مفكر في مواجهة محاكم التفتيش

في مواجهة اضطهاد رهيب، قد يضطر الإنسان في النهاية، أن يعلن جنونه على الملأ؛ كي ينجو بجلده من المحرقة؟
وهو ما فعله الراهب الدومينيكاني (توماسو كامبانيلا) في مطلع القرن السابع عشر، بعد محرقة (جيوردانو برونو) الذي خضع أي برونو لتحقيق جهنمي لمدة ثماني سنوات، وافتتح القرن السابع عشر بحرقه حياً، على النار ذات الوقود، مثل أي فروج مشوي. والكلمات التي تجرأ على نطقها (كامبانيلا) كانت أثرا من موجة الإصلاح الديني، التي اجتاحت الشمال الأوربي، بعد أن أطلق (مارتن لوثر) حركة المعارضة (البروتستانت) على صورة خمسة وتسعين سؤالاً، علقها على جدار كنيسة (فيتنبرج Wittenberg)، يسأل فيها كيف يمكن لمجرم ارتكب كل الذنوب، أن يدخل جنة نعيم؛ بتذاكر اشتراها من مال حرام، ونبت لحمه في الحرام؟؟
والخطيئة القاتلة التي وقع فيها (كامبانيلا) حين لم يقدر العواقب جيدا، وهو يتعرض لديناصور لاحم اسمه الكنيسة، ومخالبه من محاكم التفتيش؟!
قال الرجل يعلق على معتقدات الكنيسة: ' إن الكنيسة روجت لمثل هذه الخرافات كي تتحكم بالناس وتجعلهم خائفين'؟؟
وبالطبع فإن جملة من هذا الحجم، في وجه خصم شرس مسلح حتى الأسنان، بكل الإمكانيات، بما فيها ادعاء أن الله يمر من خلاله، على لسان المعصوم (البابا)، وهي المسألة التي كلفت التيولوجي السويسري (هانس كينج) خسارة مقعده في التدريس، بعد مرور 400 سنة على واقعة كامبانيلا، تعيس الحظ، حينما طرح الأخير، مسألة عصمة البابا في الميزان، بعنوان صاخب من كلمة واحدة (العصمة؟؟ Unfehlbarkeit). وهو نفس الرجل الذي كتب عن الخطايا التسع عن البابا الراحل، مع أنه كان قمة الإصلاحيين، في جهاز غير قابل للإصلاح، في ضوء عصمة بشر يخطئون، وحكم لمدى الحياة، كما هو الحال في زعامات الأنظمة الثورية الخايبة. وينقل عن السير (والتر رالي) من القرن السادس عشر (1554 ـ 1618م) قوله: ' ينبغي على الرجال العقلاء أن يكونوا خزانة ذات قعرين، لا تسمح من النظرة الأولى سوى رؤية سطحها الفوقي'.
وهو نفس ما حصل في تراثنا حينما قدم الفيلسوف (ابن طفيل) المجتهد (ابن رشد) إلى الملكي الموحدي، فبدأ في سؤاله، وكانت أجوبة ابن رشد متحفظة، تنحو منحى الفقهاء التقليدين الغارقين في كومة النصوص، فأدرك الملك الفطن حقيقة خوف الرجل، فأمنه، فتدفقت الحكمة من قلب الرجل على لسانه، بعد أن زالت عقدة الخوف من لسانه.
ولكن الفقهاء لم يتركوه؛ حتى أنهوا حياته بالفتنة الكبرى، فمات ـ وبأمر من الملك تحت ضغط الفقهاء ـ شيخا كسيرا محطما منبوذا منفيا في قرية (الليسانة) اليهودية إمعانا وتشفيا من الرجل، في جو مريض عقليا، مشحون بالروح العنصرية.
وصديقنا الراهب (كامبانيلا) حصل معه أفظع؛ فقد ألقي القبض عليه بتهمة الهرطقة والإلحاد؛ فنزل في أقبية مخابرات الفاتيكان، حيث محاكم التفتيش الجهنمية، في عام 1593م، ثم أطلق سراحه بعد ست سنوات عام 1599م.
وكانت جنوب إيطاليا خاضعة للحكم الأسباني يومها، ومعها جبروت الكثلكة، فأوحى إليه عقله أن يقاوم الغزاة، وينشيء جمهورية مثالية، فأخطأ للمرة الثانية بأشد من الأولى، وهكذا فبعد أن كان يواجه غولا واحدا، أصبح في مواجهة غولين؟!
تم إلقاء القبض على كامبانيلا من جديد، وحكم بالسجن المؤبد، وأخضع للتعذيب هذه المرة بآلة جهنمية اسمها (لا فيجليا La Veglia)، ما يذكر تعذيب (ماهر عرار) السوري الكندي الجنسية في أقبية المخابرات الثورية، ولكن بفارق أربعة قرون؟ فبعد أن وشت به المخابرات الكندية أمسكت به الأمريكية ولكنها تركت امتياز تعذيبه لبني قومه؟! ليرجع ويقاضي الأربعة وتعتذر له الحكومة الكندية وتعطيه 12 مليون دولار تعويضا..
كان المتهم كما هو مع كامبانيلا يخضع لتعليق ذراعيه، وهو في وضع القرفصاء، على بعد إنشات من كرسي، تبرز منه مسامير حادة، غليظة جاهزة لشق اللحم شقا، فليس أمام التعيس إلا أحد اثنين: أن ينغرز في خازوق الأنصال، أو تنخلع أكتافه من فوق؟.. وكان عرار كما جاء في مذكراته يهدد دوما بكرسي حديدي من هذا الصنف.
وهنا أدرك (كامبانيلا) أن عليه إن أراد أن يبقى على قيد الحياة أن يمارس استراتيجية جديدة، وهكذا فقد بدأ يتظاهر بالهلوسة والجنون، فأخضعته الكنيسة لمزيد من التعذيب؛ كي تتأكد أنه (مجنون حقاً) كذا؟؟ وبقي أربع سنوات مصلوبا واقفا إلى جدار، فصمد لجهنم تحقيق الكنيسة، حتى اعتقدت في النهاية بأنه فاقد العقل تماما. بعدها بفترة سنوات كتب كتابه الأول في مدح (الملكية الأسبانية)، وأن ما فعلته من ذبح الناس وحرقهم على نار هادئة، ونهب أمريكا، كان عين العقل، وقمة التقوى، فصدقت الكنيسة أنه فعلا ولد صالح للكثلكة؟!
ثم ضرب كامبانيلا ضربته الأخيرة؛ فأخرج كتابا مثيرا بعنوان (هزيمة الإلحاد) وعرضه على شكل سؤال وجواب، وهو ما يذكر بكتاب (قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن) لنديم الجسر بين حيران وأستاذه، مع الفارق.
وكان يعرض حجج اللوثرين والمارقين بقوة ووضوح، ثم يأت برد الكنيسة على شكل ممل تقليدي عويص، فاحتارت الكنيسة في أمره، فهو يعرض آراءها مقابل الشبهات، ثم اقتنعت أن الرجل كاثوليكي صالح، وأنه فعل جهده في اعتناق المذهب الصحيح والذود عنه، وهكذا أطلقت سراحه بعد 23 سنة من حبسه الطويل، وتلقف الناس كتاب الرجل فلم يكن هزيمة للإلحاد، بل كان نبعاً الإلحاد، وهكذا أصبح أنجيلا في يد كل من ينافس ويعارض الكنيسة ويريد النيل منها، بسبب قوة الحجج المعروضة على لسان خصوم البابا والكنيسة.
وهذا يجعلنا نفهم أن معركة الكنيسة مع العلماء فتحت الباب لكل ألوان الإلحاد، جملة وتفصيلا، وضد أي دين، وبذلك نشأت الحضارة الغربية الحالية، وهي ممزوجة بروح إلحادية صريحة؛ فأعلن (نيتشه) موت الرب، وأعلن (سبينوزا) أن الله والطبيعة واحد، وأن الإيمان بالمعجزات كفر، وأعلن (ماركس) أن الدين أفيون الشعوب، وختمها (ميشيل فوكو) بموت الإنسان؛ فلم يبق وينجو أحد، وكل ذلك من حماقة الكنيسة وتعصبها العقيم الذميم..