تمكنت الحكومة العراقية و أجهزتها الأمنية من الكشف عن المسئولين عن جريمة اغتيال النائب الصدري صالح العكيلي بنجاح غير معهود و بكفاءة مهنية نادرة بعد أيام قليلة من اغتياله حسب ما نشر في وسائل الأعلام الرسمية، لكن الحكومة نفسَها و الأجهزة الأمنية نفسَها لم تستطع التعرف على القتلة في قضية اغتيال كامل شياع المفكر اليساري العلماني الذي اغتيل قبل فترة ليست بالقصيرة من اغتيال صالح العكيلي فقد اغتيل النائب الصدري صالح العكليلي في 9 اكتوبر 2008 و أعلن إنه تم الكشف عن القتلة في التاسع عشر من نفس الشهر أي أن الحكومة و أجهزتها الامنية قد احتاجت إلى عشرة أيام فقط للقيام بذلك، أما مستشار وزارة الإعلام كامل شياع فقد اغتيل في الـ 23 من أغسطس آب من نفس السنة و لم يتم الكشف عن القتلة حتى الآن و لا توجد معلومات على ان الحكومة تسعى لذلك أو أن تقدما قد تحقق رغم المطالب العديدة على الصعيد الشعبي.
ورغم ان الحزب الذي يشغل كامل شياع مركزا قياديا فيه هو حزبٌ مشاركٌ في العملية السياسية و الحكومة و البرلمان فإن الحكومة غير معنية بالكشف عن القتلة.
قبل اغتيال كامل شياع بفترة قصيرة كان رجل دين مقيم في دولة مجاورة يشارك أتباعه في السلطة بنشاط و يمتلكون إلى جانب ذلك ميليشيا نافذة قد تعهد بتصفية العلمانيين. قادة دينيون سياسيون يشاركون في العملية السياسية و لهم تمثيل في البرلمان يهددون اطرافا اخرى بالتصفية الجسدية دون احتجاج حتى من قبل الجهة المستهدفة.
عدا ذلك كان العشرات من العلمانيين و اليساريين قد قتلوا بصمت مريب من الحكومة في العراق، بعضهم كان مستقلا و البعض الآخر كان ينتمي الى الحزب الشيوعي المشارك في الحكومة. لم تجهد الحكومة في الكشف عن القتلة حتى الآن و كأن من طبيعة الأشياء ان يقتل يساريون و علمانيون في ظل حكم ثيوقراطي غير معلن، و لا تحتاج الحكومة و الميليشيات التابعة لها بأن تعلنهم كفرة و لكنها تتعامل معهم على هذا الأساس بينما تحصر إطلاق نعت quot;التكفيريينquot; كما تشاء على إرهابيين من نوع آخر لا ترغبهم على عكس إرهابيين آخرين مرغوب فيهم.
و القارئ يعرف كم من المفكرين تم اغتيالهم في فترات سابقة في لبنان و العديد من الدول العربية و الاسلامية بسبب الفكر و ليس غيره. و كما أتضح من مثال العراق و لبنان و دول أخرى فان الأمر لا يتعلق بخلاف فكري يستدعي الحوار و الدحض و إنما هو مسعى من اجل الإجهاز على الخصوم بواسطة التصفية الجسدية الشيء الذي لم يثر حفيظة رجال الدين في العراق و لا الساسة الذين يسيرون على خطاهم.
بدا واضحا من هذا المثال و أمثلة أخرى أن التكفير و بالتالي التصفية الجسدية لم يكن أبدا حكرا على طائفة دون أخرى و إن الإرهاب هو فعل عابر للطوائف و الأديان و القوميات.
إن ما أعلنته الجهات الرسمية في الصحف عن الكشف عن قتلة العكيلي قد يكون على الارجح ملفقا لامتصاص نقمة التيار الصدري إلا أن نفس الحكومة التي يشارك فيها رفاق كامل شياع لا ترى ان ثمة داع حتى للتلفيق بشأن اغتياله لأن الأمر، من وجهة نظرها، لا يستحق حتى التلفيق.
الموت و الانتماء
اليساري الذي انحاز إلى الطائفة و ألقى عن كاهله quot;العبءquot; الفكري السابق هو من طراز أولئك المثقفين اليساريين الذي هزتهم و أربكتهم التغييرات التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي و خصوصا سقوط تجربة ضخمة مثل تجربة الاتحاد السوفييتي و المنظومة الاشتراكية، تلك التجربة التي كانت تشغل لدى أمثال هؤلاء المثقفين حيزا كبيرا و متكأ راسخا في تكوينهم الفكري جعلتهم منهمكين بتبرير سلوكها و تاريخها دون نقد أو مؤاخذة. الصدمة كانت كبيرة لأن عيونهم و فكرهم تعودا على رؤية و إدراك ما هو ايجابي فقط و بذلك فإن فكرهم كان مهيأ أصلا للإيمان اليقيني بغض النظر عن اللبوس التي يتلبسها.
مثل هذا البناء الفكري هو من النوع الذي تعود على الثنائيات الخالصة النقية حيث يجتمع الشر و الخير الخالصان كلٌ في جانب منفصل.
إنه طرازٌ فاقد للاستقلالية تربى ضمن اطر الأحزاب اليسارية التقليدية التي نزعت عنه المبادرة، لم يجرؤ على مجرد الظن بأنها معرضة للخطأ، تتسم سيكولوجيته بعدم القدرة على تكوين نظرة مستقلة عن العالم المحيط به، إنه الباحث عن ملاذ جماعي، الخائفُ من فكرة الحقيقة و طريقها المنفرد الموحش، المرتعبُ من عزلة المبشرين بها، لأنه لا يستطيع الاستغناء عن كينونة علوية يركن إلى حكمتها.
يوجد وسطٌ ليس هينا من المثقفين تم قتل الاستقلالية و المبادرة لديه، تقليم طموحه بمنهجية عن طريق الإمعان في إذلاله لكي لا يتمرد و لا يتساءل و لا يشكك، فبات متعودا على الأبوية في العلاقة الفكرية، يكثر من الاقتباسات الحرفية في الكتابة وفي التفكير و في السلوك، يُكثر من الولاءات إلاّ لنفسه، يخاف من اتهام السياسيين له بالنرجسية فيفقد الاعتداد بالذات و الثقة فيما توصل إليه من أفكار تخرج عن الإيقاع التقليدي المكرر، يتماهى مع ما هو سطحي و عابر، لا يكترث كثيرا لبحثه الخاص، يشعر دائما إنه يتيم في ظل غياب ما يرغب أن يجده راعيا الى جانبه: ذات يراها كلية القدرة، ممتنعة عن الهفوة، تمد يد المساعدة عند الشدائد، يقينية المعرفة حد التقديس.
تتبدل و تتغير تمظهرات الأبوية لديه: أبوية الحزب، أبوية الفكرة الواحدة، ابوية دولة كبرى تحولت لديه الى منظومة فكرية أو أخيرا أبوية المرجعية الدينية. استبدال الراعي إلى ما لا نهاية مرتبط بفقدان دائم للاستقلال و الشعور الملازم بضآلة الشأن إزاءه.
رغم اختلاف مصادر الأبوية المبتغاة و ربما تناقضها و اختلاف أهدافها إلا إنها في كل الأحوال تتوحد لديه في الأداء الوظيفي أي تحقيق الغرض المتمثل في تلبية الحاجة إلى سد النقص و الفراغ الناشئ عن الشعور بالوحدة و الهزيمة الداخلية.
و في كل الأحوال يفتقد هذا النموذج من المثقفين إلى الشرط الأساسي للمثقف: الاستقلال و القدرة على البحث الذاتي المعتمد على التجربة الحسية و الذاكرة و التاريخ الشخصي و تعميم قوانينها و استنباط أحكامها و إعادة تحليل المسلمات باستمرار.
ليس ثمة فيما سلف من تحليل دعوة للمثقف إلى الانعزال عن كامل المنجز المعرفي للبشرية و لكنها دعوة إلى استعمال هذا المنجز للبناء عليه و ليس الإذعان غير المشروط له و الارتكان إلى ظله، أي استعماله للوصول إلى الحقيقة الخاصة، فلا قيمة لأي فكر لم يتوصل إلى حقائقه الخاصة. فحتى في مجال الفكر الاشتراكي لم يستطع احدٌ أن ينهض به و بأعباء تطويره ما لم يتخل عن ما هو مقدس و خالد و ثابت لدى من سبقه من مفكرين.
الذيلية الأبوية تكتسب ملامح إضافية في المجتمع الشرقي الذي لا يزال يتوفر على أبوية اقتصادية و تسوده علاقات بطريركية و شبه إقطاعية. و اذا ما كانت الأفكار تحمل استمرارية تجعلها تدوم أكثر من مقدمات نشوءها، و اذا ما كانت هذه الأفكار في المجتمعات المتطورة هي أفكار عابرة في طريقها إلى الزوال، فإن العلاقات الأبوية الشرقية نجدها معززةً بقاعدة اقتصادية و تراث ديني و طائفي ترغب بالمقدس و المعصوم من اجل تكريس كسل اجتماعي يجنّب أوساطا واسعة مشقة التفكير و الوصول إلى الفكرة الخاصة.
موقف رجال الدين من الإصلاح الزراعي في العراق على وجه الخصوص و موقفهم المعادي لأي شكل من أشكال الحداثة بشكل عام نابع من ادراكهم أن الاستقلال الاقتصادي يحدث شرخا في العلاقات الأبوية المحكومة بالطاعة العمياء القائمة على الإكراه الاقتصادي و بزوال مثل هذه العلاقات يتوفر الشرط الأولي و الاقتصادي للمبادرة و الاستقلال الفكري (ربما من الأفضل دراسة ثورة العشرين على ضوء بعض هذه المقدمات).
نجد هنا طرفين راغبين في التجهيل أو التحييد: مصدر الإملاء الأبوي، الراعي، الذي يشكل ركن الاتكال، الذي يرغب أن يكون متبوعا من جهة، و المتكل الراغب أن يكون تابعا من جهة أخرى. هناك من يفكر بالنيابة عنك، لماذا تجهد نفسك، هناك من يحدد لك ما هو الحلال و ما هو الحرام و يرشدك إلى طريق الجنة، و الحزب أو القائد يرشدانك إلى ما هو صحيح في مجال السياسة، أنت وحدك لا تستطيع!
لا يمكن لأي إطار حزبي مهما بدا ليبراليا و منفتحا أن يستوعب إلى ما لا نهاية مفكرا حقيقيا مستقلَّ التفكير إلا كاستثناء و ضمن حالة من الصراع و عدم الانسجام. حتى في أوربا التي حققت تقدما في مجال الفكر و قبول الرأي الآخر و تقاليد الديمقراطية عموما يجد المثقف نفسه في بيئة غريبة في حالة انتمائه إلى حزب ما و يكون دائما في حالة صراع مرير مع الساسة.
ضرورة التنظيم الحزبي من اجل التغيير من جهة و مساوئه (بصفته قاتلا للفكر) الحر من جهة أخرى يحملان دائما صراعا أزليا، فالعلاقة بين المفكر و بين أي حزب أو منظمة تمثل لحظة عابرة و مكبِّلة في حياة المثقف، و لكنها بنفس القدر تمثل لحظة إزعاج و استنفار في حياة الحزب وشعورا بالخطر يهددquot;الوحدة الفولاذية quot; و الهدوء الداخلي.
تقود جدلية الفكر وميله إلى تطوير نفسه إلى تناقض حاد حالما يفكر هذا النموذج في المزيد من تعميق ما لديه أو في المزيد من محاولات الوصول الى حقائق جديدة، فيجد نفسه في تناقض مع المقدس و المعصوم فيقف على مفترق الطرق و يكون أمامه خياران أحلاهما مرٌ بمعيار التفكير الحر:
الاول: النكوص و التراجع و الاكتفاء بما تحقق فكريا حتى الآن فالحاجة إلى الأبوية، حزبية، دينية طائفية.. الخ تتغلب على نداء الحقيقة و تتناقض مع ما توصل إليه، إنه مشدود بقوة إلى الحاجة الى جهة لا تخطأ تعطيه الشعور بالاطمئنان، إلى أن ثمة ملجأ ما يغنيه عن الإيغال في البحث المرهق عن الحقيقة.
الاستمرار في الكتابة أو التفكير المعلن أو الفعل الثقافي أيا كان شكله هنا و ضمن هذه الشروط يصار فيه إلى اللف و الدوران، إلى تكرار المضمون و الثرثرة و تغييرات محتملة في الشكل لا غير.
الثاني: الاستمرار في تطوير الفكر دون الخوض في النقاط الساخنة و السكوت عن الاستنتاجات المحددة الملموسة، القول مثلا بالعموميات حول نسبية الحقيقة و عدم امتلاك احد ما، أيا كان، إياها. تلك العمومية التي تمس الحقيقة مسا خفيفا تستعمل كغطاء يحول دون المساس بالرموز الحاملة للعصمة السياسية و الدينية، دون تسميتها على الأقل، دون القيام بجهد لمراجعة التاريخ و تأشير أسس الخلل و إعادة تقييم المحطات العامة للتاريخ المأساوي و محاولة التنقيب عن جذورها.
إحدى تجليات هذا الموقف الفكري الهروبي تكون مثلا باعتماد الجبرية التاريخية التي ترى أن ما جرى لا يمكن تغييره لذا ينبغي السكوت عنه.
هذا الاتجاه الخطر في الفكر الساعي الى العموميات دون تحديد الجهات و المحطات التي صنعت تاريخنا الدموي لهي أشد خطرا من الصمت وقد شكلت حتى الآن تراكما كبيرا من المسكوت عنه من أخطاء و أحكام لا تزال تعيد انتاج الكوارث.
كامل شياع
أتجرأ على القول أن كامل شياع لا ينتمي إلى هذا الطراز من اليساريين و كما يبدو أيضا فإنه يمتلك قدرا كبيرا من التفكير المستقل و الطموح.
اعترف بأنني لم أعرفه او أقرأ له شيئا الا بعد اغتياله، فوجدت في أفكاره و لغته شيئا خارجا عن السياق العام، لكن المعرفة المتأخرة لا تمنع من أن أتناول الموضوع من زاوية أخرى ليس على سبيل استنكار اغتياله أو نعيه الذي ساد مواقع الانترنت بشكل طاغٍ، هذا الاستنكار و النعي الذي يُمارس منذ ربع قرن و نيف كما تتسع ذاكرتي و اكثر من ضعف هذا الوقت كما تتسع ذاكرة من هم قبلي.
الاستنكار و الاحتجاج اللذان داما ديمومة الموت نفسه هما العزاء الوحيد الذي يمكن تقديمه للراغبين بتجنب التساؤل عن سر دورة الدم التي تبدو بلا نهاية. لم يكن ثمة من يستطيع أن يرشدنا إلى طريقة للخروج من دائرة الموت، ولم يكن ثمة ما يمكن القيام به سوى الاحتجاج و المطالبة. أصبح هذا الإحتجاج على الموت امرا عبثيا و مملا، انه لا يستطيع أن يعيد لنا من فقدناه و لا أن يوقف عجلة الموت و لا أن يمنعها من أن تلف آخرين مدرجين على القائمة، و بدا أيضا أن الهدف الرئيسي من تصعيد الاحتجاج ليس من أجل التضامن مع الفقيد و مواساة عائلته فهذا في كل الأحوال أمر ثانوي و تقليدي يمارسه المجتمع في كل حالات الموت الطبيعي الذي يصيب عامة الناس صغارهم و كبارهم، كما أصبح مؤكدا ان الاحتجاج لن يلعب دورا في العثور على القاتل أو أن يثقل ضميره.
الاحتجاج و الاستنكار الذي لا يفعّل آلية تعقب المجرمين و الذي لا يحشد القوى من اجل وضع حد نهائي للخسارات المأساوية منذ ما يقارب نصف القرن ليس سوى تغطية على العجز و الشلل في الانتصاف للمثقف المقهور المقصي أو المقتول. إنها محاولة لامتصاص النقمة لدى المثقفين الذي لا يزالون على قيد الحياة حين يتململون، محاولة تسعى إلى إلهاءهم عن السؤال الوجودي: ماذا نفعل لكي نحتفظ بحياتنا و حريتنا في وقت واحد؟
نعرفه فقط حين يموت
و لكن أين كانت وسائل الاعلام قبل اغتيال كامل شياع؟ و لماذا كان مُتجاهلا كليا؟ لماذا فقط بعد الفقدان أشير إليه كمفكر ثم على وجه التحديد quot; حداثي quot; و quot; علماني quot;؟ لماذا لم يشر أحدٌ إلى ذلك قبل هذا الوقت أو أنه كان من النزر اليسير جدا؟ سيجد الباحث في ماكنة البحث كوكل أن الفقيد قد حظي بتغطية اخبارية رائعة و كتب عنه الجميع، الذين يعرفونه و الذين لا يعرفونه، و لكن هذا حدث فقط بعد اغتياله، أما قبل اغتياله فلم يُنشر له شيء تقريبا فلم اجد له سوى ثلاثة مقالات منشورة، واحدة منها فقط في حياته، عدا ذلك لا أحد كتب عنه أو حلل افكاره و لكن الجميع هرعوا إلى رثائه أو الكتابة عنه بعد موته فقط.
أبحث معي في كوكل و ستجد:
quot;كامل شياع، اغتيال الكلمة quot; /quot; من قتل كامل شياع؟ quot; / quot; مرثية كامل شياع quot; / quot; بغداد تشيع مستشار وزارة الثقافة quot; / quot; كامل شياع أبدا تعبق برائحة الحياة quot; / quot; كامل شياع سيظل بيننا quot; / quot; كامل شياع اغتيال عقل اغتيال مشروع للإنسانية quot; /quot; أربعينية الشهيد كامل شياع quot; /quot; في سيرة الفقيد كامل شياع quot; (لماذا لم يكتبوا سيرته قبل أن يصبح فقيدا؟) /quot; نم بهدوء يا رمز الثقافة يا كامل شياع quot; /quot; حفل تأبيني للشهيد كامل شياع quot; /quot; مسرحية عراقية تحتفي بالشهيد كامل شياع quot; (لماذا ليس في حياته) /quot; مرثية النخيل مرثية كامل شياع quot; / quot; هذه اللحظة كلنا كامل شياع quot; (و قبلها؟؟!) /quot; كامل شياع ميدالية شرف ا لكلمة quot; (و قبل الاستشهاد؟؟!) / quot; كامل شياع، الكمر ما غاب quot; شعر شعبي quot; / quot; كامل شياع مثقفا..و مناضلا.. و شهيدا!quot; / quot; كامل شياع يا نجمة ثقافة بالأفق تزهي quot;... الخ الخ الخ.
لاحظوا! لقد اصبح كامل شياع نجمة ثقافة تزهي (تزدهي) في الافق بعد اغتياله! لكن الشاعر لم يكتب انه كان يزهي في افق الثقافة العراقية و هو على قيد الحياة، بل هو ربما لم يكن يعرفه اصلا و انه من المؤكد لم يقرأ عنه أو له، الموت وحده هو الذي يشير عمن يجب أن نكتب عنه، الحياة لا تدل.
الشهداء لا يموتون
و هكذا تستمر استعارة الخطاب الغيبي حيثما كان ذلك ضروريا، فالشهداء لا يموتون بالنسبة للذي يدعي المادية أيضا! و ما الضير طالما ذلك يخدم؟ بوسع أيٍ شاءَ أن يموت و لا أهمية للعثور على القاتل و لا داعي للسؤال عن امكانية إيقاف ماكنة الموت كل ما علينا هو تبشير الأحياء بالخلود إذا ما قدّر لهم و اغتيلوا طالما كنا غير قادرين على ضمان حياتهم او تعقب قاتليهم. ألم تتوصل الثقافات القديمة إلى ابتكار فكرة المنقذ المخلّص الذي لن يكون بمستطاع احد قبل مجيئه إنقاذ البشرية من الشرور، على أن يكون العزاء في الخسارات في أن الذي قتلوا في مقارعة الظلم انهم لا يموتون؟ المطلوب إذن الصبر و الانتظار و لا داعي للفزع فالموت خلود. أقرأ معي رجاء:
ما ماتَ quot; كاملُ quot;
إنَّ quot; كاملَ quot; لا يموتْ!
مادارَ َ دولابٌ وغـَنـّى مِـنـْجَـلٌ
وتوضـَّـأتْ بالشـمـس ِ أبوابُ البيوتْ
ثقافة الموت و الخلود لا ترغب في أن تمس حقيقة مرة و مأساوية و هي ان الموتي مغادرون إلى الأبد خسرهم الأبناء و الأحفاد، أسرهم و أصدقاءهم، خسروا فيهم فرادتهم و أن لا احد يستطيع أن يعوض عنهم و إلى الأبد، ان هؤلاء الكتاب، الشعراء منهم على وجه الخصوص يجردون الموت من وجهة المرعب المريع ثم يقومون بتمجيده، انهم يجنبون أنفسهم ان يتصوروا لمرة واحدة كيف أن الزوجة تنفرد بذكرياتها في الليالي الموحشة و تفتقد دفء الزوج و الصديق و تفكر انه لن يعود، لن يعود ابدا. كيف أن الاولاد الصغار الذين لا يعرفون ان الموت هو عدمٌ محضٌ سوف يُوعدون بعودة ابيهم قبل أن يدركوا في يوم ما الحقيقة التي لا يمكن اغفالها إلى الابد. الأب و الام الثلكي اللذان يتذكران ابنهما طفلا صغيرا ابدا يلعب ببراءة و لا يكبر...
يٌسقِط شعراء و كتاب الايديولوجية المكرورة الوجه البشع للموت و يكررون نغمة الخلود التي سأمنا سماعها.
الكثير من الاعزة من الذين فقدناهم ليسوا سوى أرقام بالنسبة لثقافة الطغاة التي شنت الحروب و مجدت من أجل ذلك الموت و تآلفت معه على أن لا يصيبهم و حاشيتهم.
و لكن كيف يتآلف مع الموت من يفترض أن يكون مع الحياة؟ لقد حرفت الكلمات لكي تجمع بين الشيء و نقيضه فكامل شياع كما كُتب و رُوي، في خطابنا المكرر المستهلك التعبوي، هو الآن اكثر حياة من أي وقت مضى.