من مفكرة سفير عربي في اليابان*
لقد تطورت تكنولوجية الاتصالات والمواصلات خلال العقود القليلة الماضية لكي تحول الكرة الأرضية لقرية عولمة صغيرة. وقد بدأت تزدحم هذه القرية بالسكان وتقل مواردها ويزداد التلوث فيها. فمن المتوقع أن يزداد عدد سكانها لحوالي الأنثى عشر مليار مع نهاية هذا القرن، وأن تنفذ طاقتها الحجرية، وأن ترتفع حرارة سطحها، لتؤدي إلى تزايد الكوارث الطبيعية ونقص المياه. وقد زادت رغبة العلماء في اكتشاف أسرار الكون لإيجاد حلول لهذه التحديات، بل امتد خيالهم للبدء في التفكير في مستوطنات فضائية توفر مساحات جديدة وموارد طبيعية إضافية. وقد حقق التقدم التكنولوجي للإنسان خطوة غزو الفضاء، ولكن ترافق بتكلفته العالية، وبالأخص في استخدام الطاقة الهائلة لدفع السفن الفضائية لاختراق جاذبية الأرض. لذلك فكر العلماء ببناء مصعد فضائي، يوصل الأرض بمركز فضائي يبعد مائة ألف كيلومتر، ليسهل الحركة في الفضاء ويخفض التكلفة. فما هو هذا المصعد الفضائي؟ وكيف يمكن إنشاء سلك المصعد في الفضاء؟ وما هو نوع المحرك الذي يمكن أن يحرك هذا المصعد ضد الجاذبية ولمسافات طويلة؟ وما هي نوعية الطاقة المستخدمة لهذا المحرك؟
لقد عقد مؤتمر عالمي في طوكيو في شهر نوفمبر الماضي شارك فيه علماء من اليابان والولايات المتحدة والإتحاد الأوربي، لمحاولة الإجابة على تلك الأسئلة المعقدة. وأتفق العلماء بأنه من الممكن ربط كرة فضائية صلبة بسلك عرضة متر واحد وطوله مائة ألف كيلومتر، ليكون السلك الذي يتحرك عليه المصعد الفضائي. وقد يتساءل القارئ كيف يمكن أن تتعلق كرة صلبة في الفضاء بدون أن تسقط؟ لتسهيل فهم هذا الموضوع، تصور عزيزي القارئ بأنك تلف بيدك كرة صلبة مربوطة بخيط في الهواء، فستلاحظ بأن الكرة طائرة في الجو والخيط مشدود، ما دامت يدك تلف الكرة. وهذا ما يحدث حينما نعلق كرة فضائية صلبة بحبل طوله مائة ألف كيلومتر، حيث سيكون الحبل مشدودا، وستكون الكرة معلقة في الفضاء خارج مجال الجاذبية الأرضية، بينما تستمر الكرة الأرضية في الدوران. وسيحتاج المصعد الفضائي لمحرك تشغيل قوي وسريع، ولسلك أقوى من الحديد بعشرين مرة، وبأن يكون خفيف جدا، وذا شد توتري عالي ليتحمل، ولأن لا يصدأ بتعرضه للتغيرات الفضائية. فهناك حاجة ملحة لمادة جديدة تجمع هذه الخواص لصنع السلك الفضائي، فما الحل؟ فهل يستطيع العلم اختراع مادة تجمع هذه المميزات؟ وهل من الممكن الاستفادة من علم الجزيئات لاختراع هذه المادة؟
من المعروف بأن الماس هو أقوى مادة في الطبيعة، ويتكون من ذرات كربون متراصة بقوة مع بعضها البعض. والمشكلة أن هذه المادة صلبة ومن الصعب تحويلها لحبل، ووزنها ثقيل. فهل هناك طريقة للاستفادة من مكونات الماس لصنع الحبل المطلوب؟ ليسمح لي القارئ العزيز بوقفة علمية، فلنتصور بأننا أخذنا قطعة صغيرة من الماس وقطعناها ميكروسكوبيا لقطع أصغر وأصغر حتى نصل لحد لا يمكن قطعها أكثر، فتسمى هذه الجزيئة الصغيرة بالذرة. فالذرة هي أصغر وحدة تتشكل منها المادة، ويتكون الماس من ذرات مادة الكربون. ولو تفحصنا ذرة الكربون والتي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة لصغر حجمها، ولا حتى باستعمال جميع وسائل التكبير الميكروسكوبية الالكترونية، سنجدها مشابه للمجموعة الشمسية، أي هناك نواة شمسية مركزية تدور حولها الكواكب. فتوجد في مركز الذرة نواة تدور حولها كرات تسمى بالالكترونات، يختلف عددها حسب نوع المادة. فمثلا يتكون غاز الهيدروجين من إلكترون واحد، بينما تتكون مادة الكربون من ستة إلكترونات. وتحتوي ذرة الكربون على نواة مركزية مكونة من ستة بروتونات، وتدور حولها ستة الكترونات. وتربط هذه الذرات بعضها ببعض قوة جذب الكترونية عالية، تؤدي لصلابة هذه المادة فلا يمكن كسرها أو تفتيتها بسهولة. بينما تكون ذرات الهيدروجين سهلة الانفصال عن بعضها البعض بسبب ضعف درجة الجذب الالكترونية بين ذراتها، فلذلك تكون مادة غازية متطايرة. وقد أكتشف العلماء بأن دفع تيار من غاز الهيدروجين على ذرات من الكربون، وفي درجة حرارة عالية جدا، تؤدي لاندماج ذرات الهيدروجين مع ذرات الكربون، لتشكل جزيئات جديدة مكونة من ألياف صغيرة جدا من أنابيب ألياف النانو كربون، والتي يكون قطر كل واحد منها أصغر من قطر شعرة الرأس بحوالي خمسين ألف مرة. ويمكن غزل هذه الألياف الصغيرة الكترونيا لصنع حبل خفيف الوزن وأقوى من الحديد بحوالي ثلاثمائة مرة، كما يمكن تحويل هذه الألياف لألواح صلبة يمكن الاستفادة منها في صنع المحطة والمصعد الفضائي، وتبقى هناك مشكلة المحرك الفضائي والطاقة المشغلة.
لقد قام فريق من مهندسي المحركات بالجامعة اليابانية نيهون بتصميم محرك ذي قوة دفع نفاثة، ويعتمد على الطاقة النووية الناتجة من انشطار نواة الهيدروجين. ولفهم فكرة الانشطار النووي، لنتصور بأننا أطلقنا رصاصة على كرة من الداينامايت، لتؤدي لحدوث انفجار ينتج كمية كبيرة من الطاقة لتسبب حريق هائل. ويتم الانشطار النووي الهيدروجيني، باستخدام quot;رصاصةquot; مكونة من جزيئات نواة الهيدروجين المشع الخفيف الوزن المسمى بالديوتيريوم، والمكونة نواتها من جزيئه واحدة من النيوترون وأخرى من البروتون. وتقوم quot;رصاصةquot; الديوتيريوم بقصف جزيئات نواة الهيدروجين المشع الثقيل، والمعروف بالتريتريوم، والمكونة نواته من جريئتين من النيوترون وجزيئه واحدة من البروتون، ليؤدي لإنتاج كمية هائلة من الطاقة بسلسلة متتابعة من الإنفجارات، والمسماة بسلسلة الإنشطارات النووية. ومع أن طاقة الشمس تنتج من الإنشطار النووي لذرات الهيدروجين، ولكن من الصعب إنتاج هذه الطاقة والسيطرة عليها صناعيا. والإنشطار النووي الهيدروجيني يمكن أن يوفر طاقة رخيصة، لأن مادته الأساسية هي هيدروجين الديوتيريوم المستخلص من الماء، وكل ثمان جالون ماء يوفر طاقة تعادل ألفين وخمسمائة جالون من الغازولين.
ويتصور علماء اليابان بأنه يمكن توفير الطاقة لمحرك المصعد الفضائي من محطة أرضية تنتج الطاقة الكهربائية من الإنشطار النووي للهيدروجين وبسلك فضائي لارتفاع عشرة كليومتر، وبعد هذا الارتفاع، سيعتمد المحرك على الطاقة الشمسية. وسيتكون المصعد الفضائي الياباني المقترح من مركبة للمسافيرين، تحمل ستة عشر شخصا مع أربعة من الطاقم الفضائي، ومركبة أخرى لجهاز التشغيل. وتبدأ الرحلة من مركز بوسط البحر، وبقرب أحد الجزر على خط الاستواء. فبعد أن يصل المسافرون للمركز الفضائي، ويتم التأكد من أوراق سفرهم، يركبوا حافلة تسمى بمصعد الكرة الأرضية السريع، والذي سيقطع مسافة قدرها مائة كيلومتر، ليصل للمحطة الفضائية الأولى. ويمكن التمتع بمشاهدة الكرة الأرضية من هذا الارتفاع والاستمتاع بكأس من القهوة في المطعم الفضائي. وستستمر الرحلة الفضائية بتبديل المحرك الكهربائي بمحرك الطاقة الشمسية، لتستمر رحلة المصعد حتى الوصول quot;لمحطة دخول الفضاءquot; بعد ثلاث ساعات، والتي تبعد عن الكرة الأرضية بمسافة ألف ومائتي كيلومتر. ويمكن أن يستمتع المسافرون في هذه المحطة، برحلة في مركبة أخرى تدور حول الكرة الأرضية. وتكمل الرحلة بمصعد الأجرام الكونية السريع، في رحلة مسافتها ستة وثلاثين ألف كيلومتر، لتصل quot;للمحطة المتزامنة مع الأرضquot; بعد ستين ساعة. ويرتاح المسافرون في الفندق الفضائي لفترة، قبل تكملة رحلتهم في المصعد الفضائي لرحلة إضافية مسافتها أربعة وستين ألف كيلومتر للوصول للمحطة الأخيرة، والتي تبعد عن الأرض مسافة مائة ألف كيلومتر.
وسيستفيد علماء اليابان من خبرتهم في تصميم القطار المسمى quot;بقطار الرصاصةquot; لتطوير المصعد الفضائي. ويعتبر هذا القطار من أحد أسرع القطارات في العالم وأكثرها سلامة، بعد أن نقل أكثر من ستة مليار مسافر منذ الستينات. وسجل متوسط فترة تأخير لا تزيد عن الخمس ثواني، وهي النسبة الأفضل في العالم. والجدير بالذكر بأن هذا القطار مصمم ضد الطوفان والزلازل، ولم تسجل حالة وفاة بسبب حوادث اصطدام. ومن المتوقع أن يكمل علماء ليابان النموذج الهندسي للمصعد الفضائي الياباني في عام 2010. وبأن تتم تجربة مواده في الفضاء مع بداية عام 2011، وسيجرب المصعد بعد تكملة تصميمه في المختبرات اليابانية مع بداية عام 2016، كما ستجرب جميع المواد المستخدمة والمحركات التشغيلية في الفضاء عام 2021. وسيبدأ بنائه خارج اليابان، وفي جزيرة قريبة من خط الاستواء، مع بداية عام 2021، ليكتمل في عام 2030، وستبدأ رحلاته التجارية الفضائية في عام 2031 ولمدة خمس سنوات، وبعدها سيتم التقييم الشامل للمشروع. فهل تصدق عزيزي القارئ إمكانية تحقيق هذا الحلم؟ وهل ستجده حقيقة منفذة في أحد دول العجائب في خليجنا العربي وبتمويل دولي؟ وهل من الممكن تصور ما سيدخله هذا المشروع على دول المنطقة من الغناء المادي والثراء التكنولوجي؟
سفير مملكة البحرين في اليابان