-1-
كان الدكتور محمد المشّاط، من أبرز سفراء العراق في عهد صدّام، في الثمانينات. وكان ناشطاً بعثياً مرموقاً. ولكن المشّاط كان دبلوماسياً صاحب ضمير يقظ، وثقافة واسعة، وعقل كبير، وشخصية حرة. ومن هنا، لم يتوانَ عن الاستقالة من منصبه في عهد صدّام، وبعد غزو الكويت، احتجاجاً على هذا العمل العدواني الغاشم. وهو من القلائل، بل من الندرة النادرة من الدبلوماسيين، الذين تحدوا صدّام، وجبروته، واستقالوا احتجاجاً على سياسة صدّام الداخلية، والخارجية.
ويعتبر المشّاط بذلك، من السياسيين العراقيين الشجعان الذين قالوا لصدّام: لا، في وجهه، وفي زمن عزِّ جبروت قوته، وتحديه للعالم.

-2-
والدكتور المشّاط، هو الدبلوماسي العراقي الوحيد ndash; في ظني ndash; الذي كتب جزءاً من مذكراته عندما كان سفيراً للعراق في واشنطن، أهم عاصمة عالمية، حيث صناعة قرار العالم. وهي مذكرات مهمة للغاية، درج الدبلوماسيون الغربيون على كتابتها، ولكن معظم الدبلوماسيين العرب ndash; للأسف الشديد ndash; يحجمون عن كتابة مذكراتهم، بعد خروجهم من الوظيفة، وتقاعدهم، أو طردهم. والسبب في ذلك يعود إما إلى جهل هؤلاء الدبلوماسيين وقلة معرفتهم في كتابة المذكرات، وإما إلى جبنهم وخوفهم من ملاحقة العهد الذي كانوا يمثلونه دبلوماسياً في الخارج، وإما إلى غياب الوعي السياسي لديهم، وإما إلى تفاهة المناصب الدبلوماسية التي كانوا يشغلونها.

-3-
والدكتور المشّاط كان عكس هؤلاء جميعاً. فهو المثقف والمتعلم، الحائز على الدكتوراه من أرقى الجامعات الأمريكية في كاليفورنيا. وهو الناشط الحزبي، الذي يعي تماماً كواليس وأسرار الحزب وسلوكياته المختلفة، وهو الدبلوماسي الشجاع، الذي رمى قفازاته الدبلوماسية في وجه صدّام عام 1991، لا احتجاجاً على راتب أو رتبة، ولا طمعاً في مال أو جاه، ولا سعياً وراء شهرة ونجومية، وهو الذي اعتلى أهم سفارة للعراق في واشنطن. ومن هذا كله تأتي أهمية مذكراته التي لم يكتبها إلا بعد إلحاح صديقه وصديقنا سيّار الجميل الذي كتب مقدمة جميلة وشاملة لهذه المذكرات.

-4-
أهم ما في مذكرات محمد المشّاط، حصرها في جانب واحد من جوانب طغيان صدّام حسين، وهو غزوه الغاشم للكويت. ومن هنا كان العنوان التفصيلي لهذه المذكرات quot;حكايتي مع صدّام في غزو الكويتquot;. ولكن المشّاط لا يهمل سلوكيات حكم الطاغية، قبل هذا الغزو، وبعده. بل هو يشدد عليها، ويركّز على شخصية صدّام العدوانية المريضة، منذ أن تسلّم الحكم الفعلي في 1979، بعد إزاحة أحمد حسن البكر.

-5-
إن ما دفعني لقراء هذه المذكرات بعناية وتأمل، هو محاولة المشّاط، إثبات أن صدّام كان عميلاً إسرائيلياً ndash; أمريكياً، ولم تكن في صدّام أية نزعة وطنية وقومية عروبية. في الوقت الذي وقف بعض الشعراء العرب المرتزقة، يذرفون الدمع الساخن الغزير على تمثال الطاغية الساقط في ساحة الفردوس، صباح التاسع من نيسان المجيد 2003، وكان هؤلاء الشعراء المرتزقة، ينشدون نائحين لاطمين باكين، على لسان أحدهم من سدنة الهيكل الصدّامي المنهار:

في التاسع من نيسانَ.. نزفتُ.. بكيّتُ..حملتُ رفاتي
دوّنتُ على أبواب البصرةِ تاريخَ وفاتي
في التاسع من نيسانَ
خفقتْ في قلبي أجنحةُ الطير.. وغادرت الأغصان
وحلّ ربيعٌ آخر لا تزهرُ فيه الأشجار
ولا يقطفُ فيه العاشقُ ورداً.. لا ينقرُ فيه العصفورُ على الشباك

ففي هذا الوقت، كان الدكتور المشّاط يكتب مسودات مذكراته الثمينة، ويثبت لنا بالوقائع، كيف كان صدّام عميلاً مزدوجاً لإسرائيل وأمريكا.

-6-
أمام محكمة الضمير الإنساني الحر، يقدم المشّاط مرافعته التاريخية، ليثبت فيها وبها، أن صدّام حسين كان عميلاً متميزاً لإسرائيل وأمريكا. والمشّاط هنا، لا يعني بالعمالة أن يكون صدام مقيداً في سجل الموساد، أو وكالة الاستخبارات الأمريكية، ويقبض راتباً، ولكن المشّاط يعني بالعمالة هنا خاصة، أن تتطابق أهداف وخطط صدام مع أهداف وخطط إسرائيل وأمريكا. وقبل أن يقدم لنا المشّاط أدلته على عمالة صدّام، يُحلِّل لنا شخصية صدّام، وينتهي إلى أنها شخصية سايكوباثية. ومن أبرز ملامحها، موت الضمير فيها، وحبها لنفسها، والابتلاء بشعور العظمة، والبحث عن المتعة والمسرة بأي ثمن كان، وعدم تحملها لأية مسؤولية، وعدم تعلّمها من خبراتها السابقة.
ويقدم المشّاط أدلته الواقعية على عمالة صدّام المزدوجة لإسرائيل وأمريكا من خلال سياسته الداخلية على الوجه التالي:
1- حوّل صدّام العراق من أغنى بلد في العالم، إلى أفقر بلد في العالم. ولا وطنية لطاغية على هذا النحو.
2- نهب صدّام ثروات العراق له ولأولاده، ولشراء ذمم الإعلاميين والسياسيين والشعراء المرتزقة، الذين بكوا على الإطاحة به، بكاء النائحات في سرادقات العزاء، كما قرأنا قبل قليل.
3- إبعاد المخلصين من البعثيين، وإعدام أعداد كثيرة منهم، والانحراف بمباديء الحزب، وخاصة المادة العاشرة من دستور الحزب، التي تُعرّف من هو العربي.
4- اعتبر صدّام أن الولاء يجب أن يكون له، وليس للحزب، أو الوطن.
5- إحياء نظام العشائر، فيما هو ضد سياسة حزب البعث، وخيانة لمبادئه.

-7-
أما سياسة صدّام الخارجية، فتزيد وتعمّق من عمالته لإسرائيل وأمريكا، من خلال الأدلة التالية، التي يسوقها لنا الدكتور المشّاط في مذكراته، ومنها:
1- إنهاء اتفاق الوحدة بين سوريا والعراق عام 1979.
2- اتخاذ قرار الحرب مع إيران عام 1980، واستمرار هذه الحرب لمدة ثماني سنوات، استنزفت تداعياتها قدرات العراق المالية والعسكرية، وأودت بحياة أكثر من نصف مليون جندي وضابط عراقي، ثم جاء صدّام في 2003، وشطب بجرّة قلم آثار هذه الحرب. وتحوّل العراق مالياً من دائن إلى مدين.
3- غزو الكويت عام 1990 مما أشعل حرب الأمم على العراق عام 1991، التي استنزفت ما تبقى من ثروات العراق، ودفعت أمريكا وحلفائها إلى تدمير البنية التحتية العراقية. وهذا مما دفع أحد المعلقين السياسيين في صحيفة نيويورك تايمز في 31/10/1997 إلى القول: quot;اللهم بارك صدّاماًquot;.
ومذكرات الدكتور المشّاط مليئة بتفاصيل دقيقة جداً، لكل هذه النقاط، التي ينتهي معها المشّاط بقوله في السطر الأخير من هذا الكتاب (266 صفحة):
quot;إن الديكتاتور المقبور، كان أسوأ ديكتاتور عرفه التاريخ البشريquot;.
وقد صدق في هذا القول.

-8-
إن عمق الصدقيّة ورفعة الشفافية في هذا الكتاب، متأتية من أن الدكتور المشّاط، لم يستقل من منصبه المميز طمعاً في مال، أو جاه، أو منصب أكثر رفعة، رغم كل المغريات المتعلقة بهذا الشأن. ولكنه استقال احتجاجاً على غزو ديكتاتور لبلد شقيق. ويكاد المشّاط بذلك، أن يكون السفير العراقي الوحيد الذي استقال احتجاجاً على فعل سياسي منكر من قيادته. وأجزم أنه ndash; ربما - السفير العربي الوحيد الذي قام بهذا العمل الشجاع. وها نحن نرى من حولنا كيف يتحوّل السفراء إلى وزراء ورؤساء وزارات، عندما يطيعون، ويخرسون، ويأكلون، ويشكرون.
السلام عليكم.