نفس التسهايمر الطبيب الألماني أنهى حياته بما يذكر الطبيب يموت بنفس العلة، ومن أعجب الأمور في الطب موت جراح الصدر بسرطان رئة، ودكتور البولية بحصار بول، ودكتور القلب بخناق قلبي فما كان له من راق..
ويحب الزهايمر أدمغة العباقرة فيضرب مثل إيمانويل كانط أبو نقد العقل الخالص فلا يبقى عقل ولا خالص بل خرف وعته فلا يعرف أقرب الناس إليه..
ومثل نيتشه الدماغ الحارق الخارق المارق، أصيب بالصمغ الإفرنجي فتخوى دماغه وأخذت أخته تقرأ له أشعاره وهو يقول كنت أكتب شيئا من هذا القبيل..
مواجهة الشيء غير توقع الشيء أو القراءة عنه، وهو ما حدث معي عندما اجتمعت بعائلة، أصيب أحد أفرادها بهذا المرض.
وكنت قد سمعت بهذا المرض، وقرأت بعض الشيء عنه وصاحبه، أي اسم مكتشفه هو طبيب ألماني اسمه التسهايمر (Alzheimer) وليس كما يلفظها الناس واعتادوا عليها الزهايمر! وهل ليست نقطة مهمة فوجب التنويه؟
وباعتبار ندرة المرض فلا نواجهه يومياً، ولكنه بحث وجودي يجب تأمله بكل خشوع وبكثير من التأثر للمريض المصاب.
وأهم ما في المرض أن حامله لا يظهر عليه من الوهلة الأولى تأثر بمظهر أو لباس، فهو يسلم عليك، ويلبس لباسه على نحو مألوف معتاد، ويأكل ويشرب كما يفعل الناس، ولكن مشكلته في الذاكرة، ويمر في مراحل، فتمسح الذاكرة مسحا تدريجيا كأنك عملت ديليت (Delete) على قرص الكمبيوتر.
قالت السيدة التي قابلتني وكنت في زيارة لهم في نيوجيرسي في أمريكا، وهي مدينة قريبة من نيويورك، وهي تروي عن والدتها؟ أنها أحياناً تظنني أمها؟ وأحياناً تصحو فترجع وتعرف أنني ابنتها، وأحيانا تنسى الاثنين فلا تعرف أقرب الناس إليها من زوج وولد وبنت وحفيد، بل وتصيح هل أنت فلانة وهي بنتها أمامها، فلا تملك بنتها سوى دمعة في العين وحسرة في القلب على مصير ابن آدم..
ومما روت لي سيدة أردنية، أنها عالجت حماتها حين انقلبت هذا الانقلاب الشنيع؛ فأصبحت اقرب إلى الدواب من بني آدم، حتى تمنى من حولها موتها فماتت وقد ودعت عالم الإنسان إلى الحيوان فكان القبر خير ستر.
ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ويل يومئذ للمكذبين؟؟
تابعت السيدة من نيوجيرسي فقالت أحيانا تنظر إلى الزجاج فتظن أن هناك أشخاص قادمين وهي لا تزيد عن ظلال، وما من أحد قادم ولكنها ظلال غيبوبة العقل؟؟
وكنت أنا أتملها أيضا مذهولا؟ وهذا العالم العقلي شيء عجيب، وجلسة الأمراض النفسية في الصف الخامس من كلية الطب مازال محفورا عندي في الذاكرة لا يزول..
فالصدمة الأولى التي تصيب الإنسان أنك ترى إنسانا عادي المظهر فإذا بدأ في التصرف والحكي أدركت أنه ينتسب إلى عالم أخر؟؟
كنت أتأمل سيدة الزهامير؟؟ ففوجئت بعالم ينهار كلية، وبينما هي تحدثنا، دخل قوم آخرون علينا فسلمت عليهم، ثم عادت فسلمت علينا من جديد وكأنها لم ترنا كن قبل قط؟
قلت سلام قولا من رب رحيم؟؟
قالت ابنتها لقد نسيت أنها سلمت عليكم، وهي تسلم عليكم الآن مجددا، بكل أدب في احترام قوم جدد دخلوا عليهم؟ وباعتباركم جدد عليها فقد نسيت أنها تعرفت عليكم قبل لحظات؟!
قلت لها هل إذا خرجت من البيت تستطيع العودة مجددا إليه؟؟
قالت لا إذا خرجت من البيت لم تعد تهتد إليه أبدا حتى نقودها ونعيدها نحن إلى البيت!!.
سألتها هل تؤذي أو هي عدوانية؟
قالت لا.
تابعت أنا وهل تستطيع أن تقوم بالأعمال المطبخية مثلاً ؟؟ فتساعدكم بقطع البصل أو الطماطم؟
قالت ابنتها: أما البصل فهي تقوم بنزع القشرة الرقيقة الداخلية عنها، أما الطماطم فهي تسعى بكل طريقة أن تنشف ما بداخلها من ماء؟!
وهكذا فحين يتلخبط الدماغ يضيع كل شيء؟
تابعت ابنتها: وفي يوم كانت في حوض الغسيل اسفنجة فظنتها قطعة لحم؟
قالت البنت بصبر: إنها باختصار فقدت الذاكرة القريبة كلية، والأمر يزداد انتكاسا مع الوقت.
قلت لها كيف وضع الذاكرة البعيدة؟ هل تتذكر الأشياء القديمة.
قالت كانت كذلك ثم بدأ المرض يفترس هذا الكنز أيضاً بالتدريج. وأصبح الدماغ مفككاً إلى حد خطير.
تابعت: في البداية لم نعرف ماذا حدث لها تماما؟ ولكن الأطباء تبين لهم أنها دخلت حلقة المرض تماما. ثم قالت بألم: هي الآن كأنها عادت إلى الطفولة لتتذكر أمها وحتى هذا بدأت تفقده تدريجياً.
لاحظت أن ابنتها كانت مشغولة بها طول الوقت للإجابة على أسئلتها مثل طفل السنتين، عندما يتعرف على العالم، فيسأل عن كل شيء جديد، ولكن مشكلتها أنها تنساه من جديد لتسأل عنه من جديد، فالذاكرة أصبحت غربال، وليس مثل الطفل الذي يبني ذاكرته طبقا عن طبق..
وخرجت أنا من المنزل والبنت تقول لها سنخرج بعد قليل اطمئني.
وكانت المريضة تقول لابنتها: يا أمي متى نرجع إلى البيت؟
لقد أصبحت البنت أما والأم بنتا فتبارك الله أحسن الخالقين..
ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين.
ماذا يحدث على وجه الدقة في مرض الزهايمر؟
والجواب أن العلم يقول لا نعرف لا كيف نشخص المرض؟ ولا متى يضرب؟ ولا سببه؟ ولا طرق الوقاية منه؟ فنحن في الظلمات مطوقين، وقد نفهم بعض الأشياء البسيطة التي تحدث؛ فمثلا نعرف أن أمكنة الإصابة تتناول قشر الدماغ سفلا وعلوا، فتضرب كالعاصفة الرعدية أقدس الأمكنة في الدماغ، من الفص الجداري والقفوي والجبهي؛ فتضيع الشخصية في عاصفة من الغمام، ويضطرب النطق والتصرف، ثم يزحف المرض عمقا، فيضرب أمكنة التذكر والتعلم في قرن آمون، بل لوزات (الأميجدالا) خزانات العواطف المسئولة عن شحنات الخوف والغضب والجنس والحزن والقرف والدهشة؟ فيخاف ويرعد ويبرق ويقرف وينسحب ويعتدي، ثم يضرب المرض مراكز إفراز مادة (الاستيل كولين) من نويات (مينيرت) القاعدية، فيضطرب بناء الخلايا العصبية بالكامل ويتفكك الجهاز في انهيار كامل للشبكة.. ودماغنا هو كهرباء وكيمياء فلا يبقى إلا أثارة من كهرباء وتتعطل الكيمياء من استقبال وإرسال..
يقول العلماء إن الخلية العصبية سرها عجيب فهي تمد استطالاتها كأرجل الإخطبوط ولكن بعشرة آلاف ذراع، يتصل بها عشرة آلاف ذراع من خلايا شتى، ولنتصور الآن تلك الشبكة المخيفة من عشرات الآلاف من الأذرع التي تتضافر في شبكات لانهائية من المعرفة والدهاء والخبث والملعنة والتدريب والخبرات والتقوى والإحسان؟؟
فبأي آلاء ربكما تكذبان؟؟
يقول العلماء أن الاستطالة الكبيرة أي الذراع الكبير اسمه أكسون، والأذرع القصيرة الجانبية اسمها الدندريت، وهذه تتلقى من خلايا الجوار أي العصبونات الأخرى المعلومات، فتمر على الجسم الذي ينقلها للخلايا المجاورة.
والخبرات اليومية هي شبكات لانهائية من امتداد هذه الأذرع من الاكسونات والدندريت، ولكن نقاط التماس بين الخلايا العصبية تسجل معجزة خرافية بحق؟ فالتماس هنا ليس مثل أسلاك الكهرباء، بل ينتهي الاكسون بخف من قدم لطيفة منبسطة مثل القدم الحافية، وهنا وبحنان يتصل بالخلية المجاورة، ويسمى (السينابس)، وفي هذه النقطة تتحول لغة الكهرباء الفيزيائية، إلى لغة المركبات الكيماوية، وهكذا تفرز مواد مثل الاستيل كولين، أو نور أدرينالين، أو سيروتونين وما شابه، ونقص استقبال هذه المواد أو ارتفاع عتبتها، تشكل أمراضا بعينها من الكآبة والصرع والزهايمر الذي نحن بصدده..
ولقد عرف أن نقاط التماس هذه عند السينابس تفرز من لغة الكيمياء هذه بحروف متباينة أكثر من أربعين حرف كيماوي في لغة عصبية عجيبة؟!
لقد وجد في مرض الزهايمر تهديدا بمادة الاستيل كولين التي تنحبس عن الانتشار، وكذلك تفكك ارتباط الجهاز العصبي مثل شبكات الكهرباء في الدول الثورية، حيث تنهار الخدمات في كل اتجاه، وتعمها الفوضى والتسيب والرشوة والمصالح الفردية.
إن المواطن المنكوب في الدول القمعية يقمع ويقتل فيتخرب كفرد أولا، أما اتصاله ببقية المواطنين، فتتكفل أمراض المخابرات وجواسيس المخبرين السريين، في قطع شبكة الاتصالات فيهوي الدماغ أسفل سافلين..
إن ما يحدث في مرض الزهايمر يحدث اجتماعيا ما يماثله في دول القمع الاستبدادية وجمهوريات الخوف والبطالة تماما..
وكما يصاب الإنسان الفرد بالعته والخرف والزهايمر فهناك من الأمراض الاجتماعية ما يشبهها تماما، فقط تحتاج أن يتفطن الإنسان لها..
والقرآن يروي عن قوم مسخوا قدرة وخنازير وهو جاد تماما... إن بالقول الفصل وليس الهزل..
أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون؟؟
شخصيات ضربها مرض الزهايمر؟!
إن المرض إذا أصاب شخصا فهو قدر الله لا راد له، ولكن حين يضرب شخصيات حديدية مثل تاتشر، أو شخصية قيادية قادت العالم فرفعت الدولار وضربت ليبيا وسلحت السماء بالصواريخ في مشروع جهنمي، مثل شخصية ريجان، الذي استدعي للمحكمة للشهادة، فكان يكرر لا أتذكر.. لا أتذكر؟؟ ثم انعزل كما انعزلت تاتشر خجلا من نفسها، وهي التي قالت بفخر أنها اكتشفت جورباتشوف، وأثرت على الرجل بطريقة ناعمة، ففك الاتحاد السوفيتي، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
واليوم تعلن ابنتها نيابة عنها أن أمها أصبحت في عالم النسيان فلا تقابل أحد..
إنها كارثة مضاعفة لشخصيات سياسية، أو مفكرين عظماء من نوع (إيمانويل كانط) الذي لم يعد يعرف أقرب الناس إليه حين قارب الثمانين، وهو الذي وضع ثمانين كتابا، وهو الذي أسس للعقل وهو في الستينات من عمره، في أعظم إنتاج معرفي، من حجم نقد العقل الخالص، ونقد العقل العملي، ورسالته في التنوير، فلم يعد عنده نورا وعقلا ونقدا، بل تحول إلى حالة السائبة والوصيلة والحام أقرب إلى الدواب.. فلم يعد يعرف أقرب الناس إليه وهو الذي كان يصطاد الفكر من سماء المجرد؟
وكذلك كان مصير (نيلز بور) الذي صمم البناء الذري، وهندسة الإلكترونات، ووضع القانون المعروف عن عدد الإلكترونات في المدار الهندسي لغلاف الذرة تحت معادلة اثنين نون مرفوعة للقوة اثنين، بحيث يمكن حساب عدد الإلكترونات المسموح بوجودها في مدارات الإلكترونات المطوقة للبروتونات، بحيث توجد الذرة المتعادلة كهربيا، أو الناقصة المختلة، وبالتالي دخول عالم الكيمياء وتفاعلات الجزيئات سلبية كانت أو إيجابية الشحنة فتلتحم أو تنفصل تفور أو تغور؟
هذا العالم أي نيلز بور وصل به الخرف، إلى درجة مد يده إلى طعام من معه على الطاولة بدون استئذان، فكان انهياره آية للمتوسمين، مذكرا بالقرآن الكريم الذي يشرح هذه الدورة الحزينة، أنه منا من يعمر ومنا من ينقص من عمره أو يرد إلى أرذل العمر؟!
فأن ينقص من عمره هي ربما لحكمة، على طريقة العقاد أن يموت الإنسان في القمة، فلا يترك خلفه إلا أطيب الذاكرة عن وضعه الممتاز، كما ودعتنا القديسة (ليلى سعيد) وهي في القمة.
أو كما ودع (سيد قطب) هذا العالم الحزين المليء بالظلم، وهو في عمر 67 عاما، وهو مفسر القرآن في ظلال جميلة.
وقبل هذا موت الرسول ص أبو القاسم في عمر 63 عاما بدون نقص وخلل وضعف وحاجة، بل بكل القوة؛ فكان مثالا للكمال في حياته ومماته.
هذه الدورة الحزينة من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف وشيبة، فمنا من يتابع أو يخرف ويعته فيرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا؟؟ وهذه كانت نهاية تاتشر الحديدية، وريجان الممثل الكذاب الضراب، ونيلز بور أبو الذرة، وكانط الفيلسوف الألماني أبو العقل؛ فودع العالم بدون عقل؟؟
وهم نماذج من أعداد لا يحصيهم كتاب ويجمعهم مجلد.. أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد..
آية للمتوسمين وعظة للغافلين، ويقظة للنائمين عن سنن الله..
ومن غفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه؟ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم، أو ابتلاء بالضراء، كما حصل مع أيوب، وليس كلنا أيوب؛ فيقوم فيضرب برجله هذا مغتسل بارد وشراب!!..