غني عن القول أن الاستقرار مرتبط بالاقتصاد. فالاقتصاد القوي والمتماسك يمنحك استقراراً سياسياً، والعكس صحيح. وفي ظل ما يعانيه العالم اليوم من مشاكل اقتصادية حقيقية، لم يظهر منها على السطح إلا رأس جبل الجليد، أما ما هو مغمور تحت الماء فيُشكل في تقدير كثير من المراقبين الجزء الأكبر من المشكلة. والمملكة جزء من العالم، بقدر ما تؤثر فيه تتأثر بما يكتنفه من مشاكل وأزمات.
تمتلك المملكة من الوسائل والأدوات ما يجعلها بالفعل قادرة على أن تكون أقل الدول تضرراً بالأزمة المالية، التي تعصف بالعالم من أدناه إلى أقصاه. وذلك عائد إلى عاملين رئيسيين: أولهما أن المملكة لديها من الاحتياطيات النقدية، والاستثمارات المالية، ما يؤهلها على التعامل الآمن مع انعكاسات هذه الأزمة. العامل الثاني: أن البنوك وأكثر الشركات تعتمد في معظم تعاملاتها على السوق المحلية، وبذلك يكون ارتباطها الخارجي محدوداً وتحت السيطرة.
كما أن للمملكة تاريخاً متميزاً في التعامل مع فترات الانكماش الاقتصادي. فعندما انخفضت أسعار النفط عام 1998 م إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل، وتقلصت المداخيل النفطية إلى مستويات متدنية، استطاعت المملكة أن تمر بهذه الفترة المحرجة بنجاح، حتى عادت أسعار النفط وانتعشت من جديد. هذه التجربة المريرة كانت نصب عيني صانع القرار في المملكة، وقد جعلته حذراً، سواء في التوسع في الإنفاق رغم الضغوط التي كانت تطالب بالتوسع في الإنفاق، أو تلك الآراء الأخرى التي كانت تدعو إلى الاستثمار في مجالات عالية المخاطر، بحجة أنها مرتفعة المردود، وهذا الحذر هو اليوم ما نستعين به على مواجهة هذه الأزمة التي تمر بالاقتصاد العالمي.
من المهم القول أن أحد تجليات هذه الأزمة العالمية الحالية صعوبة تقدير مداها الزمني، وحدود اتساعها، فهناك من يرى أنها قد تمتد إلى أكثر من عشر سنوات حتى يتماهى الاقتصاد العالمي مع متطلبات الإصلاح، ويعود إلى النمو من جديد. وهناك من يؤكد أن العالم قادر على تطويق الأزمة، وأن المسألة لا تحتاج إلى أكثر من شهور، ليعود الاقتصاد العالمي إلى عافيته. ومهما يكن الأمر، فإننا في حاجة ماسة إلى التهيؤ لهذه الأزمة، والاستعداد لمآلاتها، وحصر انعكاساتها السلبية على اقتصادنا بأقل قدر من الخسائر. كما أن من تداعيات هذه الأزمة ما يعانيه العالم اليوم من شُح في السيولة، لذلك فإن وجود إستراتيجية واضحة ومعلنة من أجل توفير وإدارة السيولة لتلبية احتياجات الطلب المحلي هو من أساسيات مواجهة هذه الأزمة.
و البنوك كما هو معروف هي الآلية التي من خلالها يتم التحكم في السيولة، سواء من حيث الكم أو الكيف؛ لذلك فإن سلامتها، وقوتها، واستثماراتها في الخارج، وجودة المقترضين، هي المعني الأول في هذا الشأن. غير أننا لو ألقينا نظرة على إعلانات البنوك بعد تداعيات الأزمة العالمية، لوجدنا أن اللغة التي اعتمدتها هذه البنوك في إفصاحها عن استثماراتها كانت لغة احتمالية، تحتمل التفسير على أكثر من وجه، وهذا ما يتنافى مع أهمية الشفافية التي كتبتُ عنها في مقالٍ سابق. أن تعطي معلومات ضبابية فربما أنك تؤجل مواجهة بعض المشاكل، لتتحول القضية إلى كرة ثلج، تتضخم مع مرور الوقت. وغني عن القول أن مواجهة المشكلة في بداياتها يعني أن انعكاسات حلها، مهما كانت، ستكون اليوم أفضل بكثير من انعكاسات حلها في الغد، بعد أن تكبر وتتضخم. لذلك، يجب على مؤسسة النقد أن تقوم بدورها في مراقبة البنوك بحزم ودون أي مجاملات، والكشف عن أي خلل موجود وإعلانه وتحديد حجم المشاكل. لتستطيع إيجاد وتطبيق الحلول المناسبة في الوقت المناسب.
وفي الختام أود أن أشير إلى أن المملكة، حسب ما تقوله كل المؤشرات التي أمامنا، ستكون من أقل الدول تأثراً بهذه الأزمة، غير أن ذلك يجب أن لا نتكل عليه، بل يجب أن نبذل كل ما في وسعنا لمحاصرة ذيولها وتبعاتها وانعكاساتها في أضيق نطاق، فالمملكة غنية بالمتخصصين في المجالات المالية والنقدية، ولديها من أصحاب الخبرة في هذه المجالات ما يجعل من المفيد والضروري تشكيل لجنة استشارية عليا للتعامل مع هذه الأزمة من أصحاب الخبرة والتخصص، سواء من الذين يضطلعون بالتعامل حالياً مع هذه الأزمة، أو من أصحاب الخبرات من الذين سبق وعملوا في هذه المجالات، إضافة إلى بعض الأكاديميين الذين هم على اطلاع واسع في مثل هذه الشؤون، ولهم آراء ستثري بالتأكيد صانع القرار قي كيفية التعامل مع هذه الأزمة.