طريق الألغام
هناك أراء لم يكف أصحابها، وهم كثيرون جدا، من التأكيد عليها خلال السنوات الخمس الماضية، بشأن الاحتلال الأميركي للعراق. من هذه الآراء، أن أميركا خربت العراق، وقتلت مليون عراقي، وشردت ملايين إلى الخارج، وأطاحت بنظام شرعي قائم، وأدخلت القوى الإرهابية، وخلقت النزاعات الطائفية داخله، وأبعدت العراق من محيطه العربي وأضعفت اهتمامه بالقضية الفلسطينية، ورهنت ثرواته لأجال طويلة، وأدخلت البلاد في طريق التقسيم والتفتت، وأشاعت الفوضى في ربوعه، وتنكرت لإقامة النظام الديمقراطي الذي وعدت به.
هل هذه حقائق أم مجرد أقاويل؟
نعرف إن الإجابة على هذا السؤال ستكون بمثابة السير على حقل من الألغام، لا يعرف السائر فيه متى تنفجر تحت أقدامه.وهذه الألغام كثيرة ومتنوعة، منها لغم أسمه العمالة لأميركا وأخر أسمه الخيانة الوطنية وثالث أسمه بيع الضمير لقاء الحصول على عمولة. مع ذلك، سنحاول.
عندما دخلت القوات الأميركية إلى العراق كان الاقتصاد العراقي واحدا من أسوء اقتصاديات المنطقة. وذاك التردي لم تخلقه الولايات المتحدة، ولم يخلقه الحصار الظالم الذي فرضته الولايات المتحدة بعد حرب الكويت. الخراب الاقتصادي خلقته سياسات النظام العراقي السابق. فقد دخل العراق الحرب العراقية الإيرانية وله احتياطي هائل، وخرج مثقلا بالديون. والعامل الاقتصادي هو الذي دفع صدام حسين لاحتلال الكويت.
ونعرف جميعا أن صدام حسين خاض الحرب ضد إيران بدافع استعادة أراضي عراقية، وتعديلا لاتفاقية الجزائر التي عقدها بنفسه مع شاه إيران. لكن صدام عاد وتنازل لإيران عن ما كانت تطالب به، وفرط بالسيادة العراقية التي قال أنه دخل تلك الحرب لاستعادتها. وبعد حرب الكويت رهن صدام مقدرات البلاد وكل سيادتها للقرارات الأجنبية، كشرط لوقف النار، وبقاءه في السلطة. وقبل أن تصل القوات الأميركية إلى العراق وتحتله قبل خمس سنوات، كان العراق محتلا، أصلا، وكان مفتشو الأسلحة يملكون حق الدخول حتى إلى القصور الرئاسية، وهي، كما نعلم، رمز سيادة البلاد. وكان صدام يقول أن قبوله لتلك الشروط أملته الظروف، وهو ثمن لأن يكون العراق مستقبلا quot;يابان الشرق الأوسط.quot;
وطوال الأشهر الأولى، بعد التواجد الأميركي، لم يهاجر عراقي واحد من بلاده، بعد أن كانت هجرة العراقيين خلال حكم صدام حسين، في تزايد مستمر. ولم يبدأ العراقيون بالهجرة مرة أخرى من بلادهم إلا بعد أن بدأ تنظيم القاعدة نشاطه الدموي داخل البلاد، ونجح في خلق ردود أفعال مضادة قادت البلاد إلى هاوية الحرب الأهلية.
وفيما يتعلق بالمسألتين، الطائفية والقومية، فأن الولايات المتحدة لم تخلقهما من العدم داخل العراق. إنهما خلقا مع بناء اللبنات الأولى للدولة العراقية الحديثة. وكانت السياسات الرسمية لجميع الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق تتعامل مع هاتين المسألتين، إما بتجاهل وجودهما، أو بمعالجتهما بquot;المهدئاتquot;، أو بإنكار وجودهما، أصلا، عن طريق تطبيق سياسة الهروب للأمام. وكل ما فعلته الولايات المتحدة هو، فتح القمقم العراقي وإفراغ كل ما يحتويه أمام الجميع، وتسمية المسميات بأسمائها بعيدا عن اللغة الخشبية الشائخة التي تؤجل انفجار الأوضاع ولا تقدم الحلول، فراح العراقيون يجربون الحلول التي تلائمهم.
إما من يقول إن العراق كان خاليا من الإرهاب طوال حقبة نظام صدام حسين، وإن الولايات المتحدة هي التي أدخلت الجماعات الإرهابية إلى العراق حتى يشغل الإرهابيون أنفسهم بالشأن العراقي ويتركوا الداخل الأميركي بسلام، فهو قول نصفه الأول صحيح لا نناقشه، وسنناقش الشق الآخر لمعرفة مدى صحته.
قد تكون الولايات المتحدة مسؤولة عن دخول الجماعات الإرهابية عندما تركت حدود العراق سائبة خلال فترة طويلة بعد دخول قواتها إلى العراق. ولكن القوات الأميركية هي التي قضت على قائد تنظيم القاعدة، الزرقاوي، وهي التي نبهت العراقيين لما يضمره الزرقاوي من إشعال حرب طائفية داخل العراق، عندما عمدت إلى نشر رسالته الشهيرة لمريده بن لادن. والقوات الأميركية هي التي خلقت الصحوات العشائرية وأمدتها بالمال وبالسلاح لمواجهة تنظيم القاعدة، ونجحت في مسعاها نجاحا لا ينكره أحد.
وبخصوص إبعاد العراقيين عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وإبعاد العراق عن محيطه العربي، فأن أصحاب هذا الرأي لا يريدون أن يتذكروا ما سببه النظام العراق السابق، بكل شعاراته القومية، من أذى بقضية التضامن العربي، بدءا من تشكيله لجبهة الصمود والتحدي، ومرورا بقطع علاقاته الدبلوماسية مع الحكومة السورية، وهي الشقيقة الروحية للنظام السابق، ثم احتلاله لدولة جارة وشقيقة هي الكويت، وقبل ذلك طرده للمنظمات الفلسطينية العاملة في العراق وإمهالها ساعات محدودة لإخلاء مكاتبها في بغداد، ومحاولاته لشق الوحدة الفلسطينية، عن طريق تكوينه لمنظمات فلسطينية تابعة له، وكذلك رفضه لزيارة الرئيس المصري السابق، أنور السادات، إلى إسرائيل، وتسميته لها (زيارة العار)، وكيف أن النظام نفسه عاد وطلب من الرئيس السادات أن يمده بالأسلحة، عندما بدأت الحرب العراقية الإيرانية. وحتى قبل سقوط النظام السابق بفترة قصيرة كان وزير خارجيته، السيد طارق عزيز، يردد، تعليقا على مفاوضات الفلسطينيين مع الإدارة الأميركية، بأن الفلسطينيين أعرف بقضيتهم، وهم أحرار فيما يفعلون. ولم يعرف عن قادة العراق الجدد رفضهم لتوثيق العلاقات مع العالم العربي، بل أن الدول العربية هي التي أدارات بظهرها للنظام الجديد، وما تزال الكثير من هذه الدول ترفض فتح سفارتها داخل العراق.
وعلى صعيد الخراب الاجتماعي، فأن عدد الثكالى والأيتام والمعوقين والعاطلين عن العمل داخل العراق، لم يعرف زيادة مريعة طوال تاريخ العراق الحديث مثلما عرفها في ظل حكم صدام حسين. هذه حقيقة تؤكدها الإحصائيات، وهي حقيقة لم يخلقها الاحتلال الأميركي، إنما خلقتها سياسة النظام السابق، نتيجة الحروب العبثية التي خاضها. وهناك حقيقة أخرى هي، حرمان العراقيين من استخدام أبسط ما استجد في ميادين ثورة المعلومات والانجازات والمعارف التي تحققت. فقد ظل العراقيون، حتى اللحظات الأخيرة من سقوط النظام السابق، محرومين من استخدام الهاتف النقال، والحاسوب، ومشاهدة الفضائيات، في وقت كانت فيه شعوب العالم كلها تتمتع بهذه الإنجازات.
وإذا صار الحديث عن غياب الحريات في العهد السابق، فأن القضية يمكن إجمالها بالقول إن نظام صدام حسين حول (العقل) و(الضمير) من نعم كبرى إلى نقم كبرى، وأصبح العقل والضمير من الأعباء الكبرى التي يريد صاحبهما أن يتخلص منهما، حتى لا يقطع رأسه. فأنت أن أدليت برأيك وكشفت عن معرفة أو معلومات لا يرضى عنها النظام عوقبت، وأن أنت شخصت الخطأ وقلت ما تراه حقا وصائبا حق عليك العقاب.
ما ذكرناه توا ليس كلاما إنشائيا، ولا مجرد شتائم، إنما هي حقائق ملموسة وقائمة، وهي حقائق لم يخلقها الاحتلال الأميركي، إنما وجدها أمامه، وهي ثمار مرة أنتجتها شجرة النظام الصدامي. مع ذلك، فأن سقوط ذاك النظام أدخل الهلع إلى قلب النظام العربي الرسمي، وكذلك داخل قطاعات واسعة جدا من المجتمعات المدنية في العالم العربي، فراح الطرفان يقفان ضد التجربة السياسية الجديدة. لماذا؟
النظام العربي الرسمي رأى تهشم صورته عندما سقط النظام الصدامي، فأصيب بالذعرالواقع، إن نظام صدام حسين لم يكن فريدا من نوعه داخل النظام العربي الرسمي. وإذا كان هناك اختلاف فأنه يكمن في quot;الكميةquot; وليس في quot;النوعيةquot;. نظام صدام حسين، مثلما النظام العربي الرسمي، ينتمي إلى النظام العالمي (القديم)، أي إلى حقبة الحرب الباردة. وهو نظام أقيم، في غالبيته، على شرعية (الثورة)، وليس على شرعية صناديق الانتخابات. وفي كثير من البلدان العربية كان يصار إلى تغيير الدستور، أو quot;خياطةquot; دستور وفقا لمقاسات خاصة لكي يتم التمديد للحاكم، لأطول فترة زمنية ممكنة. والسبب الرئيسي لتطبيق هذا الأسلوب هو، الخوف من المجهول الذي قد يأتي به غياب الحاكم. وقد تكون هذه المخاوف، أو بعضها، حقيقية. فهناك الكثير من المسائل الكبرى في جميع البلدان العربية، لم يتم حلها، ولا حتى التفكير بحلها، لأن الإقدام على ذلك قد يقود إلى صراعات وحروب أهلية. ورغم أن هذه المشاكل موجودة، وتطفو على سطح الأحداث بين آونة وأخرى، إلا أن التعامل معها يتم بالطريقة القديمة نفسها، إما نكرانها تماما أو، إذا عبرت عن نفسها، وضع أسبابها على عاتق (التدخلات الأجنبية التي لا تريد لبلداننا استقرارا). وتناغما مع هذه التبريرات، يتم تبرير غياب الحريات، والتعامل بسلبية مع مسألة حقوق الإنسان، وغياب الديمقراطية بمعناها المطبق حاليا داخل العراق، بأن بلداننا العربية ليست مؤهلة للنظام الديمقراطي، وأن ما يحدث داخل العراق بعد تغيير النظام السابق، لا يمت إلى الديمقراطية بصلة، بل هو الفوضى بعينها.
إنها نفس الطريقة القديمة إياها: الهجوم خير وسيلة للدفاع. ولكن الهجوم أصبح، هذه المرة، شرسا لأن النظام العربي الرسمي رأى صورته هو في صورة النظام العراقي السابق، وهي تتهشم.
سقوط نظام صدام خلق فراغا فكريا أمام الرأي العام العربي
وإذا كان النظام العربي الرسمي يعتبر نتاج حقبة الحرب الباردة، والحارس الأمين جدا لمبادئ ومواقف تلك الحقبة، فأن الأفكار والمواقف التي تتداولها وما تزال تتبناها النخب العربية، وخصوصا داخل الأوساط اليسارية والقومية المتزمتة وهي تشكل غالبية الرأي العام العربي، تعود في مجملها، ليست إلى فترة الحرب الباردة، وإنما إلى عصور أكثر قدما منها.
فمنذ أن نشبت الخلافات بين رجال الثورة الفرنسية، وظهور اليسار واليمين، راحت هذه الثنائية تقسم الأفراد والجماعات. و ساهمت، لاحقا، عوامل كثيرة ومختلفة في تكريس وتعميق هذه الثنائية، منها الثورات العديدة التي شهدها العالم، وما أفرزته الثورة الصناعية من تفاوت في دخول الأفراد، وما عرفه العالم من تنظيرات على صعيد الفكر السياسي الاقتصادي، وما أحدثته الحقب الاستعمارية من مظالم وما نتج عنها من حروب وطنية مضادة، وما حدث من خلافات داخل المدرسة السياسية الواحدة. ومع بداية القرن الماضي بدأت هذه الثنائية تتعمق وتتجذر وتأخذ أبعادا جديدة: رجعي وتقدمي، انتهازي ومبدأي، وطني وعميل، مناضل و متخاذل، بروليتاري نقي وبرجوازي تحريفي، ليبرالي واشتراكي ... الخ.
وما كانت تلك المصطلحات مجرد ألفاظ كلامية، ولم تكن من المسلمات فحسب، وإنما كانت quot;خنادقquot; حربية تفصل بينها برك من الدماء، وقادت إلى حروب عالمية، وإقليمية، ومعارك أهلية خيضت أحيانا بالسلاح الأبيض، حتى بين أبناء الوطن الواحد. كانت تلك المفردات تعني الشيء ونقيضه، بالضبط. أبيض وأسود. خير و شر، ولا ثالث بينهما، ولا حل تسووي يوفق أو يقرب بين النقيضين. وكيف تكون التسوية و (الحقيقة) يجب أن يملكها طرف واحد، وكيف يكون التوفيق و(الحق) يجب أن يكون، وبالضرورة، حكرا على طرف واحد.
لكن ذاك (العالم)، بكل مفاهيمه وقيمه، تحجر بما فيه الكفاية، ولم يعد صالحا للتطبيق. ومنذ العقد الأخير من القرن الماضي وحتى هذه اللحظة، يشهد عالمنا تغيرات صاخبة وعاصفة في جميع ميادين الحياة، وفي مقدمتها الميدان السياسي. وهذه التغيرات الكونية الكبرى التي تمت خلال عقدين من السنين ما كان أحدنا يتوقع حدوثها حتى خلال قرن كامل، لكنها حدثت وأصبحت من المسلمات. ولو ظهر في هذه الأيام البلاشفة والمناشفة، اليعاقبة والجيندريون، لينين وتروتسكي وماو، أو ظهر أولاءك الساسة الذين غيروا جغرافية العالم عندما بصموا بأصابعهم على معاهدة فرساي عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى، أو على اتفاقية يالطة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لو أن هولاء جميعا خرجوا من قبورهم هذه الأيام، لصعقوا، ولأصيبوا بالجنون، لهول ما سيجدون من متغيرات طالت كل شيء.
بالطبع، أن الإشارة إلى هذه المتغيرات الكونية العاصفة لا تعني، بأي حال من الأحوال، أن السلام والخير سادا المعمورة، وعلى الشعوب أن تكف عن المطالبة بحقوقها، وتوقف نضالاتها. العكس هو الصحيح، تماما. لكن، طرائق ووسائل تحقيق المطالب تغيرت، بسبب تغير (نوعية) المطالب، وتداخل وتشابك قوى التغيير، وتغير طرق التفكير نفسها. فالشعوب والمجتمعات لم تعد تهتدي ب(النظريات) وحدها، أو بنظريات محددة، كمنارات تدلها على الطريق الذي يتوجب أن تسلكه، وإنما تحاول الاستفادة من جميع الإرث الإنساني على الصعيد الفكري والسياسي. والمشاكل التي تواجه البشرية هذه الأيام وتحاول أن تبحث عن حلول لها هي، ليست المشاكل نفسها التي كانت موجودة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى في القرن العشرين.
وهذا التحول بدأ ينعكس على الفكر السياسي، وعلى طبيعة الأحزاب السياسية، فيحولها من أحزاب (عقائدية) تتسلح بالشعارات، إلى أحزاب (جيوبوليتكية) وأخرى ذات صفات مطلبية، كالنزاعات الجغرافية والعرقية ومشاكل الأقليات، و وندرة المياه وعدالة توزيعها، و تلوث البيئة، والعنف العابر للقارات، وثورة المعلوماتية والاتصالات. وقضايا كهذه لا تتمترس خلف المطالبة بها طبقة اجتماعية واحدة، أو فئة اجتماعية بعينها، وإنما طبقات وفئات اجتماعية متفاوتة.
وقد وصلت التغيرات حتى داخل القلاع الأيديولوجية المحصنة. فالصين الشيوعية التي حاربت فكريا الاتحاد السوفيتي، بسبب ميوله (التحريفية)، بدأت هي نفسها (تنحرف) و تتكيف لمستجدات العصر. والمدافعون الأشداء عن الرأسمالية وحرية السوق بدؤوا يطالبون، من داخل قلاع الرأسمالية، بتدخل الدولة للجم تقلبات السوق. وفي كل الأحوال فأن المطالبة بالديمقراطية والحريات أصبحت سمة العصر الحديث. وفي مقابل ذلك يشهد عالمنا اليوم تراجعا واضحا عن التمترسات الشعاراتية الدوغماتية التي سادت سابقا.
لكن هذه التغيرات العاصفة لم تصل رياحها بعد إلى عالمنا العربي، لأسباب تتعلق بالبنية الاقتصادية، وغياب ثورة ثقافية فلسفية كتلك التي شهدتها أوربا في عصور التنوير، بالإضافة إلى أسباب مهمة أخرى. التغيير الحقيقي الوحيد الذي يكاد أن يشبه القطيعة، هو الذي تم في العراق بعد 9 نيسان 2003. وقد قوبل هذا التغيير من قبل أغلبية النخب العربية والغالبية الساحقة في الشارع العربي، برفض هستيري مطلق، بل وبعداء لا حدود له.
هذه المواقف العدائية لا يمكن نعتها إلا بأنها مفارقة صارخة. فالذي حدث في العراق هو، ديمقراطية حقيقية، وبرلمان منتخب، وإطلاق واسع للحريات، وحرية لا حدود لها لوسائل الإعلام، وفتح الأبواب أمام جميع المكونات الاجتماعية والسياسية للحصول على حقوقها، وطلاق بائن لكل نزعة ديكتاتورية، وفتح الأبواب أمام تنمية اقتصادية، وكسر احتكار الحقيقة من طرف واحد. وهذه الانجازات يفترض أن تحظى بتأييد النخب العربية، خصوصا اليسارية منها، وكذلك الشارع العربي الذي يشكو من ظلم أنظمته الحاكمة. لكن الذي حدث هو العكس، تماما
بالطبع، السبب الرئيسي لهذه المواقف المعادية هو، سقوط النظام بفعل احتلال أجنبي أميركي. وهذا سبب مبرر ومفهوم، لكنه لا يشرح كل شيء.
في رأينا، أن الفكر العربي التقليدي السائد وجد نفسه أمام حال فريدة من نوعها، فاجأته على حين غرة، وسحبت البساط من تحت قدميه، بعد أن (عطلت) كل المقاييس الشعاراتية التقليدية، الجاهزة التي كان يقيس بها الأمور. التجربة العراقية سلبت من الفكر العربي كل مبررات وجوده، بعد أن حققت له كل الشعارات التي ظل يتغنى بها، فما عاد يعرف ما الذي عليه أن يفعله بكل تلك الشعارات والأغاني (الأغاني بالمعنى الحقيقي والمجازي) الذي دأب على حفظها عن ظهر قلب، فوجد نفسه، بين ليلة وضحاها، أمام فراغ مخيف.
والذي يزيد من هذه المخاوف، وبالتالي من هوة الفراغ، هو عدم انهيار التجربة العراقية الجديدة، أقله حتى هذه الساعة، وعدم سقوطها، مثلما كانت تتوقع وتتمنى النخب العربية. ومن المؤكد أن النقاشات الصاخبة داخل البرلمان العراقي، والمنقولة مباشرة على الهواء، بما في ذلك التشابك بالأيدي والضرب على الطاولات تعبيرا عن الاحتجاج، سببت الدوران والغثيان للنخب العربية، مثلما خلقت الذعر في قلب النظام العربي الرسمي. فهذا (الهرج والمرج) البرلماني، كانت النخب العربية تتوقع حدوثه في العواصم الغربية. إما أن يحدث في بلد عربي كان إلى سنوات خمس خلت يرزح تحت قبضة حديدية واحدة، فهو أمر ما كان الفكر العربي يتوقع حدوثه حتى في الخيال.
إن (الفوضى) التي يشاهد العالم وقائعها تحت قبة البرلمان العراقي لم تحدث في الديمقراطيات الغربية العريقة إلا بعد مخاضات طويلة وعسيرة ومعقدة، استغرقت زمنا طويلا وتضحيات هائلة. وها هو بلد عربي يحرق كل هذه المراحل، فيطبق نفس (الآلية الديمقراطية) الغربية، ويضع أقدامه في بداية الطريق نحو بناء نظام ديمقراطي شامل.
حسنا، والمقاومة العراقية ضد الاحتلال التي كانت رهان النخب العربية في إسقاط التجربة الجديدة؟ هذه المقاومة نفسها تحولت إلى داعم للعملية الديمقراطية. إننا نجدها في صحوات العشائر التي تحول قسم من أفرادها إلى القوات الأمنية المكلفة بحماية الديمقراطية، ونجدها داخل قبة البرلمان، مجسدة في مطالب بعض النواب القريبين منها، والمتمثلة في عدم تصديق الاتفاقية الأمنية إلا بعد إطلاق سراح المقاومين وتعديل بعض فقرات الدستور، وضمان المشاركة الحقيقية لكل المكونات العراقية في حكم البلاد.
وهكذا، بعد مرور خمس سنوات، وهي كما نرى فترة قصيرة جدا في عمر الشعوب، يسير جميع العراقيين، ليس في طريق رفض الديمقراطية، وإنما في طريق تبنيها كحل وحيد لمسألة الحكم.
باختصار، العراقيون يظهرون يوما بعد أخر، قدرا واضحا من التغيير والنضج السياسي، ويغذون الخطى للأمام، بينما يظل النظام العربي الرسمي والفكر العربي يراوحان في نفس المكان. والمعروف دائما، في الحياة، أن الذي يتقدم هو الذي يحق له حمل البوصلة، وإرشاد الآخرين، وليس العكس.