيج المكابرين، واتهامات أعداء استقرار العراق، ووحدته.