(من لا يتلقى ثقافة رفيعة، لا يمكنه إصدار أحكاما رفيعة)بورديو

في التشوهات القصوى التي تفرد بقلوعها على الواقع العربي، يكون السؤال الملح عن هذا الغياب المفجع لكل ما هو رفيع و أصيل وراسخ و مميز، حيث التسرب للقيم الشوهاء، تلك التي تقوم على الإقصاء والإبعاد والإقصاء والإلغاء، فيما يظل (الإنسان) موضوعا غائبا وبجدارة، وسط اللهاث و الانجرار نحو انجاز ما يمكن انجازه من اصطفافات وتحزبات وتجمعات ومحاصصات لا غاية فيها سوى تحقيق الهدف الآني والقائم على تحقيق شعار (أنا ومن بعدي الطوفان).
هذا الطوفان الجارف الذي راح يتفرد ويرخي بنوائبه ورزاياه على المجمل من القيم، حتى غدا بمثابة الأصل، فيما انحدرت القيم الأصيلة لتغدو بمثابة المفاهيم المنقرضة والتي لا يبعث ما فيها سوى الرثاء والأسى والبكاء على الأطلال. وهكذا يتبدى الواقع حيث لا شيء سوى العويل والرثاء والبكائيات والصراعات والاجترار والوهن والضعف والخوار والخوف من هذا القادم، الذي يطلقون عليه المستقبل، فيما راح يُسمى في الواقع العربي (مجهولا). إنها الانبعاثات الواهنة للمجمل من المخزون الكئيب الذي تترصده نزعة الكآبة وقلة الحيلة والاستسلام للقدرية المحتومة.

من أين وإلى أين؟!
كان الجيل العربي السابق القريب يتداول الكتاب، بشغف ومحبة ملفتة، كانت القراءة مسؤولية وتقديرا للذات، هذا على الرغم من نخبويتها(إذا جاز لنا التعبير)، فأين من هذا الجيل العربي الراهن؟ وبالقدر الذي تتحصل عليه القراءة بوصفها فعلا مهما، و(أن من لا يقرأ هو إنسان مشوه) بحسب بورديو، فإن الفاصلة تبقى تدور في فلك الثنائية القائمة بين الوعي والوجود الاجتماعي، وما بين البيضة والدجاجة يكون السؤال منفتحا، على الكم الهائل من الخوار و قلة الحيلة، فيما تبقى الأمم الأخرى تعمل وتسعى وتجتهد وتصارع، وتتفوق. هذا على الرغم من السيل الجارف والمروع للأزمات والتحولات والانتقالات. أمم باتت تتربع المكانة البارزة في قياد العالم، بعد أن كانت في الأمس القريب توصف بالمتخلفة والمتراجعة، و هاكم تجارب النمور الآسيوية، وماليزيا، فيما تتصدر مسار المشهد العالمي اليوم تجربة الصين والهند، حيث التنمية في أقصاها، إن كان على صعيد المسار الاقتصادي أم التقاني.
في الدقائق الست التي يقرأ فيها العربي على مدار العام الطويل والممل، يكون أس الإشكال، وما بين الأربعمائة كتاب الموجهة للطفل التي تصدرها المطابع العربية، والثلاثة عشر ألف ومائتان وستون كتابا المخصصة للطفل، تلك التي تنتجها المطابع الأمريكية، يكون الفاصل المفجع والمخيف، لترصد التشوهات ومحددات الوجود الاجتماعي والوعي.

في الرهان على المستقبل
أين تكمن الأزمة في الواقع لعربي، وما هو الإشكال البنيوي العميق الذي يترصد العقل العربي، هل الأزمة سياسية؟ اجتماعية؟ اقتصادية؟ ثقافية؟ بل وحتى التكنوقراطي المتخرج من أرقى الجامعات والمعاهد العلمية في العالم، يبقى يعيش لحظات الاغتراب، في ظل الوسيط البيئي الذي يعاني من الانقطاع وعدم التواصل، فأين ياترى ملامح الذوق الرفيع، هل تكمن في الاستماع إلى السيمفونيات والموسيقى الكلاسيكية، أم في توزيع مفردات الرطانة التي تعلمها في بلاد المهجر، أم في البدلة الأنيقة المستوردة التي يرتديها، أم في الأفكار التي يتم طرحها على وعاء عقلي مختلف، لم يتلق في حياته العملية سوى التلقين والتحفيظ والترديد الجاهز.
هل وهل وهل؟ حتى ينقطع النفس من ترداد هذه الـ (الهل) التي باتت تدور في الفلك والفضاء العربي حتى أشبعته ترددا و (وهنا) فوق هذا (الوهن)القابع والراسخ في النفوس. وإذا كان الوجود العربي اليوم يعيش حالات التردد والضعة المريرة، فإن العلة لا يمكن أن يتحمل تبعاتها سياسيا أم مثقفا أم اقتصاديا أو حتى مجتمعا برمته، بقدر ما تقوم القضية على أهمية البحث في الوسائل والمراجعات الأصيلة والراسخة، الساعية والباحثة عن جدوى التغيير والتحول. وما (التعليم المتجدد) حيث إعمال العقل و تفعيل ملكات التفكير الجاد والمسؤول، وبذل الجهود السخية والإعلاء من قيمة العمل، النائي عن الكسل والجاهزية، والمقررات المدرسية المكتوبة والمعدة سلفا من اللجان، التي لاتنتج سوى لجان ملحقة، التعليم إنما يقوم على التطوير للسلوكيات والمهارات، والتجريب، والاندماج في عصر ثورة الإنفوميديا، والتأهيل الساعي نحو تطوير المستوى، في جو من التسامح والتفاعل العميق مع المجتمع.
ومع أهمية الإقرار بالاختلاف القائم بين المجتمعات و قيمها السائدة، فإن البحث في الأسس الباعثة على التغيير، تبقى بمثابة الطريق الأمثل نحو الحفز و تفعيل الحراك الاجتماعي، وإذا كان الحديث يدور عن(الذوق الرفيع) بوصفه مسارا وإدراكا للمقومات الطالعة نحو التبدلات والتحولات، فإن الأمر يبقى يقوم على أهمية تقديم الفاعليات الأساسية، تلك التي تستنبط مسار (التعليم والتدريب)، بوصفه الأصل الراسخ و المتجذر في صناعة الأجيال، وفي هذا يقول واطسون؛ (التدريب له القدرة في صناعة الشحاذ والفيلسوف)، ومن هذا أيضا انطلقت الصرخة الأمريكية حول (مستقبل الأمة في خطر) بعد أن كشف الخبراء التربويون عن الفجوة التعليمية التي راحت تعاني منها الولايات المتحدة مقارنة مع الأمم الأخرى، لا سيما على صعيد مناهج تعليم الرياضيات والعلوم. لقد كان الترصد باعتبار أن الآخر هو القادر على جعلي واعيا بذاتي، كما قرر ذلك سارتر. ومن هنا تبدو أهمية المراجعة النقدية النائية بنفسها عن المسلمات والتقريرات التأكيدية والقبليات. إنه البحث في الوعي والتأكيد على قيمة الموهبة، من دون السقوط في دوامة التوزيعات الجاهزة، ومن هنا كان الربط بين التدريب والتعليم، بوصفهما الطريق نحو الاستثمار الأهم والأمثل في خلق الجيل القادر على تحمل المسؤولية في مواجهة المستقبل.، حيث الصناعة الراسخة والعميقة لمعنى الذوق الرفيع، بنسخته المعدلة والجديدة، القائمة على (تعزيز مسار الإنسانية والإعلاء من قدرها ومكانتها)
[email protected]